قلائل هم صناع الاعلام والرأي في عالمنا الثالثي ، الذين يجمعون بين الثقافة الواسعة والاطلاع الفكري الجيد و بين المهنية والاحترافية الإعلامية ، صحيح ان عددا كبيرا من القنوات الإعلامية والاذاعية قد تناسلت بقوة في السنوات الأخيرة ، لكن قليل منها من يحس معها المستمع او المشاهد بفائدة كبيرة و ينتظر منها معرفة علمية بعيدا عن التنميطات الأيديولوجية والخصومات السياسية والفئوية التي باتت بعض القنوات والاذاعات متخصصة فيها ، الأكيد هو ان شخصية الصحفي و اتزانه و تكوينه واخلاقه تلعب أدوارا مهمة في اشعاع برنامجه وفي أداء رسالته على احسن وجه ، لا اريد ان اذكر أسماء اعلاميين كثر اصبحوا اكثر تأثيرا من الحكومات والأنظمة في صناعة الراي العام ولا في توجيه قناعات الجمهور ، وقد لا نبالغ اذا قلنا بان بعض الصحفيين قلبوا أنظمة و اججوا شوارعا في عدد من الدول بتغطياتهم الصحفية و أسلوب تناولهم للقضايا السياسية في هذا البلد او ذاك ، كيف يمكن ان ننسى تغطيات اكرام خزام من موسكو عندما كان صحفيا في الجزيرة ؟، وكيف يمكن ان ننسى حوارات سامي حداد رحمه الله تعالى؟ وكيف يمكن ان نتجاهل صحفيين كثر ساهموا من قريب وبعيد في تشكيل راي عام ببلداننا سواء اختلفنا مع آرائهم او اتفقنا معهم ، فبرنامج الاتجاه المعاكس الذي كان يقدمه الصحفي والإعلامي فيصل القاسم كان برنامجا ناجحا يشاهده الملايين من المتابعين قبل ان يتراجع لاسباب كثيرة لا يسع المجال لذكرها ، كما ان الحوارات الصحفية للصحفي والإعلامي غسان بن جدو كانت مؤثرة جدا و متقنة الى ابعد الحدود بغض النظر عن خلفيات القنوات التي يعملون فيها او يسيرونها ، كما يسجل التاريخ الأدوار الإعلامية الكبرى التي بذلها صحافيو إذاعة البي بي سي البريطانية وشهرتهم التي فاقت كل التوقعات ، لذلك بات دور الصحفي اليوم حاسما ومؤثرا وكبيرا ،حيث انتقل الاعلام اليوم من السلطة الرابعة الى سلطة فوق السلط وأصبحت مسؤولية الاعلام تتجاوز نقل الخبر وتقديمه خاما للمتلقين ، لان الخبر الذي اصبح متاحا للعموم في كل الوسائل والوسائط الإعلامية المنتشرة اليوم ، انما المطلوب كثر اليوم هو تحليل الخبر و استكناه اغوار ما بعد الحدث و تثقيف المتابعين وتهذيب اذواقهم الإعلامية و تنمية ملكة التحليل والتساؤل والنقد لدى المشاهدين .
تعج الساحات الاعلامية باصوات اعلامية من كل الانواع والاشكال و الخطوط التحريرية وقد نجد من الصحفيين من يتقن لغات عديدة و له مواهب القائيةو اعلامية و علاقات عامة كبيرة وكبيرة جدا ، لكن وارء هذه الشاشات قلما نجد صحافيين و اعلاميين يزاوجون بين الفعل و العمل الاعلامي والصحفي وبين الثقافة والفكر و معرفة التاريخ و الاطلاع الواسع .
من الاعلاميين الذين وفقوا في تشريف مهنة الاعلام و استثمر اعلامه للتعريف بهموم وامال وتطلعات عالم الجنوب ( حتى لا نقول العالم العربي والإسلامي لان هذه التخندقات في رايي مختزلة واقصائية) ، نجد الاعلامي و المثقف اللبناني سامي كليب ابن قرية نيحا الشوف اللبنانية الذي يعتبر بحق مرجعا و مثقفا متميزا متقنا لمهنة الاعلام بإكراهاتها الكثيرة وإغراءاتها الخطيرة، استطاع ان يفرض أسلوبه الإعلامي بأخلاقه و ثقافته و انسانيته العالية التي نستشفها من كتبه و برامجه السابقة والانية و الأهم من كل هذا انه اعلامي واكاديمي خريج التواصل السياسي بالسوربون والقارئ النهم للكتب والروايات وعاشق السنيما والمسرح . واستطاعت برامج سامي كليب ان تعرف القارئ و المستمع والمشاهد بالمعارض السياسي و الفنان الشعبي و كذا برؤساء الحكومات والدول، فبرنامج زيارة خاصة على قناة الجزيرة الذي كان يقدمه وبرنامجه لعبة الأمم على قناة الميادين …، كانا منارة للتعريف بالكتاب والمفكرين والسياسيين والفنانين وكانا برنامجين ناجحين بكل المقاييس. استطاع سامي كليب ان يحي فينا امل ايجاد اعلامي حر مستقل و مثقف في نفس الان.
