تستخدم أمريكا سياسة القطب الواحد بحنكة مع العالم، رغم ما تظهر من محاولات روسية، وصينية، منفردة، أو جمعية، لمواجهتها، ولمدى تأثير هذا الخلل على دورهما العالمي، يحاولان إشراك بعض الدول الصاعدة لخلق التوازن، منها البرازيل والهند وتركيا وإيران وجنوب أفريقيا، لكن الكتل والتحالفات لا تزال دون السوية، ورغم ما تظهره الصين من التقدم كأقرب قطب منافس، كما كانت عليه الإتحاد السوفيتي، إلا أن الهيمنة الأمريكية أبعد من أن تهدم، وهي نتيجة امتلاكها الهائل للقوتين: الاقتصادية والعسكرية إلى جانب نظام المنافسة الحرة:
1- قدرات الولايات المتحدة الأمريكية الاقتصادية تعادل نصف إمكانيات الكرة الأرضية فيما لو أدرجت دخل شركاتها الخاصة ضمن الدخل القومي العام، وحتى بدونها فحسب إحصائيات عام 2019م تجاوز دخلها القومي 21 تريليون دولار، مقارنة بروسيا والتي لم تتجاوز 2 ونصف تريليون والصين ورغم كونها دولة اشتراكية مالكة لجميع الثروات لم تتجاوز الـ 8 تريليون، وفيما لو أدرجت الثروات الباطنية كالنفط والغاز ومناجم الحديد والذهب وغيرها، والتي هي ممتلكات خاصة، حتى بدون شركاتها، مع الاقتصاد الحكومي الأمريكي لبلغ دخلها الوطني قرابة 40 تريليون دولار. أي بما يعادل الدخل الأوروبي واليابان والصين وروسيا وتركيا والهند معاً.
علما أن احتياطي الثروات الباطنية ما بين روسيا وأمريكا متقاربة في عدة مجالات، كالنفط والغاز والألماس، والذهب، والنحاس والحديد، والأراضي الزراعية، وثروة الغابات وغيرها، فعلى سبيل المثال، أمريكا تنتج يوميا قرابة 11 مليون برميل نفط، روسيا تنتج أكثر من عشر ونصف مليون برميل، كما وأن مساحة روسيا تعادل ضعفي مساحة أمريكا، وتمتلك أخصب الأراضي الزراعية في العالم، وهي مناطق فولغا ذات التربة السوداء المشهورة، مع ذلك تظل الفروقات شاسعة، ونوعية الأنظمة السياسية تلعب الدور الرئيس في خلق هذا التفوق.
2- أما في البعد العسكري، فالولايات المتحدة الأمريكية تنفق على الدفاع الوطني أكثر من الصين والهند وروسيا والمملكة العربية السعودية وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل – مجتمعة، صرفت هذه الدول حسب إحصائيات عام 2020 قرابة 726 مليار دولار، بينما أمريكا لوحدها صرفت 732 مليار دولار.
فهي تنفق أكثر من 15 في المئة من إجمالي الإنفاق الاتحادي على الدفاع، ففي هذا العام 2021م خصصت قرابة 741مليار دولار ما يقرب من نصف الإنفاق التقديري، الصين خصصت قرابة 170 مليار، روسيا بحدود 43 مليار دولار وهي تعادل تقريبا ما تصرفه أمريكا على مراكز تطوير الأسلحة والتي بلغت في هذا العام 2021م بـ 36 مليار.
فإجمالي الإنفاق التقديري على السلاح والدفاع والتصنيع تبلغ حوالي ثلث الميزانية الفيدرالية السنوية. لكن كل هذا لا تعني أنها تملك التفوق العالمي مثلما تملكها في المجال الاقتصادي، ففي مقارنات الأسواق وسعر صرف الدولار حسب دخل الفرد، يتوجب على أمريكا مثل هذا الصرف لتظل في الدرجة الأولى، مع ذلك لا تعني تفوقها المطلق، هناك مقارنات أخرى متنوعة تدرج ضمن جدلية المقارنة هذه.
فإلى جانب الإشكاليات التي تواجه وزارة الدفاع والكونغرس على خلفيات الهدر الهائل للأموال وحيث الكم في الإنتاج، هناك الإنتاج النوعي المتراجع مقارنة بسوياتها العالمية في سنوات الحرب الباردة، وهذا التراجع هو ما أدى إلى ظهور دعاية على تخلف القوة العسكرية الأمريكية في العقد الأخير، والبعض من المحليين العسكريين ردوا على أن المعلومات التي ظهرت من البنتاغون كانت خاطئة عن تقصد ولغايات. علما أن وزير الدفاع الحالي ذكر أن أكبر تهديد لأمننا القومي ليس بلداً آخر أو منظمة إرهابية، بل ديوننا الوطنية، وهدرنا.
