ترجمة عادل حبه
بقلم الكاتب الإيراني فريدون خاوند
لقد طغى الشبح الصيني على السياسات الداخلية والخارجية للجمهورية الإسلامية أكثر من أي وقت مضى. وتم سماع الهمسات الأولى حول ظهور تغيير نوعي غير مسبوق في العلاقات بين طهران وبكين في شباط عام 2015 عند زيارة رئيس جمهورية الصين الشعبية إلى إيران. وفي آذار عام 2021، وقّع وزيري خارجية البلدين على “برنامج التعاون الشامل بين إيران والصين”، وإنتقل الأمر من الهمسات إلى كون البلاد تتعرض إلى اجتياح من قبل دولة كبرى ناشئة تحت مسمى “الإمبراطورية المعتدلة”.
فهل بدأ فصل جديد في العلاقات بين البلدين بالتوقيع على “برنامج التعاون الشامل بين إيران والصين”؟ وهل قررت الصين بتوقيعها على هذه الوثيقة وكما يشاع في الأوساط السياسية الإيرانية داخل وخارج البلاد، أن تجعل جمهورية إيران الإسلامية أهم قاعدة لها في الشرق الأوسط؟
أياً كانت هذه الوثيقة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه أولاً هو لماذا تنخرط الصين وإيران، على الرغم من الاختلافات المهمة للغاية فيما يتعلق بالنظام السياسي والمكانة الدولية، في مثل هذه العلاقات الوثيقة والمعقدة.
الاختلافات والتشابه
للوهلة الأولى ، ينتمي نظامي الحكم في إيران والصين إلى عالمين مختلفين تماماً:
1-الفلسفات التي تحكم الطبيعة والهياكل الحاكمة للبلدين، أو بعبارة أخرى، الأسس العقائدية حول مصدر السلطة، ومسار تطور المجتمع البشري، وكيفية إدارته. فالطرفان يقفان على مواقف متناقضة ومتعاكسة.
إن المادة الثانية من دستور الجمهورية الإسلامية تنص على أن هذا النظام يقوم على “الإيمان بالله الواحد (لا إله إلا الله) وترجع إليه السيادة والتشريع وضرورة الانصياع لأمره”. وعلى النقيض من ذلك، يعتبر الدستور الصيني في مقدمته أن الماركسية اللينينية وفكر ماو تسي تونغ مصدر الانتصارات الثورية والتي حولت الصين إلى دولة “اشتراكية غنية وقوية وديمقراطية ومتحضرة”. في حيت تعتبر ثيوقراطية طهران أن الإرادة الإلهية هي المصدر الوحيد لسلطة الدولة، في حين أن فلسفة النظام السياسي الصيني تقوم على عدم الإيمان بالله.
2- لقد أدرك النظام السياسي الصيني أهمية الاقتصاد باعتباره الدعامة الأساسية للسلطة في العالم المعاصر، وأصبح الرابح الرئيسي في عملية العولمة على مدار نصف القرن الماضي. فمن بين جميع الأنظمة الشيوعية التي استلمت السلطة في العالم بعد أكتوبر عام 1917، كانت جمهورية الصين الشعبية أول من وجد حلاً مستوحى من هزيمة نظرائها في “المعسكر الاشتراكي”، والحفاظ على الهيمنة بلا منازع للحزب الواحد. فقد انفتح الحزب أكثر على الإصلاحات الاقتصادية في العالم المعاصر وحقق أسرع نمو اقتصادي في تاريخ الحضارة الإنسانية.
ويرجع جزء كبير من هذه القفزة المذهلة إلى المشاركة الهائلة للشركات متعددة الجنسيات الأمريكية والأوروبية واليابانية في عملية التنمية في أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان. وانضم قادة بكين أيضاً بذكاء إلى هياكل الحوكمة الدولية، وخاصة المنظمات الاقتصادية الدولية، وأزالوا العقبات الواحدة تلو الأخرى من خلال تواجدهم الشامل في الأسواق العالمية.
ولكن سبح قادة الجمهورية الإسلامية، على عكس الإصلاحيين الصينيين، في الاتجاه المعاكس للتيار، وعلى قدر إستطاعتهم، وحرموا بلادهم من الروافع المادية التي ولدت القوة والثروة في عالم القرن الحادي والعشرين. وأدى العداء اللامتناهي للجمهورية الإسلامية لمظاهر الحداثة إلى تهميش جزء كبير من القوى الحية في البلاد، وإن حقدها اللامتناهي على الغرب، حرم الإيرانيين من رأس المال والتكنولوجيا والأسواق والسياح الأمريكيين والأوروبيين. إن الجمهورية الإسلامية متعطشة للقوة الإقليمية دون أن توفر الوسائل المادية والمستلزمات لتمويل قوة دبلوماسية وعسكرية مستقرة لإشباع هذا التعطش.