في رحلات سامي كليب الكثيرة الى كل اقطار الدنيا التي دون وجمع بعضها في كتابه الرحالة نكتشف اعلاميا ذو حس انساني رفيع و التزام اخلاقي بقضايا التقدم و الحرية ، حيث ان الكتاب الرحالة – الذي يعكس رؤية الكاتب للعالم- ، قراءته بتمعن واهتمام ، واستمتعت بثقافته العالية و تواددت مع جمله البسيطة المعبرة و رحلت عبره الى كل اصقاع الدنيا عبر اسلوبه الذي يجمع بين الوصف الدقيق و شفافية العبارة وصدق المراد ، كتاب يحمل في طياته ادانة صارخة لكل الآهات و الالام والتخلف الذي تعيشه بلداننا رغم كل الامكانيات المالية والاقتصادية والطبيعية التي حبانا الله تعالى بها ، الا ان جور الانسان وظلم الساسة و الحروب التي لا تنتهي وواقع التفرقة ماتزال تؤجل حلمنا الجماعي باوطان فرحة سعيدة وتنمية إنسانية حقيقة وتوزيع عادل للثروات و تعليم وصحة جيدين.
بحس يساري انساني قارب الصحفي والإعلامي سامي كليب رحلاته الى عدد من البلدان التي سافر اليها بدافع العمل او السياحة فقد استطاع ان يحقق جزء من حلم طفولته في الطيران والتحليق بعيدا في الافاق وان يجوب الدنيا بحثا عن الحقيقة و سعيا نحو الامل ، فاستطاع ان يقرب الينا احاسيس و أجواء البلدان الكثيرة التي زارها لذلك لقب بابن بطوطة العصر الحديث ، و بالفعل فكتابه بدأ في البحث عن قبر هذا الرحالة المشهور الذي جاب الأرض طولا وعرضا ، فبدا رحلة الكتاب من طنجة المغربية التي اعتقد الكثيرون ومنهم الكاتب ان قبر ابن بطوطة يوجد بهذه المدينة المغربية التاريخية ، لكنه تفاجا بان قبر ابن بطوطة قد لايكون هو القبر الذي سمي بذلك اذ ان بعض المؤرخين-التازي نموذجا- يعتقدون ان ابن بطوطة توفي في مكان ما في الشام . بطنجة المغربية استنشق الكاتب والإعلامي سامي كليب رائحة التاريخ وعبق الحاضر واثنى على العمق الحضاري والتاريخي لهذه المدينة المتوسطية الفيحاء .
