لحساسية منصبه، وموقعه القانوني والقضائي، لم يتجرأ الإعلام العراقي على الحديث عن قوّة وتأثير رئيس المحكمة الاتحادية العليا السابق، مدحت المحمود، الذي عُد الرجل الأقوى والأكثر تأثيراً في المنظومة القانونية والقضائية في العراق خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وكان المحمود الرجل الثاني في وزارة العدل قبل الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 بسبب قربه من د. منذر الشاوي آخر وزير عدل في عهد صدام حسين، فكان أحد صناع القرار التشريعي والقانوني حتى في الثمانينيات، وكان لاعبا أساسيا في التشريعات التي صدرت تحت ما تعرف بالثورة القانونية، التي نفذت حينها في إطار إصلاح النظام القانوني، وبسبب كونه رئيس مجلس شورى الدولة المسؤول عن الإفتاء والصياغات القانونية والقضاء الإداري.
أُزيح المحمود مؤخرا عن الساحة القانونية والقضائية بعد أن كان لاعبا مؤثرا فيها، وأحيل مع أعضاء فريقه على التقاعد بعد أن صوّت البرلمان العراقي على تعديل القانون رقم 30 لسنة 2005، الذي حدد أعمار الأعضاء بـ72 عاما كحد أقصى.
سيرته ومحطات عمله
تخرّج المحمود المولود ببغداد عام 1933 من كلية الحقوق بدرجة شرف للسنة الدراسية 1958-1959، وخدم في الجيش العراقي كضابط احتياط، واجتاز عددا من الدورات الدراسية القانونية والقضائية خارج العراق، وتولى العديد من المناصب القضائية في العراق منذ عام 1960، وأبرزها حين كان رئيساً لمجلس شورى الدولة في عهد صدام، ووزيرا للعدل في 12 يونيو/حزيران عام 2003، ومن ثمّ نائبا لرئيس محكمة التمييز، وبعدها رئيساً لمحكمة التمييز الاتحادية، ورئيسا للمحكمة الاتحادية العليا في 30 مارس/آذار 2005، ورئيسا لمجلس القضاء الأعلى.
يعدّ المحمود أحد أكبر خبراء القانون على مستوى العراق والمنطقة العربية بمجال قوانين الأحوال الشخصية والمدنية في الجامعة العربية، وعمل أستاذا محاضرا في المعهد القضائي لمدة 26 سنة في مادة قانون المرافعات المدنية وقانون التنفيذ وقوانين التنظيم القضائي، وأشرف على العشرات من البحوث القضائية المقدمة من القضاة للترقية العلمية، ونشرت له العديد من البحوث القضائية في المجلات العربية المتخصصة.
وللمحمود من المؤلفات الكتب القانونية الآتية: شرح قانون التنفيذ بـ3 طبعات، وشرح قانون المرافعات المدنية بـ3 أجزاء، ودراسة استعراضية للقضاء في العراق بـ3 طبعات، وهو عضو مؤسس للمركز العربي للدراسات القضائية والقانونية في عمان، وعضو المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة في بيروت.
جدل الكتلة الأكبر
مارس المحمود بعد 2003 أدوارا أهم وأخطر وأكثر تأثيرا؛ لأنه ترأس مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز الاتحادية، وكان هو صانع القرار الأوحد في أوضاع السلطة القضائية الاتحادية وطبيعة إطارها القانوني والإداري حتى عام 2014، كما يقول القاضي رحيم العكيلي.
كما أنه -يتابع العكيلي- بحكم كونه رئيس المحكمة الاتحادية العليا التي فصلت في اتجاهات الدستور وفي تفسيره، بما أثر بشكل كبير في الوضع السياسي حيث كانت تلك المحكمة لاعبا أساسيا وحاسما في الفصل بقضايا خطيرة مثل تفسير الكتلة الأكثر عددا، والتي نقلت الحق بمنصب رئيس الوزراء من قائمة إياد علاوي الفائزة آنذاك بالمرتبة الأولى بـ91 مقعدا في انتخابات 2010 إلى قائمة نوري المالكي التي جاءت ثانيا، والتي تعرّضت المحكمة بسببها لانتقادات كبيرة واتهامات بمجاملة جهة سياسية على حساب أخرى.