رغم ما تقدمه روسيا والصين واليابان وأوروبا من التفوق في بعض مجالات التصنيع العسكري، لكنها تظل قوى غير متمكنة لتغطية جغرافية العالم مثلما تفعله أمريكا، فإلى جانب النوعية في الأسلحة الاستراتيجية هناك تفوق في الكمية، فهي تمتلك عشرين حاملة الطائرات، وأكبر ترسانة من الطائرات الأكثر تطورا، والاهم هي قدراتها على التصنيع، فقد ذكر بعض المراقبين العسكريين أنه بإمكانها أن تصنع عدة حاملات للطائرات خلال مدة قصيرة، في الوقت الذي أخذت من الصين قرابة سنوات لتنهي الحاملة التي أشترتها من روسيا، لعدم قدرة الأخيرة الاقتصادية لإنجازها. وتبقى المقارنة العسكرية جدلية عقيمة في ظل أسلحة الدمار الشامل، والتي بإمكان كل دولة أن تدمر الكرة الأرضية عشرات المرات. بل الأهمية تكمن في مدى قدرات كل منهم على ديمومة تسليح أدواتها وتجهيزها لتمرير مصالحها.
مصالح أمريكا ومطالب تركيا وإيران
رغم هذه الهيمنة فهي تتلكأ في بعض النقاط الساخنة، والتي هي نتيجة خلفية التعامل السياسي والدبلوماسي، وتوجهاتها من خلال منطق القطب الواحد للهيمنة على العالم، وهو ما أدى ببعض الدول الصاعدة كتركيا وإيران التحرر من استراتيجية تقبل الإملاءات إلى التفرد بقراراتها وفرض شروطها على المعادلات السياسية ضمن الجغرافية المحاطة بهم، وعلى أثرها حدثت الصدامات بينهم وبين أمريكا، وظهرت تحالفات دينية وقومية لمواجهة الضغوطات الأمريكية أو حلفائها من الدول الأوروبية.
1- الدور التركي
لكن وبعد سنوات تبينت لهذه الدول أنها تخسر أمام الجبروت الاقتصادي الأمريكي، والتي تستطيع أن تضع حصارا حتى على روسيا، وهو ما أدى بتركيا لإعادة النظر في استراتيجيتها، وظهرت بشكل واضح انتقالها من سياسة المواجهة العسكرية مع دول الجوار، إلى الحوارات الدبلوماسية لحماية مصالحها، والحفاظ على مكتسباتها، وخاصة الاقتصادية ومن خلفها العسكرية والعمران، والتي اكتسبتها خلال السنوات العشر الماضية بمساعدة الشركات الرأسمالية العالمية وبشكل خاص الأمريكية، والتي ضخت على مدى العقد الماضي ما بين 300 إلى 400 مليار دولار من السيولة سنوياً إلى الاقتصاد التركي، والأسباب معروفة لجميع المحللين السياسيين والاقتصاديين ونحن لسنا بصددها الآن.
أدرك استراتيجيو أردوغان أن الصعود الاقتصادي مرتبط بالسياسة المرنة وأن المواجهات تضر بالمصالح الأمريكية، لذلك وكحنكة سياسية بدأت تركيا بإعادة النظر في تعاملها مع الدول الإقليمية، وظهرت بشكل واضح تراجعها في السنة الأخيرة عن التوسع الجيوسياسي على مبدأ استخدام القوة وتطوير الصناعات العسكرية، إلى منطق الحوار والتعامل الدبلوماسي.
2- الدور الإيراني
والتي لا تزال قادتها المحافظين من أئمة ولاية الفقيه يعتمدون على منهجية استخدام أدواتهم المذهبية وبطرق سرية، لإرضاخ القوى الإقليمية وعلى رأسها إسرائيل والسعودية، لأن استراتيجية إيران الفقيه مرتكزة ليست فقط على السياسية، بل على العقيدة المذهبية، وتعاملها مع العالم الخارجي تخطط على أسسها، وبالتالي أمريكا كدولة راعية لحلفائها في الشرق الأوسط، تعتبر هذا التوجه الأكثر خطراً على مصالحها ومصالح حلفائها وفي مقدمتهم إسرائيل، وهذا ما يزيد من تعقيد احتماليات التفاهم أو الاقتراب من أتفاق كامل، ومجريات الأحداث ضمن المنطقة تتصاعد بدعم إيراني، وأخرها ضحاياها كانت منطقة غزة والأطفال الفلسطينيين.
تتعامل أمريكا مع إيران في محادثات جنيف بدبلوماسية الحوار المرن، ولم تنس استخدام منطق الهيمنة، وفي الواقع المحادثات ليست بأكثر من عملية تهدئة أمريكية للتدخلات الإيرانية والتي لا تهدن من العبث بالمنطقة، وهي تدرك أنها السلاح الوحيد المتبقي بيدها على أمل فتح أبواب الحصار الاقتصادي الرهيب عليها.
