إلى فتية المقر الحمر..
في تموز ٢٠٠١ شددت رحلي وحقيبتي والهدايا، مسافراً من ستوكهولم صوب أربيل، وبالتحديد قاصداً مدينة شقلاوة الأربيلية، وعلى أمل اللقاء بأهلي، وبعد فراق ٢٢ عاما، في حينها، وكنت قد أوصلت لهم خبرا عن طريق بعض الأصدقاء، مع دعوتهم للقدوم من أجل اللقاء في مدينة شقلاوة ….
الطريق من مدينة ستوكهولم السويدية صوب أربيل وشقلاوة، لم يكن باليسير السهل، ويتطلب السفر أولاً بالطائرة إلى دمشق في سوريا، ومنها بالسيارة ولساعات، إلى مدينة القامشلي الحدودية، ومنها بالسيارة وفي طريق متعرج وصعب حتى ضفاف نهر الخابور، ومن ضفة نهر الخابور هذا يتم الإنتقال بواسطة الأكلاك المصنوعة من جذوع الأشجار والمربوطة بأطارات مطاطية كبيرة، صوب الجهة الأخرى، حيث تنتظرك بناية شيدتها حكومة الإقليم، وصارت ما يشبه المنطقة الحدودية، حيث يسجل القادمون أسماءهم، ويسمح لهم بالمرور بعد دفع مبلغ 50 دولار…
ومضت الأمور دون منغصات وعسر، ورغم ثقل حمل الحقائب وطول الطريق ومحطات السفر، وأستأجرت سيارة صغيرة من ضفة الخابور العراقية بأتجاه مدينة أربيل.
في حينها كانت أربيل خارج سيطرة حكومة نظام البعث،بعد أن حررتها انتفاضات الجماهير، وباقي المدن الكوردستانية، من سيطرة النظام، وهذا ما سهل كثيراً من السفر إليها من خارج الوطن، وأيضاً من باقي محافظات الوطن .
وصلت مدينة أربيل، ومنها واصلت السفر الى شقلاوة، ومكثت فيها أياما في لجة وعذاب الإنتظار الذي عشت لحظاته وأنا أرسم صور اللقاء بأهلي، هناك في مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، والذي يقع فوق قمة عالية في طرف المدينة، وقد طال انتظاري هناك، وفات الموعد ولم يأت أحد..
بعد ٢٠٠٣ وحين سنحت الفرصة لزيارة العراق والمدينة والأهل، وإستذكار صور وفصول تلك الأيام القاسية، ومنها علمت بأنهم قد حزموا الأمر لملاقاتي في تلك الأيام، ولكنهم تترددوا قليلا بسبب الخوف من اكتشاف الأمر وما يترتب على ذلك، خصوصاً وأن دائرة الأمن في الكوت كانت تراقب كل تحركاتهم، وترسل وبشكل دوري الدعوات لمقابلة أحد أفراد العائلة، وتتبع أخباري…
رغم الألم والحزن وقتها لعدم تحقق حلم اللقاء بأمي وأبي وأهلي، لكني حظيت باللقاء مع أجمل وأنبل وأنقى بشر، أقصد رفاقي الشيوعيين، وقد سنحت الفرصة لي للتعرف برفاق جدد لم ألتقيهم من قبل ..
لا زلت أذكر كلمات الخالد الشهيد وضاح (سعدون)، رفيقي من أيام حركة الأنصار في قاطع أربيل :
ولا يهمك لا تحزن…نحن أيضا أهلك .. –
وكانت عائلته وعائلة زوجته العزيزة دنيا ام كفاح وأهلها، في قمة الكرم والطيبة، حيث سنحت الفرصة لمرافقته في زيارتهم وتلبية دعوة الدولمة الشقلاوية، والتعرف على الجميل الصغير كفاح ابن الشهيد سعدون..
ودعاني الرفيق العزيز مفيد الجزائري (أبو نيسان)، وهو المشرف والمكلف بشؤون إعلام وإذاعة الحزب، للتعاون والعمل مع طاقم التحرير الإذاعي، وتوفرت لي أعداد كبيرة من الصحف والمجلات الصادرة في بغداد، ومن أجل الإستفادة منها في صياغة الأخبار والمواضيع ..
ومكثت هناك أياما جميلة وخالدة، وأحلى ما فيها هو تعارفي وتعاوني مع الرفاق المكلفين بالبث الإذاعي في موقع التحرير الإذاعي، ومنهم الراحل الفقيد أكرم، صديقي ورفيقي في الأنصار، وعبر تحرير المواد والمواضيع .