ورافقت المحمود خلال الـ18 سنة الماضية أسئلة كثيرة ومثيرة، أبرزها ما السرّ بعدم إقالته بالرغم من اتهامه بأنه من أعوان حزب البعث المنحل؟ وهل فعلا استغل منصبه ووظّفه لاتفاقات وملفات سياسية؟ وما احتمالية دعمه خارجيا؟ وهو أمر أشيع في العراق بعد 2003، لا سيما بعد أن أصدرت هيئة المساءلة والعدالة قرارا بأكثرية الأصوات باجتثاث المحمود عندما كان رئيس المحكمة الاتحادية العليا في 13 فبراير/شباط 2013 لشموله بقانون الهيئة رقم 6 الفقرة 9 من قانون المساءلة والعدالة.
وفي العام نفسه، اتهم النائب السابق في البرلمان العراقي صباح الساعدي مدحت المحمود بأنه “صنيعة صدام”؛ كونه رفع شعار البيعة الأبدية من خلال الانتخابات التي أجريت عام 1995، والتي قال المحمود فيها كلمته الشهيرة إننا ندعو الرئيس الأميركي -آنذاك- جورج بوش ليتعلم الديمقراطية من صدام حسين، كما دعا إلى إعلان البيعة الأبدية لصدام بعد فوزه بنسبة 100% في الاستفتاء عام 2002.
ويعزو العكيلي سر عدم إحالة المحمود على التقاعد قبل قرار البرلمان رغم تجاوزه الـ88 عاما؛ لوجود نص قانوني في قانون المحكمة الاتحادية العليا ينص على أنه وباقي أعضاء المحكمة يحتفظون بعضويتهم فيها مدى الحياة، والذي سايرت فيه المحكمة في العراق ما نصّ عليه قانون المحكمة بالنسبة للمحكمة الأميركية العليا المناظرة.
ولعل السبب الثاني هو ذكاء وحنكة المحمود في إدارة أعماله بما يُجنّبه الاصطدام مع أي جهة سياسية قوية قد تؤثر على بقائه في السلطة والنفوذ، حسب العكيلي -وهو أحد تلامذة المحمود، وعمل قاضيا في المحاكم العراقية بين1997-2013، ورئيس هيئة النزاهة 2008-2011- إضافة الى امتلاكه كاريزما شخصية وقدرات علمية معروفة، فهو آخر القضاة من العصر الذهبي للقضاء العراقي في السبعينيات والثمانينيات، ورغم أنه ليس أبرزهم علميا؛ لكنه أكثرهم ذكاء وحنكة.
وفي رده على سؤال للجزيرة نت عن سبب عدم إقصاء المحمود من مناصبه تطبيقا لقانون اجتثاث البعث، يقول العكيلي إن المحمود شُمل باجتثاث البعث بتأثير قوة سياسية شيعية كانت تتهمه بأنه يُجامل المالكي، ويحرص على أن تتناغم قراراته ومواقفه مع ما يريده؛ لكن القوى السياسية المناظرة كانت من القوة بحيث تمكّنت من إعادته وإلغاء اجتثاثه، خصوصا أنّ الطعن في القرار كان أمام قضاة تابعين له ومحسوبين عليه، فألغوا قرار اجتثاثه.
من يدعمه؟
ويؤكد العكيلي أن القوى الشيعية السياسية كانت حريصة عليه، ومكنته من الاحتفاظ بمناصبه المتعددة، والتي شغل بعضها رغم الطعون القانونية والدستورية عليه، ووجود انتقادات وجدل قانوني واعتراضات على مواقفه واجتهاداته؛ لأن تلك القوى معروف عن أساليب إدارتها للحكم بأنها تحرص على الإبقاء على من يحقق مصالحها، وتزيح من طريقها من يقف ضدها أو لا يستجيب لمصالحها، ولعلها في ذلك لا تختلف عن غيرها من قوى الحكم في العالم الثالث.
