ثلاثة أحداث متتالية أعادت نقاش الحريات في إقليم كردستان إلى الواجهة. والأحداث الثلاثة تلامس مواضيع حساسة وإشكالية في المجتمع المحلي.
الأول، كان خبراً انتشر بشكل كبير على مواقع التواصل مرفقاً بفيديو لشابة تجمع عن الأرض صفحات ممزقة من القرآن في أحد شوارع العاصمة أربيل. والثاني كان قيام باجيتا، وهو شاب مكسيكي من أصول عراقية، مع صديقته تيفاني، وهي شابة مكسيكية أيضاً متحدرة من مدينة حلب السورية، بأداء وصلة رقص على إيقاع موسيقى كانت تخرج من أحد المقاهي في الشارع العام في مدينة السليمانية.
أما الحدث الثالث فكان قيام شابة سورية، تُقيم في أستراليا، تدعى كارولين برفع لافتة على صدرها مكتوب عليها بثلاث لغات عبارة “حضن مجاني” أمام قلعة أربيل، وتجمّع حولها عشرات الأشخاص الغاضبين، مما اعتبروه انتهاكاً لشهر رمضان، وقاموا بمنعها وطردها.
الرد على وصلة الرقص حصل بعد يومٍ واحد فقط من إقامة صلاة تراويح استنكاراً، وشارك في الصلاة عشرات رجال الدين. ولم يختلف الأمر كثيراً مع حادثة “الحضن المجاني”، ففي الليلة التالية أيضاً، تجمّع العشرات في المكان نفسه حاملين لافتة كتب عليها “الجنة مجاناً” بثلاث لغات، وأقاموا طقوساً دينية ورددوا أناشيد إسلامية في إشارة منهم إلى رفضهم لما قامت به الشابة.
وكما في حالات كثيرة مماثلة حيث يتصاعد الغضب ضد حالات تعبير فردي، عبر أكراد كثر عن استيائهم من تضخيم قصص مثل قصص الرقص وغيرها لتكون عناوين النقاش العام بدلاً من قضايا جوهرية تمس حياة المواطنين الأكراد.
ومثل المرات السابقة، لم تغب “نظرية المؤامرة” المقترنة بـ”دوافع وخلفيات سياسية” عن هذه الأحداث، فسرعان ما وجّه مغردون على مواقع التواصل الاجتماعي أصابع الاتهام إلى أحزابٍ كردية، لا سيما التي تملكُ المال والسلطة بالوقوف وراء هذه الأحداث “لإشغال الشارع الكردي وإبعاده من العمليات العسكرية التركية ضد العمال الكردستاني في مناطق دهوك، إضافة إلى إبعاد الأنظار عن مشكلة استقطاع ما نسبته 21 في المئة من رواتب الموظفين، على رغم ارتفاع أسعار النفط والدولار التي لا تزال تغضب الشارع الكردي حتّى الآن”.
“الرّقص في شهر رمضان حرام أم قطع الرواتب والفساد المستشري، لماذا يتذكّرون الحلال والحرام عندما يتعلّق الأمرُ برفاهية المواطن وحسب؟”، تقول كولشن أحمد لـ”درج” تعليقاً على ما أثارته حادثة الرقص: “يحرّمون علينا حتى التمتّع بمظاهر الإبداع والحياة”.
يرى الأستاذ في جامعة السليمانية بهروز الجاف، ان التطرف يحضر في الإقليم بوجهين متناقضين، فإذا ما جاهر أحدهم بمظهر متطرّف، يأتي رد الفعل متطرفاً من الطرف المتطرف النقيض. ويثير ما حدث في اربيل والسليمانية شكوكه من ألا تكون الأفعال، ولا ردّودها بريئة، فالثقافة الكردية “تزخر بمظاهر الرقص والفنون الأخرى المختلطة والأزياء الحديثة بكل أنواعها، وتوجد أيضاً المراقص والملاهي ولم تثر الرأي العام ولم تستفز الجهات المتطرفة…”.