وأذكر أنهم دعوني مرة لقراءة ملحمة الشاعر الشيوعي عزيز السماوي، في البث الإذاعي، مع نبذة عن حياته وتجربته الشعرية، كنت قد أعددتها وأنا في لجة الحزن لرحيله، وقد غادرنا في الثامن من أذار 2001….وكانت فرحتي كبيرة ليس لقراءة النص، بل لشعوري بأن الناس في الوطن الجريح المبتلى بدكتاتورية صدام،سيسمعون صوتي، وكلمات السماوي ..
خطار عنده الفرح نعلك صواني شموع
خافن يمر بالعكد رش العكد بدموع
ومن المصادفات الجميلة التي بقت عالقة في ذهني، تعارفي مع رفيق شاب رائع من أهالي مدينة شقلاوة، من العاملين في اذاعة الحزب التي كانت تبث من هناك، حيث صادف امتلاكه لدراجة بخارية موتوسيكل، وكان يدعوني لتمضية أوقات جميلة في المساء وعلى دراجته، للجولة في شوارع شقلاوة وحاراتها، مروراً ببستتينها وحدائقها الجميلة، التي تسورها أشجار الرمان والعنب.. وكنت أستمع له خلال الجولة وهو يقص عليًّ تفاصيل الأحداث المرتبطة بالأمكنة وأنا أجلس خلفه والدراجة تجوب الأماكن…
– هنا مر الأنصار الشيوعيون…هنا تصدى البيشمركة لزمر الأمن..هنا أستشهد عدد من الناس..هنا تجمع الناس وهتفوا ضد البعث وزمره….
وكنت أحسد رفيقي على دلالته ومعرفته بالأمكنة، وذاكرته النشطة.
ومع نسيم المساء الجميل وألوان الحدائق والبساتين الممتزجة بروائح الورود والأثمار والعشب، جلسنا في أحد المساءات، في كازينو جميلة يحيطها الشجر والماء والخضرة، وفوق أرائك خشبية صفت بعناية فوق العشب الأخضر، في لمة أنصارية رفاقية صغيرة، ملبين لدعوة الرفيق العزيز مفيد أبو نيسان..الأجواء أكثر من جميلة، والأحاديث تمتزج بذكريات الجبل وأخبار الوطن، وبعضاً من ذكريات براغ التي جمعتني بالرفيق العزيز مفيد الجزائري، ولم يعكر من مزاجي طوال الجلسة، سوى جلوس أحد الرفاق الأنصار من رفاقي وأصدقائي في حركة الأنصار الشيوعيين، ليس بعيداً عنا، وكان مكلفاً مع رفيق له في مراقبة المكان وضمان تأمين الأمن لنا. كنت ألوب كاظماً ألمي وعدم قدرتي على هضم الموقف، وكنت أريده أن يشاركنا الجلسة، كما كنا نتشارك في كل التفاصيل أيام الجبل والمقاومة، وقد فطن الحضور لذلك، ونبهني الرفيق الذي يجلس جنبي بأن لا أبالغ بالأمر، إذ لابد لنا أن يحرس بعضنا الأخر، وهي مهمة يمكن أن نتكلف بها جميعاً…
صحف الثورة والجمهورية، وعدد من المجلات والمطبوعات التي تصدر في بغداد، كانت تصل وبشكل يومي إلى أربيل وشقلاوة، وكانت هذه المطبوعات مادة دسمة للرفاق العاملين في إذاعة وإعلام الحزب للإستفادة منها ومن معلوماتها، ومن أجل كتابة وتحرير مواضيع وريبورتاجات صحفية، حول المواضيع الآنية منها، ووفق تصورات حقيقية وواقعية، غير تلك التي يزخرفها ويرندجها النظام في الإعلام، وكوسيلة للدعاية والترويج .. وفي مساء من تلك الأيام، وكنت أجلس وحدي وسط الصحف والمطبوعات، صعقني خبر صغير منزو، في صفحة من صفحات أحدى الجرائد الرياضية :
(( سيكون طاقم التحكيم الرياضي الذي سيقود مباراة فريق أربيل والنفط بكرة القدم، والتي ستجري يوم الجمعة، في ملعب أربيل، مكوناً من الحكام …….. ))، حيث وردت أسماء لأربعة حكام كرة قدم، وأسم أخي الحكم الرياضي فراس (أبو حمزة) ضمنها، وكانت تصلني أخبار اهتماماته ونشاطاته الرياضية في كرة القدم وكرة اليد، وبالتحديد تدرجه في التحكيم الرياضي لكرة القدم ونيله الكثير من الشهادات التقديرية في هذا المجال، وكان قد قاد تحكيمياً الكثير من المباريات المهمة…
كانت فرحتي لا توصف وأنا أعد اللحظات في انتظار يوم الجمعة موعد المباريات، وأخبرت الرفاق في رغبتي للذهاب والسؤال عن أخي، ومشاهدة المباراة، وقد عبروا عن فرحتهم للخبر والذي عساه أن يخفف من حزني وغضبي لعدم تحقق حلم اللقاء بالأهل والعائلة…
– هذه جاءتك عدلة وفي الصميم وتعويضية …بدل الأهل سيحضر الأخ……
هكذا عبر الرفيق الذي شاركني صحن مرقة الفاصوليا والرز في مقر الحزب في تلك الظهيرة، والذي أعادني لأيام الجبل والأنصار.
