ثلاثة شبان جَمعَهم حُلم جميل. حلموا برؤية بلدهم خالي من القتل والحروب، ولا تكون سجونه إلا للمجرمين ولا يكون قرار الموت بيد السلطان وحاشيته الدموية.
كانت أحلام تستحق التضحية لتحقيقها!.
كاروان (خديدة حسن جعفو) من الشيخان- مجمع مهت لم يكن قد بلغ الثامنة عشر من عمره بعد، أبو امل (كريم كطافة)1 إبن عاصمتنا بغداد – قائد المجموعة- وكفاح (ماجد جمعة كنجي) من بيت الحزن – بحزاني.
أنطلقنا من (مه راني) التي تحتضن قاعدتنا في جبل كارة. وبعد خمس ساعات من المسير المتواصل حللنا في (وادي خنس) حيث مياه نهر الكومل تخرُّ بين الصخور الكبيرة. كانت إحدى الصخور تحمل نقوش ثور مجنح لم يكتمل، لكنه يبوح بسؤال محيّر لم تستطع الأجيال السالفة ولا جيلنا من الإجابة عليه؛ أي كنوز يحويها هذا المكان الموحش؟
المنطقة كلها خاوية من البشر بعد حملات التهجير، لا صوت سوى خرير النهر. منحتنا شمس تشرين الأول الدافئة مزاجاً رائقاً دفعنا لإيقاد النار من حطب البلوط اليابس لصنع الشاي. خنس استراحتنا الأخيرة قبل الرحلة الطويلة. كانت وجهتنا جبل مقلوب لاستطلاع إمكانية الرد عسكرياً على ترحيل وإبعاد عوائل الأنصار من مدنهم على أيدي أجهزة نظام البعث وهي تبتز المعارضين بعوائلهم من نساء وأطفال وكبار سن.
قدر دليلنا (كاروان) المسافة بـ(30) كيلومتر علينا قطعها في ليلة واحدة في أراضٍ يكون الفلاحون أنتهوا من حراثتها وتهيأتها لموسم البذار، الأمر الذي سيبطأ من سرعة السير، ناهيك عن الكمائن المبثوثة بين القرى العربية التي جلبها النظام لتكون مصداً له بوجهنا.
كاروان أبن هذه المنطقة، وقريته هي واحدة من هذه القرى المسكونة بالغرباء. كان ذئباً ليلياً بحاسة شمه وفراسته في إيجاد المسار الصحيح في أرض لا معلم فيها غير أضوية الفوانيس المتلامظة عن بعد ومن كل الاتجاهات. لم نسترح خلال الطريق سوى ثلاث مرات وعلى قدر ما يستنزفه تدخين سيكارة بغداد، نتفنن في إخفاء جمرتها.
بعد الثالثة فجراُ وصلنا منزل المرحوم (البير قطو)- خال دليلنا– كاروان. استقبلنا هذا بحذر وخوف، فالمنزل بجوار معبد قريب يزوره الناس من جميع الاديان رغم عائديته للايزيديين ومحاط بمواقع عسكرية كثيرة إضافة إلى المطار العسكري الكائن على قمة الجبل.
هيأت عائلة الخال (قطو) لنا مكاناً للنوم، بقينا فيه طيلة النهار لحين الغروب وانقطاع الحركة عن المعبد. كانت العائلة على أعصابها، خصوصاً بعد أن لفت انتباه بعض الزائرين صوت سعال داخل المنزل فادخل الخوف في قلوبهم من وشاية علّ احد الزائرين يوصلها للسلطات التي لن ترحمهم.
كنا نريد الوصول إلى ناحية (بعشيقة) لتنفيذ مهمتنا من هناك ومن ثم العودة بنفس الليلة إلى نفس هذا المكان (المعبد). غير أن الرعب الذي شاهدناه في عيون أفراد العائلة وخوفهم من الوشاية، جعلنا نقرر تأجيل المهمة لما فيها من مخاطر جدية على أصحاب البيت. قررنا العودة. لكن يستحيل قطع المسافة التي قطعناها قبل يوم بنفس الزمن، كنا منهكين للغاية بسبب مسيرة أمس نهارا وليلا لما يقارب خمسة عشر ساعة متواصلة. اقترح علينا الخال (البير قطو) العودة بالجرار الزراعي (التركتور) الذي ترتبط به عربة قديمة وعميقة، وهذا يعني دخولنا إلى القرى العربية أصبح إجبارياً. إذ لا طريق للجرار غير الطريق المار خلال القرى وهي جميعها مناصرة للنظام وتحمل سلاحه.
كان القرار صعباً، إذ يستحيل السير مشياً في ذات الأرض المحروثة ونحن بذلك الإنهاك والتعب، ما يجعل النهار يطلع علينا ونحن في منتصف منطقة القرى، كما يستحيل البقاء في المكان للرعب الشديد الذي تسببنا به للعائلة. لم يكن من مفر سوى المجازفة والعودة بالتراكتور.
استلقينا أنا وأبو امل في بطن العربة، وترك (كاروان) سلاحه وشواجيره معنا، وأحتَفظَ بمسدس دسّه بين طيات (البشتين)2. المساء في أوله .انطلق التركتور، وصرنا نختض بالعربة كما يختض اللبن، نرتفع للأعلى ونهبط للأسفل لا نتحكم بأجسادنا إلى أي جهة نميل.. طاق.. طب.. طاق.. طب.. يمين.. يسار.. أعلى. اسفل. كان الطريق بمطبات وأخاديد عميقة.