كانت الرحلة الأولى للكاتب والإعلامي سامي كليب الى الجزائر ،وتحديدا الى المدينة السياحية عنابة حيث حضر مؤتمرا لشبيبة المتوسط ، وهناك التقى بشباب مشبع بالثقافة الثورية على نغمات الأناشيد والشعارات الثورية حيث امجاد بطولات التحرير ومقاومة الاستعمار ماتزال تلهم الشباب الجزائري في تلك الفترة . توالت زياراته الى الجزائر في مراحل أخرى كحضوره جنازة الرئيس الراحل محمد بوضياف – الذي اغتالته ايادي استخباراتية جزائرية لقربه من المغرب ونظافة سيرته -، وقام بتغطيات صحفية لاحداث ما يسمى بالعشرية السوداء في الجزائر حيث اريقت دماء كثيرة بين الدولة و الجماعات المسلحة -التي يجهل لحد الان من ورائها -، كما كان ضمن الفريق الصحفي الذي رافق الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك خلال زيارته الرسمية للجزائر أواخر سنة 2001 ،كما ربط علاقات صداقة متينة مع عدد من الشخصيات السياسية والإعلامية الجزائرية كسيد احمد غزالي والاخضر الابراهيمي والحسين ايت احمد وسعيد السعدي .. انتقل سامي كليب الى فرنسا للدراسة مباشرة بعد ان استشهد والده بقذيفة إسرائيلية غادرة خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 82 ، وقد شكل هذا الحدث جرحا غائرا في ذهنية السامي الى يومنا هذا و جعلته من اشد الناقمين على السياسات الإسرائيلية بل والأمريكية في المنطقة ، رغم جلل المصاب و فداحة اليتم الا ان مساحة الحب الإنساني والامل و الترفع عن الالام جعلت من سامي مثقفا نموذجيا مؤمنا بالعيش المشترك و بالنضال من اجل ان يسود السلام والوئام في العالم . تعلم سامي كليب من خلاله رحلاته واسفاره ان يتسع عقله لكل الحضارات وان يتقبل الاخر كماهو لا كما يريد هو ان يكون . وما يميز سامي كثيرا هو احترامه لكل الأديان والمعتقدات واحترامه للتنوع الثقافي و الديني واللغوي الذي يزخر به العالم ، فهو غير متعصب لمذهب ما او دين بل يحترم كل المعتقدات بل للدقة نقول يحترم المؤمنين بالمعتقدات من حيث هم بشر يستحقون التقدير والاحترام بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية واللغوية والثقافية .. يقول الإعلامي سامي عن زيارته لجزيرة كوري السنغالية بتعابير تحررية إنسانية بالغة التأثير والتأثر :” ها قد وصلت إلى الجزیرة السنغالیة التي لها باب یطلّ على البحر، وتاریخ یُطلّ على الجحیم. من هذاالباب كانت أفواج العبید تُرسل مغلولةَ الیدین والعنق، إلى بلاد الغرب البعیدة،مكبلة بالسلاسل. هناك یشقون ویعملون ویكدحون ویُضرَبون بالسیاط، أو تُقطّع أطرافهم بالسیف، مقابل لقمة عیش مجبولة بالدم والعرق. هناك كانوا یرسمون قصّة أسوأ استغلال للإنسان على ید إنسان یُفترَض أن یكون أخاً له.” كانت رحلة سامي الى جزيرة كوري السنغالي محاكمة تاريخية لحقبة سوداء من تاريخ الإنسانية ، مرحلة الاسترقاق و إهانة اكرامة الانسان الافريقي و قهره وقمعه من طرف الغزاة المستعمرين بمختلف تلاوينهم واسمائهم . يقول سامي كليب :” لا أدري لماذا شعرت بالغضب أكثر من تمتعي بجمال الجزیرة الخلّابة، حین وصلت إلیها. تخیَّلت رجلاً ضخم الجثة، قميء المظهر، منتفخ البطن، وسخ الأسنان، مغروراً ومتعالیاً، یلامس ویداعب فتاة أفریقیة قاصراً وساحرة الجمال، تذرف الدمع ولا تقوى على المقاومة خشیة قتل أحد أهلها أو بتر أحدأعضائها.
عرفَتْ دوغوریه، التي لم تكن تضمّ أكثر من بضع مئات من الأشخاص، في فترة الاستعمارالفرنسي، شهرةً كبیرة، حیث كانت قاعدةً لانطلاق الحملات الاستعماریة الكبیرة. ثمّ اكتسبت سمعتها السیئة من تجارة الرقیق فیها وعبرها.” في زيارته للسنغال لم يفوت الإعلامي سامي فرصة زيارة احدى أعمدة التصوف -الذي يشكل عنصر أساسي من عناصر النسيج الديني والسياسي السنغالي- ، حيث قام بزيارة لابنة المرجع الصوفي الكبير السنغالي التيجاني إبراهيم نياس احد مؤسسي رابطة العالم الإسلامي واحد كبار علماء الدين الافارقة واحد مقاومي الاستعمار الفرنسي للسنغال والذي تم نفيه الى غامبيا في مرحلة من المراحل التاريخية من النضال السياسي السنغالي ، انها مريم بنت ابرهيم نياس التي استقبلت الكاتب استقبالا حارا بمقر اقاماتها وتأثر الكاتب بتواضعها وعلمها و عملها التطوعي من اجل تعليم الأطفال الفقراء بالسنغال.