3- دور خارجية الإدارة الأمريكية الجديدة
وإدارة جو بايدن في الحالتين تساير الدولتين في طموحاتها، لئلا تتعرض مصالحها للخطر، وعليه أرسل وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن لجنة إلى دول المنطقة، لتطمينهم على: أن أمريكا لن تتخلى عن حلفائها كما فعلته إدارة ترمب سابقا. وأن التجاوزات التركية الإيرانية في المنطقة آنية ولن تسمح لهما بعرض مصالح الدول المعنية إلى الخطر.
كرؤية مباشرة، بعيداً عن مجريات الأحداث ضمن الأروقة الدبلوماسية، بينت أمريكا وبعض الدول الأوروبية موقفها الرافض من التدخلات الإيرانية في فلسطين مثلما فعلتها قبل أسابيع مع سوريا عندما نقضت الانتخابات السورية الجارية، في البعدين القانوني والإنساني، كما ونوهت على أن سلطة حماس كالسلطة السورية تحركهما إيران كأدوات، وتضر بالمصالح الأمريكية في المنطقة، مقابل الموقف الروسي الداعم، ليس كرها بإسرائيل بل للحصول على موقف قدم في المنطقة، وليس لشخصية بشار الأسد بقدر ما هو توجه للحفاظ على السلطة المركزية وحيث الاتفاقيات الطويلة الأمد بينهما.
الاتفاقيات الإقليمية حتى على مستوى الدول الكبرى لن تتم، ستستمر الصراعات الجانبية، خاصة وأن المناطق الساخنة تزايدت، وتجاوزت جغرافية الشرق الأوسط، وهو ما قد يسهل لتركيا وإيران التمسك بمواقفهم حيث الهيمنة وليس تطوير المجتمع اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا. وقد لاحظنا أن الحريات الفكرية والسياسية والإعلامية في الدولتين تراجعت كخط بياني، وهي لا تجلب الاهتمام الروسي، بقدر ما هي حلقة صراع على منطقة الشرق الأوسط بين الدولتين الكبريين، ومن خلفها القوى الإقليمية الطامعة في التوسع، إما طموحاتهم الجغرافية أو التمدد المذهبي، وفي البعد الإستراتيجي تقلق الجانب الروسي قبل الأمريكي، وتبينت هذه في الصراع الذي جرى بين أرمينيا وأذربيجان، وما يجري الأن في منطقة دونباس الأوكرانية، وسابقا على جغرافية ليبيا، ومع إيران على سوريا.
وتدرج ضمن هذا الصراع معظم الدول الإقليمية، وعلى رأسهم إسرائيل، ومن ثم دول الخليج العربية، والتي بدأت تتقارب ليس من منطق التطبيع وتقبل الأخر سياسيا، بقدر ما هي محاولات لتكوين قوى اقتصادية وعسكرية لمواجهة إيران الشيعية وتركيا السنية، وطموحاتهما الجيوسياسية، كما وهي تعكس مصالح أمريكا في المنطقة؛ ولذلك فهي عراب التطبيع الذي لم يتأثر على خلفية الحوادث الجارية ما بين حماس وإسرائيل، وقد كانت أحدى غايات إيران من الحرب؛ الطعن في مسيرة التقارب الإسرائيلي-الخليجي، مثلما كان غاية نتنياهو إخراج إيران من العبث في الأمن الإسرائيلي سراُ، إلى جانب مصالح كل الأطراف الذاتية: نتنياهو لئلا يخسر قوة تشكيل الحكومة، وأئمة ولاية الفقيه وحيث الانتخابات القادمة، وأردوغان ومواجهة الصعود المتزايد للمعارضة والمؤدية إلى استخدامه للعنف في حالات متعددة.
ويبقى السؤال مطروحا على طاولة المحللين السياسيين:
هل سيحصل تقارب ما بين تركيا وإيران من جهة والدول العربية وإسرائيل من جهة أخرى؟
وهل ستنتهي الحوارات الأمريكية الإيرانية مع تقبل إيران شرط عدم التدخل في شؤون الدول الحليفة لأمريكا؟
وهل الضغط الأمريكي على تركيا ستعيدها إلى الحاضنة؟
أم أنها ستصر على شروطها، ومنها التخلي عن الإدارة الذاتية الكوردية في شمال شرق سوريا؟
وكيف ستعالج أمريكا مصالحها في الشرق الأوسط تحت سياسة الإدارة الجديدة؟
هل الاهتمام الأمريكي المتزايد من قبل مبعوثي الإدارة الجديدة بالإدارة الذاتية ومساندة قوات قسد رسائل لتركيا لقبول شروطها، أم هي بداية لمسيرة الاعتراف بالكورد سياسيا؟
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
25/5/2021م