تعود قدسية النار عند أغلب الشعوب والحضارات القديمة إلى كونه ممثلاً للشمس على الأرض، أو تجلياً لإله الشمس في الكون. وأول معرفة الانسان للنار قبل ملايين السنين، كان من خلال مشاهدته لمقذوفات البراكين أو حدوث الصواعق من برق ورعد، أو اشتعال الغابات نتيجة الصواعق أثناء المواسم الحارة، بحيث كان الانسان البدائي يخاف خوفاً جماً من النار عندما كان يراه تلتهم الغابات والحقول من دون رحمة، ومن دون ان يتمكن هو التدخل والتحكم فيها، مما دفعه إلى الاعتقاد ان هنالك قوة غيبية وراء النار، وتخيل أن النار آلهة، فاتخذه معبوداً، كما عند العديد من المظاهر الطبيعية، وقدسه اما لطاهرته والانتفاع من حرارته أو اتقاء لشرّه، وبذلك اتخذ له طقوساً في مواسم معددة أو على مدار السنة. ولنا دلالات كثيرة بعبادة وتقديس النار تحتفظ بها أساطير وقصص أغلب الشعوب، نذكر منها وجود (نسكد) إله النار السومري-البابلي تحت الأرض (جورج حبيب ، اليزيدية بقايا دين قديم، بغداد 1978، ص 33.) ، وكان السومريين والبابليين عند بناء معبد جديد للالهة يشعلون النار في المساء ويقدمون القرابين، ويقومون بتطهير الموقع باشعال النار حول الأسس ورشها بالعطر، مع تنظيف المدينة واشعال النار حولها (دراسات في التاريخ وآثاره، مجلة جمعية المؤرخين الآثاريين في العراق، العدد 5، ص 21-22.) . وكان الكلدانيون يوقدون النيران للاله (شمش-شمس) في مدينة (سيبار Sipar) ولا تنطفي نيرانها تكريماً له (الدملوجي، فاروق، الالوهية في المعتقدات الوثنية، ج2، ص 11. وكذلك: جورج حبيب ، مصدر سابق، ص 32.). ويذكر هنا أيضاً اسطورة الإله (بروميثوس) الأغريقية لنقله النار من السماء إلى الأرض. كما اعتقد العرب في (العصر الجاهلي) أن النار أوسع العناصر خيراً وأعظمها جرماً وأشرفها جوهراً ( جاسم محمد شفيع، النار في المعتقدات العربية، مجلة التراث الشعبي، العدد الأول، السنة الخامسة 1974، ص 89. (مقتبس من كتاب: أحمد ملا خليل، من آذربيجان الى لالش، تحقيق وتعليق د. خليل جندي، سبيريز/دهوك 2006، ص 76)) . وكان إله السماء (شانغ تي) من أعظم آلهة الصين منزلة وقدراً (رشيد عليان وسعدون الساموك، الأديان، دراسة مقارنة، ص107.)، أما الشنتوية اليابانية كانت أحد أركان ديانتهم تقوم على “الايمان بأن النار مطهر”( فاروق الدملوجي، تاريخ الآلهة، الكتاب الثاني، ج1، ص 59) .
لا نجافي الحقيقة إذا قلنا ان قدماء الآريين هم أكثر المجموعات تعلقاً بعبادة وتقديس النار، فالنار مقدسة وهو العنصر الفاعل من هذا الكون لطرد الظلمة واحياء روح الانسان من الشرور، وان اشعال النار في العائلة يدل على الحياة وانطفائها يدل على الموت، لهذا نجد لوقتنا الحالي يقول الايزيديون لمَنْ تأتيه مصيبة “چرایێ وی ڤەمریا= chiraye wi vemirya) بمعنى: انطفأ نور مصباحه”. وعندما كان (السنجق- الطاووس) يتجول في القرى الايزيدية، وبعد انتهاء القوالين من تقديم المراسيم الدينية مساءً، كان يشعل مجموعة من الفتائل المصنوعة من القطن الممزوجة مع زيت الزيتون ويعطيها لأصحاب العوائل قائلاً لهم “هذا فتيل عائلتك المشتعلة”.
