وأخيراً.. وبعد 18 عاماً من التغيير، يمضي العراق رحلة الدوران حول الأرض لاحتواء أكثر الملفات جدلاً عبر قانون جديد باسم “استرداد عائدات الفساد” في بلد بقى أسيرا في هذه الدوامة كصخرة سيزيف الاغريقية.
وصار الفساد وتداعياته عراقيا مفضوحا للدرجة التي صار فيها العراقيون يسلمون بأن جل مشاكلهم المعيشية مردها الفساد والفاسدين، ولهذا فغالب الظن أنهم لم يفاجأوا بالقنبلة التي القاها رئيس الجمهورية برهم صالح عندما قال بالامس ان العراق خسر الف مليار دولار منذ سقوط نظام صدام حسين ولغاية الآن بسبب الفساد وان “150 مليار دولار هربت من صفقات الفساد إلى الخارج منذ 2003”.
وقد فاحت رائحة الفساد العميق في العراق منذ سنوات عديدة لدرجة انها تزكم أنوف ملايين العراقيين الذين تضرروا منه بشكل مباشر في حياتهم ومستقبلهم ايضا، وباتوا مقتنعين ان لا خلاص لهم من “صخرة سيزيف” سوى بمواجهة حقيقية مع المفسدين وتقديمهم للعدالة.
وهم يدركون ذلك لأسباب بديهية ويعتقدون ان هذه الاموال، لو لم يتم نهبها، او لم تم استردادها، فانها ستغير حياتهم وحياة بلادهم التي على سبيل المثال تعاني من عجز في ميزانيتها الحالية بنحو 20 مليار دولار. اما المال المنهوب الى الخارج بحسب تأكيدات برهم صالح، فانه يتخطى بكثير حجم الميزانية لسنة كاملة (الموازنة المقرة أخيرا حجمها حوالى 89 مليار دولار).
ويدرك العراقيون ايضا ان الاموال المهربة الى الخارج، كان يمكن ان تحول دون تشرد أبنائهم في عالم البطالة التي تقدر نسبتها بحسب برنامج الأغذية العالمي التابع للامم المتحدة، بنحو 31%، بينما تشير تقديرات أخرى الى انها تصل الى نحو 40% خاصة في ظل تداعيات جائحة كورونا وتأثيرات تعثر المبيعات النفطية خلال الجائحة.
وقد بلغ التردي المعيشي مستوى جعل العديد من العراقيين يقتنعون ان ابار النفط لم تعد تشكل العصا السحرية التي تتيح للعراق الخروج من معاناته الاقتصادية. حيث اشار عضو المجلس الاعلى لمكافحة الفساد في العراق سعيد ياسين موسى لوكالة شفق نيوز، إلى وجود “اكثر من 500 مليار دولار من الاموال المنهوبة في العراق”.
ومن مفارقات المسيئة للعراقيين ان اسم العراق مدرج منذ سنوات عديدة على لائحة منظمة الشفافية الدولية بين الدول الاكثر فسادا على المستويين العالمي والعربي، وهو في اللائحة الاخيرة يحتل المرتبة 160 بين ال180 دولة المشمولة في مؤشر الفساد، وتقول المنظمة ان فساده المترسخ في النظام “يحرم الناس من حقوقهم الاساسية بما في ذلك الحصول على مياه الشرب الصالحة والرعاية الصحية والكهرباء غير المنقطعة وفرص العمل والبنية التحتية الملائمة”.
المفارقة الاخرى التي تستعصى على تفهم العراقيين ان العراق الذي خرج من مرحلة الديكتاتورية قبل عقدين من الزمن، لينتقل الى مرحلة الديمقراطية، كان يفترض ان يتسلح بمعايير الشفافية والمحاسبة التي تقيهم شرور الفساد والمفسدين، لكن ذلك يبدو ضربا من الخيال، وهي مشاعر تحبط ثقة العراقيين بدولتهم ومؤسساتهم، وبالتالي استقرارها، ومع ذلك فان عموم الطبقة السياسية الحاكمة لم تنكب بشكل فعال على العلاج.