لكن إيران ، شأنها شأن سائر بلدان العالم، لا يمكن أن تبقى على الهامش، فهي تبحث عن حلفاء أقوياء لها بسبب ضعفها الشديد في مختلف المجالات، وخاصة الاقتصادية.كن إيران، مثلها مثل سائر دول العالم، لا يمكن تبقى على ا
ومن بين جميع القوى القديمة والناشئة في العالم، يميل النظام الإسلامي في طهران إلى جمهورية الصين الشعبية (إلى جانب روسيا) ، بسبب أوجه التشابه بين الأنظمة السياسية في البلدين:
ألف – إن النظام العقائدي للجمهورية الإسلامية والنظام الأيديولوجي لجمهورية الصين الشعبية، على الرغم من تناقضاتهما الأساسية، يشتركان في العداء المشترك للحريات العامة، وإن أولوياتهما الأهم هي الحفاظ على السلطة واحتكارها من خلال تهميش المطالبين الآخرين في المشاركة بإدارة دفة البلاد. فكلا النظامين لا يرون بديلاً لأنفسهم، وسيعارضان بشدة أي اتجاه أو شخصية تسعى لكسر هذا الاحتكار.
ومع ذلك، فإن النظام الشمولي في الصين أكثر استقراراً من نظام ولاية الفقيه بسبب إنجازاته الاقتصادية الكبرى. وفي الواقع، تجري الاحتجاجات على الاستبداد الديني الحاكم في إيران، والأهم من ذلك، وتعرضه للتحقير من قبل الشعب بسبب الكارثة الاقتصادية التي سببها. لهذا السبب، يأمل جزء من الهيئة الحاكمة الإيرانية إلى “صيننة” اقتصاد البلاد، ويعتبر ذلك ضرورة حتمية لبقاء النظام. كما بُذلت جهود في هذا الصدد لم تتحقق لعدم توافقها مع طبيعة نظام ولاية الفقيه.
ب) إن التشابه الآخر بين النظامين الإيراني والصيني هو الموقف السلبي تجاه الغرب. فكلا النظامين ، وبسبب الإنحطاط الذي حل بالبدين في القرن التاسع عشر وفي العقود الأولى من القرن العشرين ودور الدول الغربية في هذا الإنحطاط، مما أدى إلى ظهور خطابات سداها ولحمتها الانتقام. ولكن على عكس الجمهورية الإسلامية، فإن الصينيين لا يسجنون أنفسهم في حصن ضيق من التشاؤم والانتقام، ولا يقفون عند الماضي، بل يسعون إلى تعاون اقتصادي مكثف مع القوى الغربية لمصالحهم الخاصة.
ج) النظام الشيوعي في بكين فاسد، مثله في ذلك مثل النظام الإسلامي في طهران، وإن كان على نطاق أضيق. ويستغل “الأمراء الحمر” الصينيون مثل “الأمراء الإسلاميين” موقع أسرهم في قمة هرم السلطة والثروة في ظل انعدام الحريات. لكن في الصين، لم تصبح المافيا التي نشأت من حضن السلطة، على عكس الجمهورية الإسلامية، إلى “دلالي محرمات”، بل ربطت مصالحها بصفقات وبالتعاون الوثيق مع الشركات الغربية.
“خارطة طريق”
خلال اثنين وأربعين عاماً بعد الثورة الإسلامية عام 1979، كان هناك عاملان رئيسيان جعلا جمهورية الصين الشعبية الشريك التجاري الأكثر أهمية بالنسبة لإيران. كان العامل الأول هو الصعود الذي لا يقاوم لاقتصاد الصين، مما حولها إلى “مصنع العالم” وإلى أول قوة تصدير على المستوى الدولي. العامل الثاني هو انهيار عدد كبير من الجسور الاقتصادية بين إيران والعالم الغربي، ولا سيما مع الولايات المتحدة، والتي وفرت بطبيعة الحال بيئة مواتية لـ “آسيوية” التجارة الخارجية الإيرانية.
في ظل هذه الظروف، بلغ حجم التبادل التجاري بين طهران وبكين ذروته منذ التسعينيات فصاعداً. وفي نهاية العقد الأول من القرن الحالي، لعبت الصين دوراً رائداً في التجارة الخارجية الإيرانية، والتي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، على الرغم من تراجع حجم هذه التبادلات خلال السنوات القليلة الماضية تحت ضغط العقوبات الاقتصادية ضد الجمهورية الإسلامية ووباء كورونا.