كان قصة زيارة الكاتب للصومال سنتني 1992 و 2017 مؤثرة جدا من حيث ان أطفال البلد لا يزالون يتضورون جوعا امام فداحة الوضع الإنساني الذي يسائل الضمير الإنساني ، ان ما شاهده الكاتب في الصومال وما نقله بأمانة و حرقة من حروب أهلية و تناحرات قبلية وتدخلات اجنبية خلقت صدمة نفسية واثرت بشكل عميق في نفسية الأستاذ سامي كليب و جعلت لديه كلمات التدخل الإنساني العالمي والأمم المتحدة مجرد أسماء لمعاني غائبة اومغيبة ، فكيف لبلد افريقي ان يموت اطفاله جياع في القرن الواحد والعشرين ؟ يقول سامي كليب :” كان العالم یتبارى آنذاك في الذهاب إلى تلك الدولة الأفریقیة الشاسعة – 238 ألف كیلومتر ونحو 14 ملیون نسمة- لیس لإیجاد حلول وإطعام الجیاع، بل للتنافس والمبارزة أمام وسائل الإعلام، وتقدیم صورة كاذبة عن دول تتعاطف مع الفقر والجوع والمرض وضحایا الحروب. لكن، صدّقني عزیزي القارئ، كلّ ما قرأته هوى كما تهوي ورقة صفراء في فصل الخریف. كلّ ما قرأته لا یساوي شیئاً أمام هول ما رأیت.” كان زيارة الكاتب لدولة موريتانيا في اطار الوفد الإعلامي المرافق للرئيس الفرنسي جاك شيراك سنة 2001 ، فرصة للاطلاع على عادات وتقاليد اهل موريتانيا ، هذا البلد الافريقي الذي يشتهر بالعلم الديني واتقان اللغة والشعر والذاكرة القوية لشيوخه وادبائه ، موريتانيا التي مهدت لقيام دولة المرابطين و ساهمت في نشر الإسلام بغرب افريقيا وعاصمتها نواكشوط التي رجح الكاتب أصول تسميتها الى “نوق الشط ” واظن ان هذا الترجيح مستبعد جدا اذ انني ارجح ان يكون اصلها امازيغي انوا اوكشوظ أي طاب الخشب بفعل الحرارة الشديدة التي تعرفها البلاد طيلة فصول السنة لان بلدة أخرى فيها تسمى نواديبوا أي ان الاسم الأول “نوا” متكرر أي انه ذو معنى قائم الذات كما هو الحال مثلا في تسميات “اغ ” بمالي والنيجر . التقى الكاتب وصادق الفنانين كالفنانة المشهورة المعلومة بنت الميداح و السياسيين كالرئيس الأسبق المرحوم المختار ولد دادة الذي كان الكاتب اخر اعلامي يحاوره قبل وفاته رحمه الله بمنفاه الباريسي الذي يقيم فيه منذ الانقلاب عليه في سنة 1978 . استمرت رحلات الكاتب والإعلامي نحو ارجاءالعالم فحط الرحال بجزيرة مارتنيك على سواحل بحر الكاريبي حيث اكتشف جزيرة خلابة يستعمرها الفرنسيون لكن مزاج وكرم أهلها لا يمت بصلة لمزاج الفرنسيين في باريس مثلا. رحلة البرازيل كانت بالنسبة للكاتب تجربة غنية اكتشف فيها مجتمع وبلد مترامي الأطراف ومتنوع الأعراق والأديان ، بلد التناقضات بامتياز بين غنى فاحش وفقر مدقع ولكن الخلاصة الهامة التي خرج بها الكاتب يمكن اجمالها في العبارة التالية :” لا أدرى لماذا تحضرني المقارنة في كلّ رحلة. فهنا اندثرت الملكیات والإمارات، وقامت الجمهوریات العلمانیة، وبقیت التماثیل الدینیة. وعندنا تندثر الجمهوریات وتموت الجماهیر ویصبح الدین ذریعة لقتل التماثیل التي تمجّد الدین… البرازیلیون، كما معظم شعوب أمیركا اللاتینیة، مؤمنون على طریقتهم الخاصّة التي غالباً ما تربط الإیمان بالفرح. لم تؤثر على إیمانهم أحزاب الیسار والشیوعیة ولا أفكار اللیبرالیة والتحرّر. 89 في المئة من الشعب البرازیلي مسیحیون، بینهم 64 في المئة كاثولیك و 22 في