الصحافي الكردي سوران علي يلاحظ أن كثيرين “استعانوا بنظرية المؤامرة لتفسير الحادثين معتبرين أنهما ليسا سوى سيناريوات تخلقها الأحزاب الحاكمة لشغل الناس عن المشكلات الأساسية وقد تبين أن هذا التوجه لا يكون في محله دوماً”.
خفّ الجدل ولكنه لم ينته بعد وقد تكون هناك جولات أخرى منه، ولكن ما يدعو إلى التفاؤل، بحسب علي، هو “وجود أصوات حكيمة كمحافظ السليمانية الذي أرجع سبب تلك الظواهر إلى توسع المدن وكبرها” داعياً إلى قبول الجميع باختلافاتهم. لكنّه يرى أنّ مجتمعات المنطقة المحافظة ومنها المجتمع الكردي لا تزال غير مستعدة تماماً لقبول بعض مظاهر الحريات الفردية فهي بحاجة لمزيد من الوقت، إذ لا مفر من قبولها.
ويرصد الباحث في الجماعات الإسلامية سالار التاوكوزي مؤشراً خطيراً بأن الأحداث الثلاثة “أظهرت لنا أن المجتمع الكردي على أعتاب تحوّل خطير من مجتمع مُسلم مُسالم، إلى مجتمع مُسلم سلفي إخواني متطرّف، على عكس المجتمعات العربية التي بدأت تسيرُ نحو الانفتاح والعقلنة على إثر شعورها بخطورة الإسلام السياسي”.
ويشير التاوكوزي إلى جملة أسباب تقف وراء هذا التحوّل أبرزها، “تراجع التصوّف مقابل صعود السلفية والإخوان المسلمين، تمويل دول المنطقة الحركات والجماعات والأحزاب الإسلامية بهدف تمزيق هوية المجتمع الكردستاني دينيّاً وسياسياً واستبدالها بهوية متطرفة”. فضلاً عن أن الأحزاب الحاكمة “تركت المجتمع للإسلام السياسي فشغلت نفسها بالتجارة والنفط، ولم تفكر يوماً في وضع برنامج مستدام مؤثر للحفاظ على روح التعايش التي يمتاز بها المجتمع الكردستاني منذ مئات السنين، ولم تنجح في محاربة الفساد المستشري في جميع مفاصل الحكومة إلى أن أصيب المواطنون بخيبة أمل مخيفة، ففي حالة خيبة الأمل يتجه الناس إلى التديّن، ليصبحوا صيداً ثميناً للإسلام السياسي”.
ومع ذلك لا ينكر الباحث الكردي أن الأحداث الثلاثة لم تقع في نسقها المعتاد، لأنها حصلت في شهر رمضان وبشكل متسلسل، ما أثار شكوكاً لدى المسلمين بأن السلطة أو يداً خفية تحاول استفزاز المسلمين لأهداف غير معلنة، فقد هيأ ذلك مناخاً ملائماً، استغله المتطرفون الإسلاميون لتأجيج الشارع وتحريضه ضد أحزاب السلطة والشخصيات المشاركة في الأحداث المذكورة، وتوجيهرسالة مفادها أن الإسلاميين هم أصحاب الشارع والناطقين الرسميين باسمه.
لكن الصحافي الكردي هاوكار عبد الستار يستبعد نظرية المؤامرة: “لا أرى أن الأحداث الثلاثة تقف وراءها سيناريوات معدّة، إنما وقعت من باب المصادفات”، لكنه يسجّل غياباً لافتاً للحكومة ومؤسساتها عن هذه الأحداث، خصوصاً التي تنادي بقمع الناس ومنعهم من التعبير: “هذا الغياب يفتح الباب باستمرار للجماعات المتطرّفة لتسحب البساط من تحت الجميع”.