صباح الجمعة لم يكن يوماً عادياً بالنسبة لي، وأنا أحبس أنفاسي منتظراً لحظة اللقاء بأخي فراس، الذي لم ألتقيه منذ صيف عام 1978، وكان حينها طالباً في الثانوية، حين غادرت العراق هرباً، ودون وداع أحد من الأهل، ودون علمهم بالطبع..
الطريق من شقلاوة صوب أربيل ليست طويلة جداً، وتمر بمناطق جميلة وعبر طريق تكثر فيه الإلتواءات صعوداً ونزولاً . أول ما وددت معرفته في أربيل هو مكان إقامة الوفد الرياضي القادم من بغداد، والذي يضم فريق النفط الذي سيلاقي فريق أربيل، ومعهم أيضاً طاقم التحكيم الذي سيقود المباراة، وضمنهم أخي الذي أتحرق لملاقاته..
فندق شيراتون أربيل يزهو ببنايته الكبيرة ومرافق الخدمات الكثيرة فيه، وهو يقع في منطقة لا تبعد كثيراً عن مركز المدينة، وكان في الغالب مكاناً لإقامة الوفود السياحية، التي تزور المدينة، وكان أيضاً المكان المفضل لإقامة الوفود الرياضية القادمة من بغداد وبقية المحافظات، وكان أحد باعة الصحف قرب قلعة المدينة قد اخبرني بأن الوفد الرياضي القادم من بغداد يقيم في هذا الفندق، وقد شكرته وأنا أقتني منه عددا من الصحف، ومنها صحيفة رياضية أفردت الكثير للحديث عن تلك المباراة…
وصلت الفندق، وكانت الظهيرة قد زحفت بقيظها وشدة حرها، والمدينة ليست بضجتها خصوصاً مع وقت الغذاء وتزاحم أصوات المؤذنين.
عند البوابة أوقفني الحارس للسؤال، وشرحت الأمر، وسمح لي ودخلت متجهاً صوب واجهة استعلامات الفندق الفخمة جداً، ونبضات قلبي تتسارع، وبدا الإرباك واضحاً في خطواتي..وهناك وبعد السؤال عن حكام مباراة اليوم، أشار لي أحد عمال الفندق، ويبدو أنه من عشاق الرياضة وكرة القدم، إلى أريكة فخمة في القاعة العريضة المبهرة، قائلاً:
– هناك يجلس الجماعة الحكام… ضيوفنا …
وتوجهت نحو المكان وقد سبقتني كلماتي بالسلام وبالتحيات وأنا أتطلع في الوجوه باحثاً عن وجه أخي الحكم فراس عبد خطاوي، ودون أن ألحظه …
لم تخفف كلمات الأخوة الحكام من حزني ومشاعر الفشل والإحباط لعدم تحقق حلمي بملاقاة أخي، وقبلها أهلي، وكانوا قد استقبلوني وعانقوني بحرارة، بعد استماعهم لحكايتي، وجهودي لسماع أخبار أهلي وملاقاتهم، ومنهم علمت بأن اخي كان له مقرراً ان يأتي الى أربيل وضمن الطاقم التحكيمي، ولكن تغييرات حدثت في طواقم التحكيم، وقد ذهب لتحكيم مباراة أخرى في محافظة أخرى ..