المئة بروتستانت. لكنّ البرازیل، منذ عام 1891 ، تبنّت الدستور العلماني. تعدّدت مصادر الأدیان في البلد الشاسع عبرالتاریخ. عزّزتها موجات هجرةالأفارقة والعبید الذین كانوا یقاومون المستعمر والمستبدّ بالدین. أمّا حالیاً، فإنّ نسبة المؤمنین أو الملتزمین دينيا، تسجِّل تراجعاً. تنبتُ هنا وهناك حركات دینیة أخرى بعضها یُثیر الاستغراب. نجد مثلاً ما یقارب 800 ألف شخص ینتمون إلى شهود یهوا، وإلى جانبهم ینتشر الإنجیلیون الجُدُد، أو الروحانیون، أو غیر المتدیّنین. یُحكى عن تغلغل یهودي إسرائیلي عبربعض الأدیان. أمّا المسلمون فهم یشكّلون ما نسبته 0,5 في المئة من الشعب البرازیلي. ویُقال إنّ عددهم یراوح بین ملیون وملیون ومئتي ألف مسلم.” خصص الكاتب والاعلامي سامي حيزا هاما في كتابه للزيارة التي قام بها للاتحاد السوفياتي سابقا ،روسيا حاليا وحكى عن مدينة سان بطرسبورغ وتاريخها و حالها و يمكن تلخيص زيارته للمكان في عبارة انيقة “التاریخ یكتبه دائماً المنتصرون. انتصر بطرس الأكبر على جور الطبیعة فبنى أجمل المدن. ثمّ انتصر البلاشفة على عائلة رومانوف القیصریة، فصدّروا من المدینة أهمّ ثورات التاریخ. ثمّ انتصرالفقر والجمود السیاسي على الثورات،فاستعادت المدینة اسمها التاریخي، وغداً قد ینتصر الحاضرعلى التاریخ، فیتغیّر الاسم مجددا، لكنّ الثابت الوحید، هو أنّنا الیوم في إحدى أجمل مدن العالم وأرقاها وأكثرها لطافةً وعراقةً، نحاول أن نقیم حواراً بین الأدیان التي قیل عنها هنا ذات یوم، إنّها أفیون الشعوب.” رحلة الكاتب لكوبا ، لم تكن عادية بالمرة اذ ان الاتجاه اليساري العميق الذي يسري في عروق سامي منذ صغره و العداء المستبطن لكل أنواع الاستعمارو اشكاله يجعل سامي يقدم من جديد مرافعة نضالية ضد الحصار الراسمالي الذي تتعرض له كوبا وخلص في رحلته الى كوبا الى ان الحصار قد يكون اضر اقتصاديا وسياسيا بالشعب الكوبي لكن ذلك لم يزد الشعب الكوبي الا إصرارا على الحياة والفرح و جعل المجتمع الكوبي يبذل مزيدا من العمل الجاد من اجل نهضة وتقدم كوبا التي تسجل فيها نسبة الامية أرقاما قياسية 0 في المئة كيف لا يكون الإعلامي صاحب الكتاب متعاطفا مع كوبا ضد الحصار الأمريكي والغربي عموما وهو الذي عشق كل ما له صله بشي غيفارا الشخص والاسطورة وماتزال أغاني الثورة الكوبية وصور غيفارا تعني له الشيء الكثير . يقول سامي :” كنّا نعبر بین كلّ هذا الجمال والتاریخ والتراث والصمود، فیسرح ذهني ناحیةَ التاریخ الإسباني الاستعماري والدموي، في هذا البلد. فكرت كذلك في تلك الأیّام القاتمة التي عرفتها المدن الجمیلة هنا، حین كان استعباد الأفارقة أمراً عادیاً عند البیض. جيء بالفقراء والمحرومین والمظلومین إلى هنا للعمل في مزارع ومصانع قصب السكّر. كثیرون ماتوا بسبب الأمراض والفقر والعذاب. قُهروا وماتوا لسواد لونهم، ولحاجتهم إلى عمل. تركوا خلفهم كلّ هذا الجمال الذي بنته أیادیهم المتشققة وجباههم المتصبّبة عرقاً، وتركوا لوناً خلاسیاً یختلط فیه الأبیض بالأسود، لیجعل من الجمال الكوبي حاضراًمشرقاً، لكن فیه بصمات التاریح القاسي. مزیج الأجناس والألوان خلق شعباً كوبیاً متنوّع الألوان والأعراق، وأكثرَ تسامحاً ومحبّة ورحمة.”