ويرى المحلل السياسي العراقي د. محمد نعناع أن الأطراف السياسية قادرة على تعويض غياب المحمود في المحكمة العليا بشخصية مقربة منها، حتى يستمر المسار القانوني الذي خدمها طوال السنوات الماضية، مشيرا إلى أن هذه الرؤية السياسية الداخلية تتفق مع رؤية إيران، التي تحاول توظيف حضورها السياسي والأمني والثقافي في العراق للتأثير على الهيكلية القضائية؛ لكنها تجد مقاومة في هذه الفترة بسبب المنافسة الأميركية ونضوج بعض الخبراء والقضاة العراقيين.
وبحسب نعناع، كان تكريس المحاصصة عن طريق تشكيلة مجلس الحكم الخطأ الأكبر لواشنطن في العراق؛ وما زاد الطين بلة تفسير مدحت المحمود للكتلة الأكبر عام 2010؛ مما قطع الطريق على القائمة العراقية بزعامة علاوي بعد فوزها في الانتخابات البرلمانية، وكذلك قبول الطعون التي قدمها نوري المالكي بشكل متكرر، مما يظهر تأثيرا كبيرا لمدحت المحمود في معادلة السلطة.
ويُدافع القاضي منير حداد إلى حد ما عن المحمود حول اتهامه بالانتماء لحزب البعث المنحل، ويقول إنه كان عضوا في محكمة التمييز في نظام صدام حاله حال 25 قاضيا كانوا معه، ولا يوجد أي دليل أو وثيقة تثبت أنه كان مبايعا للبعث أو امتلاكه درجة حزبية فيه؛ لكنّه يرى أنه من الطبيعي أن تكون له علاقة مع النظام، وهو أمر لا غرابة فيه لأي شخصية قانونية في تلك الفترة.
وفيما إذا أدى المحمود دورا في محاكمة صدام حسين من عدمه، ينفي حداد، وهو نائب سابق لرئيس المحكمة الجنائية العليا التي حاكمت صدام، هذا الأمر، ويؤكد أنه كان رئيس مجلس القضاء الأعلى، والمحكمة التي حاكمت صدام كانت مستقلة عن القضاء الأعلى، وعندما تأسست المحكمة قال المحمود إنها ليست جزءا من القضاء العراقي القائم، ويعتبرها مستقلّة تتبع مجلس الوزراء، ويُعين القضاة فيها بمرسوم جمهوري؛ إلا أنّ ترشحيهم يكون من مجلس القضاء الأعلى.
التوظيف السياسي
وخلافا للعكيلي ونعناع وحداد، يفكّ الباحث في شؤون الإعلام الكاتب والصحفي العراقي المعروف د. عبد الحميد الصائح طلاسم سرّ تسلم المحمود مناصب حساسة بعد 2003 رغم اتهامه بالانتماء للبعث، بالتوظيف السياسي للقضاء، ولذلك استخدمت مهارة المحمود وغيره من القضاة لخدمة الأقوياء من مراكز النفوذ، وتحديدا في حكومة المالكي.
وهناك 3 دوافع وراء منح المحمود هذه المناصب الحساسة بعد 2003، أبرزها خيار أميركي؛ لأن واشنطن بعد الغزو أنشأت هيئات ولجانا قضائية وفنية لإدارة المؤسسات بعد سقوط نظام صدام، ولذلك كان بول بريمر الحاكم المدني الأميركي يبحث بدأب عن المزيد من القضاة السابقين لإنشاء مجلس القضاء.
أما الدافع الثاني -كما يرى الصائح- هو أن هؤلاء القضاة، ومنهم المحمود، مشمولون بالاجتثاث كونهم منتمين إلى حزب السلطة السابقة، وأن استثناءهم من الاجتثاث حصر من صلاحية رئيس الوزراء، وهو حقق لهم هذا، وبالتالي سيكونون طبيعيا تحت رحمته، ومدينون لفعلته، ويطوعون القضاء لخدمته.
والدافع الثالث هو عام يتصل بالحاجة إلى كفاءات مهنية عالية في اختصاصات عديدة وأولها القضاء؛ لأن إيجاد قضاة جدد على عجالة أمر ليس سهلا، خاصة في وضع جديد تطلب المزيد من القضاة، وبعضهم أصلا متخرجون من المعهد العالي للقضاء الذي أنشئ في زمن النظام السابق.