أثارت هيمنة الصين على جزء كبير من سوق السلع المستوردة الإيرانية احتجاجات من حين لآخر عند جزء من الرأي العام الإيراني (على سبيل المثال ، لماذا يُجبر الإيرانيون على استهلاك سلع صينية “غير مرغوب فيها”) ، ولكن لم يتحول هذا الإحتجاج كثيراً لدرجة أنه أصبح مصدر استياء واسع.
وبدلاً من ذلك، تسبب توقيع وزيري خارجية البلدين على “برنامج التعاون الشامل بين إيران والصين” في 27 نيسان من هذا العام ، في موجة واسعة من الانتقادات والاحتجاجات ليس فقط في الأوساط السياسية والمهنية، ولكن أيضاً بين الناس العاديين في البلاد وفي الشوارع والأسواق.
إن ما تم نشره من قبل وزارة الخارجية للجمهورية الإسلامية تحت عنوان “Leaf Statement” في هذا البرنامج لا يبدو مثيراً للغاية أوغير عادي بشكل عام، فهو إلى حد ما على غرار نفس الوثائق التي تم توقيعها بحسن نية في العلاقات بين الدول.
وجاء في بيان وزارة الخارجية المؤلف من خمس صفحات أن: “الوثيقة الحالية تحدد خطة شاملة على المدى البعيد (25 عاماً) لنهج قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المتكافئة في العلاقات الثنائية والإقليمية والدولية”.
إن الوثيقة، التي تنطوي على مجاملات وكليشيهات دبلوماسية، هي “برنامج سياسي واستراتيجي واقتصادي وثقافي يعالج مختلف مجالات التعاون بين إيران والصين”.
يؤكد نفس “البيان المنشور” على أن هذه الوثيقة هي مجرد خارطة طريق، ولا تحتوي على أية اتفاقية، ولا تتضمن أية أرقام محددة، بما في ذلك في مجال الاستثمار أو الموارد المالية والنقدية، أو نقل أي منطقة أو أي احتكار متبادل أو أحادي الجانب.
غموض وأسئلة
يرفض عدد من معارضي ومنتقدي الجمهورية الإسلامية التقرير الرسمي لوزارة الخارجية حول “برنامج التعاون الإيراني الصيني الشامل”، ويعتقدون أن الجمهورية الإسلامية أخفت طبيعة هذه الوثيقة ومحتواها الحقيقي عن الإيرانيين. ويعلنون إن الوثيقة المعنية ليست مجرد مذكرة تفاهم على “خريطة الطريق”، بل أنها معاهدة دولية حقيقية.
ومن الملاحظ أن مذكرة التفاهم ليس لها أية آثار قانونية ملزمة، وتشير فقط إلى أن الموقعين قد اتفقوا على عدد من القضايا والأهداف العامة وأعدوا الأرضية لإبرام المعاهدات بما يتماشى مع المبادئ التي تم التوصل إليها. بدلاً من ذلك، فإن المعاهدة، أو بأي اسم يطلق عليها (معاهدة ، ميثاق ، اتفاقية ، إعلان)، تعقد بين أطراف خاضعين للقانون الدولي (الدول والمنظمات الدولية) ،وتؤدي إلى آثار ملزمة حقوقياً.
وبعيداً عن الجدل حول عنوان الوثيقة، التي تم التوقيع عليها في طهران في 27 آذار، يقيّم المعارضون والمنتقدون للجمهورية الإسلامية محتواها الحقيقي على أنها أكثر أهمية وحساسية وأكثر إثارة للجدل مما أشارت إليه المصادر الرسمية للجمهورية الإسلامية.
وحسب رؤيتهم، فإن العقد مدته 25 عاماً مع توقع توظيف 400 مليار دولار من الاستثمارات الصينية المحتملة في المنشآت والبنية التحتية الإيرانية. وستدفع الجمهورية الإسلامية تكلفة هذا الاستثمار خلال فترة العقد عن طريق بيع النفط والغاز إلى الصين بسعر تفضيلي (بخصم مرتفع للغاية). ومن أجل تجنب العوائق التي تحول دون سيطرة الدولار، سيتم دفع كمية النفط والغاز المشتراة من إيران باليوان (العملة الوطنية الصينية). ومن أجل حماية الاستثمارات الصينية في إيران، سيتمركز 5000 جندي صيني في قواعد لها في إيران. وهناك مهمة أخرى للجيش الصيني هي توفير الأمن اللازم لنقل النفط من إيران إلى الصين.