لقد عبد المجوس، ومن بعدهم الزرادشتيون النار، وبنوا له بيوتاً خاصة توقد فيها النيران المقدسة وتسمى “بيوت النيران”. وعبدت النار بشكل مباشر من قبل الشعوب الهندوايرانية بحيث أصبحت النار رمزاً للإله الهندي الأعظم (آكني- آجني)، النار تلك المادة الخالدة ومصدر الحياة. وقد خصصت الريغ فيدا، كتاب الهندوس المقدس، مجموعة أشعار الى النار (آجني) وإله المطر (اندرا). وكان الكهان لا ينفخون في النار بافواههم لئلا تنجسه بأنفاسهم. ومثَل النار عند الزرادشتية رمز آهورامزدا وتجلياته على الأرض، باعتباره رمز الطهارة والحرارة والفرح والمحبة، تشتعل في البيوت لطرد القوى الشريرة (الاهريمنية)، كما اعتقد الزرادشتيون أن أرواح الموتى (الفروهر) ترتاح وتفرح وتستأنس بها (الدملوجي، فاروق، مصدر سابق، ج1، ص 96. (مقتبس من: أحمد ملا خليل، مصدر سابق، ص 74)). ويعتقد أحمد ملا خليل بأن اسم (أهريمن) الذي توصفه الزرادشتية بإله الشرّ، مركب من كلمتين (آهر= النار) و (مان= الباقي) عكس الزائل، وبتركيب اللفظتين يصبح المعنى (النار الأزلي) أو (النار الخالد) لذا عبد المجوس القدماء النار لأنها رمز لـ (أهريمن)، وحتى أن النار في الدين الزردشتي، حسب اعتقاده، رمز لأهريمن والشمس رمز لآهورامزدا، وإلا لماذا يحرم ولا يجيز لأشعة الشمس أن تقع على النار ؟(ملا خليل، أحمد، من آذربيجان إلى لالش، مصدر سابق، ص 76.) وهذا يدل على أن (اهريمن) ليس بإله للشرّ!
لن نبالغ إذا قلنا ان الايزيديون من بين أكثر المجموعات البشرية، إلى جانب الزرادشتيين والهندوس، التي تنظر بعين التبجيل والتقديس للنار في الوقت الحالي، فلا تخلو مناسبة وطقس ديني إلاّ ويشعل فيهاالنار من خلال المصابيح الزيتية (هلكرنا جرا) ممثل ورمز الشمس (ئاتون= روز) على الأرض. ففي معبد لالش، أقدس أماكن أتباع الديانة الايزيدية، تشعل الفتائل الزيتية يومياً عند المساء في وادي لالش، وأيام الأربعاء والجمعة والمناسبات في جميع المزارات الموجودة بقرى وقصبات الايزيدية إضافة إلى العديد من بيوت رجال الدين.
اشعال النار في معبد لالش يومياً (صورة رقم 2)
وفي الأعياد والمناسبات التي تقام في المعبد، خاصة عيد الجماعية وأربعانية الصيف والشتاء، يشعل النار”فتائل زيتية” في مصباح يطلق عليه (جَقَلْتو Chaqaltu) وسط باحة معبد لالش مع أداء رقصة السماع من قبل رجال الدين ودورانهم حول (جَقَلْتو) لثلاث مرات.
طقس السماع “سما” (صورة رقم 1)
اناء معدني يتقل فيه النار مع البخور تسمى (طاو-تاو)
ومن الجدير الإشارة إلى أهم وأعرق طقس يمارس لحد الآن تسمى (عيد بيلندا Belanda) عند ايزيدية العراق، و (عيد باتزمي Batizmi) لدى ايزيدية سوريا وتركيا وذلك في الأسبوع الأخير (25 كانون الأول) من كل عام، علماً تحتفل العديد من الشعوب الإيرانية بهذا العيد ويطلق عليه (يلدا)، كما يحتفل به المسيحيون باعتباره عيد ميلاد السيد يسوع، ويقول فاروق الدملوجي: ان المسيحيين اتخذوا يوم 13 أيلول من كل سنة، وهو يوم الاعتدال الخريفي، عيداً للصليب وامتاز هذا العيد بايقاد النيران ليلاً على سطوح الدور فيرقصون حولها ويقفزون من فوقها (الدملوجي، فاروق، مصدر سابق، ص 106.). إلاّ أن الواقع، وكما يؤكد فاروق الدملوجي وجورج حبيب، يعتبر 25 كانون عيد ميلاد ميثرا إله الشمس عند الديانة المجوسية قبل الزرادشتية، كما يعتبر عيد (ابوللو) إله اليونان في الاعتدال الخريفي وكلاهما إله النار.