ودعت الأخوة الحكام شاكراً لهم حفاوة إستقبالي داعيا لهم أن لا يصيبهم مكروه، وقد ودعوني ووعدوني بإخبار أخي فراس بالأمر ونقل التحيات له، وكنت فخوراً حقاً بشجاعتهم وتضامنهم معي، وفي موقف لا يخلو من خطورة في تلك الأيام.
وأمضيت الوقت بتناول وجبة التشريب الأحمر اللذيذ في مطعم شعبي قريباً من قلعة المدينة، ومن ثم الجلوس في مقهى واسعة هوائها بارد منعش، لتناول الشاي، ويكون كالعادة بنكهة لا تقاوم بعد وجبة دسمة كالتشريب…وهناك مضى الوقت بمطالعة الصحف منتظراً أن يحين الوقت للذهاب الى ملعب المدينة، هناك حيث تقام المباراة، وعساها تخفف بعضاً من صدمة اليوم..
وفي سيارة باص صغيرة محشورة بالمشجعين من أهل المدينة، توجهت لمكان المبارة في ملعب المدينة، ملعب فرانسو حريري، كما سموه لاحقا…وبعد شراء بطاقة دخول أخذت مكاني وسط الآلاف من الناس، وكان معظمهم من الشباب، ووسط الهتافات الرياضية، والأغاني الشعبية الرياضية التشجيعية، والطبول والموسيقى، وصرت واحداً منهم، وأنا أملأ جيوبي بالبزر الأبيض، وأردد معهم منسجماً بأجواء المكان وطقوس المشهد، يساعدني في ذلك إتقاني بحدود معقولة اللغة الكوردية التي تعلمتها من رفاقي الأنصار الأكراد في حركة الأنصار البيشمركة في الجبال والسهول..
بدا لي المشهد درامتيكياً بعض الشيْ، ولم استطع فك طلاسم الحال وملامح صورة الوضع في ذلك الزمن، خصوصاً وأنا اجلس لمشاهدة مباراة لفريق قادم من محافظة عراقية أخرى خاضعة لسلطة نظام صدام وعصابته، يقابل فريقا آخر لمدينة مثل أربيل خاضعة لسلطة الإقليم، وان الدوري العراقي لم يستثن فرق محافظات اقليم كوردستان، رغم احداث انتفاضات الشعب فيها في 1991، واستبدال السلطة فيها.
كنت اراقب اللحظات الأولى لإطلاق صفارة الحكم، والذي كان يفترض أن يكون أخي بدله أو بديلاً لأحد مساعديه، ولم تكن مشاعري تميل لتشجيع فريق النفط ولا فريق أربيل، بل كنت مشغولاً حقاً في مراقبة ما سيحدث تزامناً مع دخول لاعبي الفريق الضيف القادم من بغداد، وأعني فريق النفط، ولا أكتم سراً أن مشاعري كانت تنتظر استقبالاً طافحا بالسباب والشتائم والصراخ والفوضى، وبالذات من مشجعي أربيل، وهي المدينة التي اكتوت كثيراً من ويلات الأنفال والتهجير، ولم يخلو بيت من بيوتها من صور لشهيد جراء بطش النظام وإجرامه، خصوصاً واني قد سمعت وعايشت الكثير من الأفكار والتصورات الخاطئة لعدد من الناس الذين يخلطوا بين جرائم نظام البعث ومن إرتكبها، وبين الناس في المحافظات والمدن الأخرى، غير محافظات الإقليم، أي بمفهوم خاطئ حرب العرب ضد الكورد.
وفي حماس هادر وبالهتافات والتشجيع والتصفيق والصفير، وقف الجمهور في كل مدرجات الملعب الضخم، لتحية وإستقبال فريق النفط الضيف القادم من بغداد، خصوصاً وأن الفريق قد ضم في وقتها عدداً من لاعبي المنتخب الوطني العراقي..
انتهت المباراة وعدت الى رفاقي في شقلاوة، لأقص عليهم تفاصيل وأحداث اليوم الذي قضيته في مدينة أربيل، وخيبتي بعد اللقاء مع الحكام لتعذر قدوم أخي، ومشاهدتي واستمتاعي بمباراة كرة القدم. والأكثر من كل الأحداث التي رويتها، هي تلك الروح الوطنية العراقية لمشجعي أربيل فوق مدرجات الملعب، الذين لم تركنهم الأحداث والمصائب لزاوية الأحقاد والكراهية، والذين تعلمت منهم دروساً في الوطنية وفي حب الأوطان والتمييز بين القاتل وبين جلدته وقومه ودينه ومذهبه.