هذا ملخص لما ورد في الملاحق السرية للاتفاقية الإيرانية الصينية، حسب ما أورده عدد من المعارضين والمنتقدين للجمهورية الإسلامية، وليس حسب ما ورد في المذكرة. ومن المناسب أن نتعرف على جزء مما يطرحه معارضو ومنتقدو الجمهورية الإسلامية حول المحتوى السري لـ “برنامج التعاون الشامل بين إيران والصين” الذي أثير في النصف الثاني من العام الماضي من قبل مختلف المسؤولين الحكوميين أو شبه الرسميين في النشرات التابعة لمختلف أجهزة الجمهورية الإسلامية. حيث نرى أن وثيقة 27 من آذار واجهت مصيراً غامضاً وأثرت بشدة على الرأي العام الإيراني.
وأخيراً، وبالنظر إلى ما قيل، سنتعامل مع بعض الغموض والأسئلة التي أثيرت حول هذه الوثيقة وهوامشها.
1- تجتاج إيران الأزمة التي تمزقها ، وتعاني من القطيعة عن العالم الغربي ومحرومة من دعم المنظمات الدولية. وبطبيعة الحال تتجه إلى الصين، ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم. وبالنسبة للصين أيضاً، تعتبر موارد السوق والطاقة الإيرانية مهمة بالطبع، لكنها ليست على نفس القدر من الاستعداد لتعريض علاقاتها مع الغرب والدول المؤثرة في الشرق الأوسط للخطر.
2-تعتبر الصين الشريك التجاري الأكثر أهمية لإيران، ولكن حجم التجارة بين البلدين في أحسن الأحوال لم يتجاوز في عام 2014 نسبة 1.2٪ من إجمالي التجارة الخارجية للصين. فكيف يمكن للصينيين المخاطرة بعلاقاتهم التجارية مع الولايات المتحدة التي تتراوح حجمها بين 500 مليار دولار و 600 مليار دولار، والتي تمثل حوالي 13 في المائة من تجارة الصين الخارجية، مقابل هذه الحصة الصغيرة من تجارتها الخارجية مع إيران؟
في الشرق الأوسط، تعتبر إيران ثالث أكبر شريك تجاري للصين بعد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. فلماذا ينبغي على الصينيين إقامة علاقات متميزة واستثنائية مع الجمهورية الإسلامية وتعريض علاقاتها مع السعودية والإمارات للخطر ، ناهيك عن العلاقة مع إسرائيل؟
3- ولماذا يجب أن يلتزم الصينيون للجمهورية الإسلامية بشراء النفط والغاز الإيراني على مدى 25 عاماً في الوقت الذي يتغير وضع الوقود الأحفوري في سلة الطاقة بسرعة ولا أحد يعرف ما إذا كانت الصين ستكون محتاجة في 25 عاماً القادمة إلى النفط والغاز الايراني ام لا؟
4- إذا كانت الصين مهتمة جداً بإقامة علاقات مميزة استثنائية مع الجمهورية الإسلامية، فلماذا لا تعيد أصول إيران في البنوك الصينية، والتي تقدر بنحو 20 مليار دولار، إلى الجمهورية الإسلامية؟ ولماذا تمتثل بكين للعقوبات الأمريكية العديدة ضد إيران عبر السنوات القليلة الماضية؟ ولماذا غادرت الشركات الصينية إيران بعد وقت قصير من رحيل واشنطن عن الإتفاق النووي؟ ولماذا أغلقت البنوك الصينية الحسابات الإيرانية؟
5- وهل ستقوم بكين ببناء قاعدة في إيران للحفاظ على أمن استثماراتها ونشر 5000 جندي في دولة ساحلية في الخليج العربي؟ ألن تشكل حملة عسكرية في مناطق خارج نفوذ بكين في المحيط الهادئ، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ “الإمبراطورية الوسطى”، أعباء على الصين؟. لماذا تدخل الصين في مواجهة مع القوى الغربية ودول الخليج العربي وإسرائيل؟ ولماذا تتورط الصين في هذه المغامرة وفي واحدة من أكثر المناطق الإستراتيجية حساسية في العالم؟ هل سيكون نشر القوات الصينية إلى جانب أهم مصادر النفط والغاز ذات الاهتمام في العالم أمراً مقبولاً بالنسبة لعمالقة آسيويين آخرين، بما في ذلك الهند واليابان؟
__________________________________________________
*فريدون خافند اقتصادي إيراني ومحلل اقتصادي وأستاذ الاقتصاد بجامعة باريس بفرنسا. وقد حظيت تحليلاته ، خاصةً اقتصاد إيران والشرق الأوسط ، بتقدير كبير من قبل وسائل الإعلام الناطقة باللغة الفارسية والإنجليزية. كما شارك في التحليل الاقتصادي والبرمجة في راديو فرنسا الدولي. وشارك خافاند كخبير في العديد من وسائل الإعلام الناطقة بالفارسية ، بما في ذلك بي بي سي الفارسية راديو زمانه راديو فاردا وإيران الدولية.