كثيرة هي زيارات سامي كليب التي عكس الكتاب بعض وقائعها وحيثياتها ، من الاندلس الجميلة بمساجدها و ازقتها ومعمارها الذي يشبه معمار المدن القديمة المغربية ، -وحمد الله لان الاندلس عادت الى أصحابها الذين اعتنوا بها- الى جزر القمر والسودان و جنوب السودان … الدول التي لم تستفد من جامعة الدول العربية شيئا مذكورا رغم الإمكانيات الطبيعية الكبيرة التي تؤهلها لاستقطاب استثمارات هامة لم تأت الى اليوم او ربما تأتي قريبا من ايران او إسرائيل ، التي تستهويها هذه الدول الافريقية -المنسية والمنسوبة خطأ لجماعة الدول العربية- وتقيم معهم علاقات وطيدة ، مرورا بتندوف التي وصل اليها من الجزائر والتي وصف بؤس سكنتها وقساوة مناخها التي زادها الجرادوالقحط واليأس بؤسا شديدا، زيارة سامي للهنود الحمر بكندا كانت فرصة من قبله لتعريف القراء بشعب اصلي مايزال يعيش حياته و طقوسه بعيدا عن الحضارة الغربية التي فشلت في اجتثات حضارة الهنود الحمر رغم كل المحاولات . زيارات سامي لدمشق كانت دائما تحمل معها عشق تاريخ دمشق واستحضار للحضارات و التاريخ العريق الذي عاشته سورياـ تكررت الزيارات لسوريا في مناسبات سياسية كبرى كوفاة حافظ الأسد الذي كان سامي كليب من أوائل الصحفيين الذين غطوا هذا الحدث كما توالت الزيارات لاسباب عائلية او مهنية بعد ذلك ، وقد كان التواجد الملحوظ للباس الافغاني لدى نساء سوريا ملاحظة لاحظها بعمق سامي حداد بعين سوسويولوجية قبل اندلاع ربيع دمشق المجهض ، خصوصا وان سوريا ستعرف في السنوات الأخيرة احتلالها من قبل المليشيات الإسلامية من مختلف التوجهات والطوائف . يقول سامي عن دمشق التي في خاطره :” تستحقّ دمشق أن تكون أجمل، وتستحقّ سوریا أن تعود إلى ناسها، كلّ ناسها، وأن یتعلم السوریّون من دروس الماضي والحاضر، فلا فرق بین سوري وآخر، إلّا بقَدْر معرفته بعراقة بلده، وبقدر حبّه لبلده، وتفانیه في سبیله ومن أجله… لا تفرِّق الأبواب السبعة بین سنّي وشیعي وعلوي ودرزي ومسیحي وعربي وكردي وأشوري وسریاني وكلداني وغیرهم…
حین غرقت بالحرب، وتقاطعت في أجساد ضحایاها مصالح إقلیمیة ودولیة كثیرة، عاد إلى خاطري
بیتان من قصیدة رائعة للجواهري:
فَخْراً دِمَشْقُ تَقاسَمْنا مُراهَقةً / والیومَ نَقْتَسِمُ الآلامَ والرَّهَقا
دِمَشْقُ صَبراً على البَلْوى فَكَمْ صُهِرَتْ / سَبائِكُ الذَّهبِ الغالي فما احْتَرَقا
لا بدّ للحرب من أن تخجل یوماً ما من جمال المدینة وعراقة التاریخ » : أغادرها هذه المرّة وأنا أقول
امرأة بسبعة مستحیلات وملتقى الحلم » : لا بدّ من أن تعود دمشق كما قال محمود درویش .« والحضارة”
كما ان سامي افرد فقرة مهمة عن زيارته للصحراء المغربية و تغنى بطقوس الشاي فيها و اثنى على طيبوبة أهلها ، ” للشاي هنا طقوسه. یُسكب من الإبریق إلى الكأس، ومن كأس إلى أخرى، ثمّ یُعادُ إلى الكأس الأولى،ثمّ یكرّر ساكب الشاي هذه الحركة مرّات عدّة. وكلما ارتفعت یده وهو یسكبه، صار الطعم ألذّ وأطیب.یقال هنا إنّهم یرفعونه عالیاً لیكتسب مزیداً من الأوكسجین، أثناء انسكابه في الكأس. لونه أشقر إلى بنّي فاتح، وله في عدد كؤوسه طقوس،بعضها یتعلق بالواجبات والضیافة، وبعضها الآخر بالحب والغرام. فالكأس الأولى لها أسبابها، والكأس الأخیرة لها أهدافها. علیك أن تفهم ذلك كلَّه ذلك كي تزداد متعتك بطعم الشاي.