يوجد نفس العيد في الديانة الايزيدية متطابقاً مع التاريخ الميثرائي 25 كانون الأول يعرف بعيد وصيام ايزي أو طاووس ملك، ويلي هذا عيد آخر باسم (عيد كوركا كا Gurga Ga) بمعنى (Guriya Ga)، أي “لهيب/أو شعلة الثيران” إذ كان الايزيديون يوقدون النيران عصر ذلك اليوم، وكان على الفلاحين أن يعبروا بثيرانهم من فوقها، وربة البيت تنثر الحلوى من زبيب وتمر مخلوطة مع حبات الشعير والقمح والبقوليات على الفلاح وثيرانه وسط فرحة صغار وشباب القرية، إيذاناً بانتهاء موسم الحرث وتسليم الحبوب إلى الأرض بانتظار نموها وحصادها وجني محصولها للموسم القادم! بمعنى أن تلك الأعياد والطقوس مرتبط بحركة الطبيعة والتغيرات المناخية والعملية الزراعية.
فلاح يجمع نبتة سريعة الاشتعال تسمى “رَشك” لاشعالها في طقس (بيلندا)
نار عيد بيلندا (عيد كوركا كا Gurga Ga)
أما كلمة (بيلندا- بيلنده) المطابقة لعيد الصليب المسمى (بيت يلده) إذ يشعلون النيران في عصر يوم قبلها ويقفزون من فوقها ويطرحون فيها الزبيب والتمر ويأكلونها مشوية (ملا خليل، أحمد، مصدر سابق، ص 79.). ويعتقد الايزيديون أنه يوم ميلاد ايزيد، أو يوم طاووس ملك وميلاد الشمس، وهذا يطابق يوم ميلاد يسوع المسيح وولادة ميثرا. كما يعتقد الايزيديون أن (بيلنده) هو عيد الأموات، فتأخذ ربات البيوت ما تتوفر لديهن من مأكولات وأضاحي إلى قبور أمواتهن. وأنا مع رأي وتحليل الكاتب أحمد ملا خليل بأن (بيلنده) تعني الولادة، وأنها مركبة من كلمتين (بوون = الولادة = الوجود) و (هلدا= الارتقاء والعلو)، لأن الشمس- ميثرا تشرع بالنهوض والاعتلاء يوم 25 كانون الأول، وهو يوم تخلصها من قبضة أهريمن (إله النار)، وهو رمز ولادتها ويوم ميلاد ميثرا.
أما لفظة (هه تاو- هه تاف – طاف-Hetav- Tav ) الكرمانجية، فالبرغم من علاقتها ظاهرياً بـ (آفتاب) الفارسية، فهي في الحقيقة رمز الإله السومري (اوتو) إله الشمس الذي قُدس لمئات السنين قبل عصر الكتابة كما عبد سكان البلاد العليا (سوبارتوم) وأنهم اشتهروا باسمه المحلي (هوري- خوري). لذا لا ريب في تدرج لفظة (آهر، آور، آكر= النار) الكردية من ذهنية هندية أوروبية تواجد أصحابها في البلاد العليا منذ العصر السومري -الأكدي حيث عبرت أجيالها عن هذا الإله فيما بعد برمز (آهورا) إله النور والحكمة (د. جمال رشيد أحمد، دراسات في بلاد سوبارتوم، بغداد 1984، ص 13. وكذلك أحمد ملا خليل، مصدر سابق، ص 79.).