مرت عدة أشهر على انتسابي لمعهد تعلم اللغة في مدينة ووج العمالية تحضيراً لاكمال دراستي في احدى جامعات بولونيا الشعبية عام 1984. مدينة ووج العمالية ذكرها لينين في كتاباته وكذلك روزا لوكسمبورغ باعتبارها معقلاً من معاقل الحركة العمالية البولونية حيث تنتشر فيها معامل النسيج ولازالت تحتفظ بين جدرانها بقصص نضالات بطولية ضد الرأسمال.
فاجأنا أول آيار بانهمار غير متوقع لثلج كثيف, نحن الآتين من بلاد الدفْ,..اعطى للكرنفال رونقاً اضافياً. فقد انتشرت لافتات تحيي المناسبة بألوان زاهية واعلام حمراء ترفرف في سماء المدينة ومجاميع المحتفلين من شيب وشباب وفاتنات يوزعن زهور الخزامى الحمراء على الناس.
كنا ثلة من الشباب العراقي المندفع الناجي من بين انياب فاشية البعث…يحدونا الأمل بالتفوق العلمي والعودة لوطن حر لخدمة شعبه. فكان منا عبد الزهرة البصراوي الاسمر وجمال الآتي من حارات الاعظمية وكاكا صباح ابن كردستان ثم نشأت السرياني من قصبة ديانا قرب راوندوز واحسان التركماني وزوجته وسليم الجنوبي السحنة الباسم ابداً وراضي ابن مدينة الثورة, وعلاء السامرائي وزوجته القادمة من الناصرية ويحيى المندائي حفيد سومر الدارس في اكاديمية سينما ووج ثم أنا ابن النجف عاشق بغداد…باختصار كان قوس القزح العراقي حاضراً رغم الثلوج, اما القلوب فكانت عامرة بدفء حب العراق.
بدأت المسيرة من أحد شوارع المدينة المهمة “شارع الجيش الشعبي البولوني” مروراً بشارع البتروكوفسكا التأريخي لتنتهي بساحة الحرية. مظاهر الفرح تعم المكان. موسيقى.. ورود الخزامى.. كركرات اطفال.. رقص.. هتافات.. طيور سلام بيضاء.
كنا قد تهيأنا للمناسبة بلافتات تحيي الطبقة العاملة العراقية والبولونية والسلام العالمي وبيانات تدعو لإيقاف الحرب العراقية الايرانية واسقاط الدكتاتورية والبديل الديمقراطي.
كانت اجواءاً احتفالية مفعمة بمشاعر الاخوة الاممية…فكان بجنبنا الرفاق اليونانيين وعدة رفاق من راكاح ورفيق مغربي وليس بعيداً عنا رفاق من امريكا اللاتينية و زوو النيجيري المرح ويوسف السنغالي عاشق الشيوعيين العراقيين وأحمد الفلسطيني القادم من لبنان وفاركيس ورفاقه من الهند….
وفي غمرة أجواء البهجة هذه كان هناك مكاناً للمنغصات. فقد تقاطرت شراذم اتحاد طلاب السلطة الإرهابي بدفع من سفارة النظام تنظر إلينا شزراً وتتوعدنا… يتفرسون بملامحنا..يصورونا لمعاقبة أهالينا في الوطن.. ينفثون سموم العداء للشيوعية بلكنة فاشية.
كان زملاؤنا ورفاقنا قد حذرونا من محاولات استفزاز قد يمارسها ازلام السفارة وعدم الانجرار اليها. كم كان بودنا إشباع غليلنا منهم, لكن التعليمات كانت صارمة.. عدم الانجرار الى استفزازاتهم احتراما لأصول الضيافة التي غمرنا بها الشعب البولوني.
وأول من لاحظ تحرشاتهم كان الرفاق من الشبيبة الشيوعية اليونانية, فجاؤا الينا وابدوا استعدادهم لمعاقبتهم اشد عقاب بإشارة واحدة منا, ثم انضم اليهم شباب راكاح وزجروهم فانسلّوا خائبين.
توقفت طفلة بولونية بجدائل شقر امام احدى لافتاتنا التي كتبت باللغة العربية, بحلقت بها ثم استدارت لامها متساءلة: ماما…ما هذه الشخابيط؟
اجابتها امها وهي تنظر الينا مع ابتسامة اعتذار: مكتوب هنا…عاشت الحرية!!
توضيح : هذا المقال كنت قد كتبته في ٢٠٠٧ وأعيد نشره مع بعض التغييرات الضرورية البسيطة.