أهل الصحراء وكرم الضیافة صنوان. یتسابقون على استضافة زائرهم. یتبارزون في تنویع المآكل واللحوم والأسماك. تنزل اللحوم بكمّیات لا یتخیّل المرء أنّه سیأكل واحداً في المئة منها. لیس غریباً أن تجد خروفاً بقضّه وقضیضه على المائدة، وكلّ ما فیه وعلیه مطهُوٌّ على نحوٍ یجعل اللحم ینزلق في الفم ىانزلاقَ القشطة أو المهلبیة في بلاد المشرق.”
ولكن الذي استوقفني كثيرا في رحلاته هو وقوفه مليا في زيارته للمغرب وللجزائر على المطالب الامازيغية في البلدين وقام بشبه مقارنة في ثنايا الكتاب بين الحركة الامازيغية في المغرب والجزائر ، لكن ما اثارني اكثر في تناول الكاتب الصحفي في موضوع الامازيغية في المغرب والجزائر ان الكاتب غلب عليه انتماؤه او قل عاطفته العروبية في تناوله لموضوع الامازيغية وسقط في استنتاجات خاطئة واحكام على الامازيغ بالبلدين لم تكن صحيحة بتاتا ، فامازيغ المغرب وحتى الريافة منهم لا يطالبون بالانفصال ابدا ولم يسبق لهم ان رفعوا مطالب بعودة جمهورية الخطابي وان كان قليل جدا من الريافة خارج المغرب يمكن ان يصدر عنهم ذلك ،لكن القليل لا يقاس عليه. يقول سامي مثلا :” وحین زرت المملكة المغربیة في مطلع عام 2018 رأیت أنّ اللغة الأمازیغیة باتت حاضرة بقوّة إلى جانب اللغة العربیة. لعلّ المملكة نجحت في سحب فتیل انفجار كبیر كان سیشكّل دون شكّ مادّة خصبة لتدخلات خارجیة. مع ذلك، ففي أواخر عام 2017 كانت بعض التظاهرات المطلبیة في الریف المغربي وخصوصاً في منطقة الحسیمة، تشدّ بعض اللافتات والمطالب المؤيدة للانفصال وللعودة الى تأسيس *جمهورية الخطابي* تيمنا بالثائر التحرري التاريخي الكبير عبد الكريم الخطابي . “.. لكن المستغرب له اكثر هو ان يقول سامي بان نسبة امازيغ المغرب هي 40 في المئة وهذا رقم خاطئ جدا وبعيد عن الحقيقة و التاريخ فأمازيغ المغرب يتجاوزون هذا العدد بكثير ، والمغرب تاريخيا كان بلد الامبراطوريات الامازيغية المترامية الأطراف فكيف يمكن ان يكون الأصيل والاصلي قليل العدد؟ ، كما ان الأسئلة التي طرحها تسير نحو التشكيك في نوايا الامازيغ في المغرب والمنطقة عموما وهذا امرفيه ظلم كبير جدا لساكنة اصلية قاومت منذ قرون للحفاظ على ثقافتها وهويتها وتراثها ، لنرى أسئلة سامي : ” هل حضور اللغة الأمازیغیة سیخدم التنوّع الثقافي، أم یُراد له محاربة اللغة العربیة والانتقام منها، ومن الإسلام عامّة؟ أخشى، شخصیاً، أن یكون مَن یحرّك بعض الخیوط الأمازیغیة، لیسوا دائماً حریصین على المغرب العربي وتاریخه ومستقبله. وما أكثر الذین مِن النخب الأمازیغیة في المملكة، یعرفون ذلك، ویعْملون على منعه، لأنّهم متعلّقون بدولتهم، على قدَم المساواة مع تعلُّقِ العرب بها، وربّما أكثر منهم، في بعض الأحیان.” نعم الامازيغ ليسوا ابدا حريصين على كيان عنصري اختزالي اسمه المغرب العربي ، بل يسعون الى بناء كيان جامع ممانع وقوي وذو بعد حضاري انه المغرب الكبير . بنفس المقاربة التشكيكية ولو بشكل ناعم لامازيغ المغرب من طرف سامي ينتقل الى لغة أخرى اكثر ايلاما و تشكيكا في امازيغ الجزائر و هم الذين ناضلوا ضد الاستعمار الفرنسي وسطروا ملامح بطولية في الصمود و التضحية و لم يستفيدوا من استقلال الجزائر سوى الانكار والسجون والمنافي وكان معظمهم