وتعني الاف مليار دولار التي إختفت بحسب برهم صالح، تلاشي ألف مليار حلم عراقي ايضا، بمشاريع بنى تحتية افضل، وخروج من الظلام والعتمة والحر، ومياه أوفر في بلاد ما بين النهرين، وطبابة أفضل في بلاد الكندي، وزراعة منتجة واكتفائية في أرضه الخصبة.
وبعملية حسابية بسيطة، هذه الأموال، كافية لإعادة إعمار البلاد من شماله لجنوبه، بأفضل الطرق والجسور، وإنشاء شبكة مترو أنفاق لجميع محافظاته، وتشييد أبراج وناطحات سحاب أعلى من برج خليفة في الإمارات، وبناء أكثر من 150 مدينة سكنية مشابهة لبسماية في بغداد، تنهي أزمة السكن في البلاد إلى الأبد.
ومن بين الآراء الأخرى، فإن استعادة ولو ربع هذا المبلغ، من شأنه القضاء على البطالة، وإنهاء خطر الفقر، وتوفير فرص العمل، وتنشيط حركة الاقتصاد.
ربع هذا المبلغ يوفر مدينتي طب متكاملتين سعتها أكثر من ألف سرير، مجهزة بأحدث الأجهزة الطبية وفيها وتحتوي على إجراءات سلامة عالمية، هذه المبالغ كافية لفتح مشروع لكل مواطن عراقي بقيمة تتجاوز 25 ألف دولار.
وبرغم ان خط الفقر اصبح يشمل نحو ربع سكان العراق الذين يعانون من أجل سد رمقهم، لكن العراقيين سيراهنون تفاؤلا مجددا على ان اعلان برهم صالح ان القانون الجديد، اذا طبق، فانه سيفرض “إجراءات عملية استباقية رادعة، وخطوات لاحقة لاستعادة أموال الفساد” في بلد يقول مظهر محمد صالح المستشار المالي لرئيس الوزراء العراقي، ان حجم الدين الداخلي والخارجي فيه، بات أكثر من 113 مليار دولار.
وصار من الواضح ان الفساد في العراق في بلد لا يفتقر الى قوانين مكافحة الفساد، وانما الى تطبيقها، مركب الأوجه، فما بين حكومات تتشكل بالتراضي السياسي الداخلي، وأحيانا كثيرة بالتسويات الاقليمية، وموظفين يمنحون الوظائف بحسب ولاءاتهم الحزبية – والاسوأ الطائفية – وصفقات تجارية واعمارية تتم في الغرف السرية، ودولة توصف بانها “الموظف الاكبر” في القطاع العام المكتظ بالمحسوبيات، يصبح المستقبل الاقتصادي محفوف بالمخاطر واحتمالات الانهيار والمجهول.
ولهذا، فان الخوف بين العراقيين ان ينضم قانون “استرداد عوائد الفساد” إلى لائحة طويلة من قوانين مكافحة الفساد غير الفاعلة، ويصبح مجرد رزمة من الورق في أدراج المشرعين، برغم الحملة “المتواضعة” التي قادتها الحكومة مؤخرا وأفضت الى اعتقال عدد من المشتبه بتورطهم بقضايا فساد كبرى، لكنها تبقى نقطة صغيرة في مستقنع الفساد القاتم.
قبل اسابيع قليلة، كرمت الولايات المتحدة، 12 شخصا من حول العالم، لأدوارهم المهمة في مكافحة الفساد وتعزيز المساءلة في بلدانهم، بينهم السيدة العراقية ضحى محمد التي تعمل مديرة عامة لدائرة المدفوعات الرقمية في البنك المركزي العراقي، ونالوا “جائزة أبطال مكافحة الفساد”، وهو خبر مشرق في عتمة الفساد العراقي.
لم يتوقف كثيرون عند هذا الخبر، كما نسوا قضية القاضي حمزة الراضي الذي عينه الاميركيون في العام 2004، في مرحلة سلطة الائتلاف، رئيسا لهيئة النزاهة العامة وكشف خلالها عن عمليات فساد في دوائر الحكومة قيمتها 18 مليار دولار، لكنه اضطر في العام 2008 الى طلب اللجوء الى أميركا هربا من التهديدات التي تلقاها.
ولهذا، فان السؤال الجوهري في العراق: من يجرؤ على خوض معركة ثقافة سياسية واجتماعية جديدة، تقوض منظومة الفساد والمفسدين، حتى نهاياتها؟