سندا للتعريب و الاسلمة ضد هوياتهم الاصلية . يقول سامي مقاربا موضوع تعامل السلطات الجزائرية لحراك امازيغ الجزائر وكأنه يعاتبها على تنازلاتها التي هي في الحقيقة بصيص حقوق تاريخية وثقافية و لغوية ،كان بالاجدر لاي حقوقي في العالم ان يساندها و يدعهما ،لان بالحقوق تبنى الأوطان لا بالانكار والمصادرة والاهانات و دائما بنفس المنوال التشكيكي المضمر يقول الصحفي سامي :” تُقدِّم السلطات تنازلاً تلْوَ الآخر، ربّما بقناعة، أو لاحتواء الغضب، أو خشیةَ المقاطعة الانتخابیة، أولسحب البساط من تحت أولئك المتسلّحین بالثقافة واللغة لضرب الوحدة الوطنیة. لكنّ الغریب في الأمر، أنّ من یزور بعض مناطق القبائل سیسمع كلاماً عنصریاً ضدّ العرب والعروبة، لا بل ضدّ ما يصفه بعضهم ب “الغزو الإسلامي” على الرغم من تعلّق الأمازیغ الكبیر بالدین الحنیف. مرّة ثانية أسأل هنا كما سألت في المغرب: هل تتطلُّب حمایةُ اللغة والثقافة الأمازیغیتین ضرْبَ اللغة العربیة والتراث، أم ثمّة أمور أبعد وأخطر من اللغة والثقافة؟ وهل یحمي البربر ثقافتهم بضرب الثقافة الأخرى؟ هل یحاربون العنصریة بمثلها أو بأسوأ منها، حتى لو وَجَب أن تُصانَ ثقافتُهم ولغتهم وحضارتهم وأنْ تبرز؟. .امازيغ الجزائر والمغرب ليسوا بربرا وليسوا عنصريين ولا يحاربون العربية والإسلام بل يناوؤن التعرب كسياسة تذويبية استئصالية والاسلام السياسي كاديولوجية دخيلة هدامة مفقرة للدين نفسه ، لا غير والفرق كبير جدا ما بين التعريب والعربية والإسلام والإسلام السياسي . الامازيغ دعاة حقوق ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية تتعلق بالكرامة و إعادة الاعتبار و توزيع عادل للثروات وبناء اوطان حرة ديموقراطية هذه هي مطالب الأغلبية منهم ، اما دعاة الانفصال فاقلية محدودة .و شعبيتها ضعيفة هذه هي الحقيقة .
تستمر رحلات سامي في الكتاب ومعها الشوق الى رؤية السلم والسلام والحقوق تينع ببلداننا، كما ان في ثنايا الكتاب حب بل هيام سامي لامه (التي رحلت رحمها الله تعالى )وقريته و رجالاتها ، فجاء الكتاب متقنا متكاملا فياضا بمشاعر الحب والفرح ، مشيعا للامل في المستقبل ، متأسفا عن واقع بلدان ينخرها الحرب والجوع و يسود فيها الظلم والطغيان باسم الأديان والطوائف. لن نستمر مع رحلات سامي الى باريس والدار البيضاء و تونس وجيبوتي و أمريكا والمكسيك … لكن نحن نتوقف هنا لنقول بان كتاب سامي الرحالة جدير بالقراءة و غني بالمعرفة التاريخية ووثيقة تاريخية هامة تعطي فكرة عن التنوع الثقافي والديني و السياسي في البلدان التي زارها و يغري الكتاب -الرحالة -بقراءة الكتب الأخرى للأستاذ والإعلامي سامي كليب الذي نقدر عمله الإعلامي الهادف ونحترم شخصيته الثقافية والعلمية المحترمة والاهم من هذا وذاك تواضعه الذي يخفي أحيانا علمه الغزير ونبل شخصيته. .
.
*انغير بوبكر
المنسق الوطني للعصبة الامازيغية لحقوق الانسان بالمغرب
باحث في قضايا الديموقراطية والتعدد الثقافي وحقوق الانسان
حاصل على دبلوم السلك العالي للمدرسة الوطنية للادارة بالرباط
خريج المدرسة المواطنة للدراسات السياسية
دبلوم المعهد الدولي لحقوق الانسان بستراسبورغ
عضو اللجنة الجهوية لحقوق الانسان لجهة كلميم وادنون
Ounghirboubaker2012@gmail.com