اقتربنا من أول قرية، احتشد على مدخلها ما لا يقل عن 60 عنصر مسلح من الجيش الشعبي كما أُخبرنا لاحقاً. كانوا بانتظار الجرار بعد أن شاهدوا أضويته من بعيد. احاطوا بالجرارمن جميع الجهات، هل ستكون نهايتنا هنا ؟ وبدأ التحقيق مع سائق الجرار:
– انت من وين جاي؟
– يااخي انا جاي من مهمت رشان.
– وليش ابهاي الساعة من الليل انت مجنون ماتخاف من العصاة والمخربين!!؟
– والله أخي انا مضطر لِان اجازتي خلصت اليوم وسألتحق بوحدتي غدا جئت لازور المعبد بذمتي نذر فاوفيت للمعبد به !!.
اقترب احدهم محاولا دّس رأسه داخل العربه لَمحتُ راسه المدفون بيشماغ احمر، مددت يدي لقنبلة مُعلقة مع اعتدتي حول خصري ومسكتها بين اصابع كفي اليمين استعدادا للاسوأ. لحظات صمت ثقيلة مرت مزقها صوت كاروان مجددا فيه أمر وتحذير: أخويا لاتقترب من العربة حتى لاتلطخ ملابسك بالوحل!، ولااعلم هل وقعت عيناه على من في العربة ام لا؟ ام انه استجاب لنداء كاروان متحاشيا تلطخ دشداشته بالاوحال فابتعد عن العربة فعلا ؟!.
تبادلت النظر مع ابو امل والكلام بيننا “ممنوع “، انها لحظات عصيبة وتحبس الانفاس، وَحال ابوامل ليس أفضل من حالي.. سادت لحظات كادت توقف نبضات قلب من في العربة.
تلاه صوت آمر القوة المُحاصِرة للجرار:
– ليش يا (كريفي) تجي بهل الوكت ليش ؟ والله خَوفتنا حسبناك عصاة من الاكراد يلا اطلع!! بس بعد لتسويها مرة اخرى وتجي بالليل.
كان صوت آمر القوة مفهوما وواضحا ولايقبل اللبس.
– مع السلامة ..
اجابه كاروان باسرع من البرق، وأطلق العِنان لجراره وضغط على دواسة الكاز بما اوتي َمن قوة له، وتقاذفتنا العربة باضعاف ماكانت عليه قبلا وعاد تنفسنا الى طبيعتهِ بعد ان تراجعت سرعة دقات قلوبنا لحالاتها العادية . رفعت راسي لِاترجى كاروان ان يبطء سرعته، ظَننتُ اننا غادرناالقرية وحال سماعه صوتي أمرني بعصبية بخفض رأسي فورا لاننا مازلنا في دائرة الخطر. لم نسير كيلو متر آخر حتى سمعنا من يأمر كاروان بالتوقف .قُطع طريقنا من جديد بمجموعة اخرى تناهز عشرين فردا من الجيش الشعبي كمنت لعين السبب في الجهه الاخرى البعيدة من القرية وما أن اقتربوا حتى فاجأهم كاروان بعصبية فيها شيء من الامر قائلا:
– اخويه هسه شرحت لجماعتك هناك سبب مجيئي في هذا الوقت ارجوك ماعندي استعداد اوضح لكل واحد منكم نفس الكلام خليني اروح كدامي طريق طويل.
وكأن كلام كاروان نزل عليهم أوامر جعلهم يخرسون ولم نسمع شيئا من احدهم بعد ذلك وأطلق العنان من جديد للجرار وحوّلَهُ لمركبة مسابقات بالسرعة القصوى .
هكذا نكون ببراعة (كاروان) وبهدوء أعصابه نجونا باعجوبة!! حيث دنى الموت منا لاقرب نقطة ممكنة. اقتربنا من مجمع (مهت) ففتحت نيران الاسلحة باتجاه مصابيح الجرار الضوئية وكنا بعيدين عن مرمى النيران. أطفئ (كاروان) محرك الجرار وتركناه في مكانه واتجهنا سيراً على الأقدام عائدين لوادي خنس. غير أن الخطر لم ينته بعد. علينا المرور عبر ثلاثة قرى ،آزخ وأرماش مرورا بشلي وحللنا منتصف النهار في ملبركي فأكرمنا اهلها الطيبين بالغذاء، وعصرا وصلنا صوصيا وفيها افترقنا. واصلَ أبو أمل طريقه باتجاه (مراني)، وبقي (كاروان) لوقت قصير في منزل عمي أبو عمشة ورجوته ان يقضي الليله معي بعد عناء رحلتنا الطويلة والمتعبة وان يغادر غدا مبكرا نحو ميزي حيث سكن والدته المهجرة حديثا. لكنه اصر على المغادرة. غادر صوصيا بحدود الثالثة عصرا. بقيت عيني معلقة عليه وتتابعه عبر الناظور في الطريق لحين وصوله قرب القرية.
وبحلول المساء طُرق بابنا بشكل حاد عند السابعة ورافقه صوت صراخ:
كفاح جهز نفسك واطلع..!!
فتحت الباب تلعثمت الكلمات في فم (بير كونجي)، سألته: خير بير؟؟
بدى قلقا ومرتبكا، قال:
– حاولوا إغتيال كاروان وأصيب بساعده الأيسر، علينا بسرعة إحضار الطبيب.
أسرعنا بصحبة الدكتور جهاد (عزيز الشيباني) حتى وصلنا بحدود العاشرة ليلاً. وباشر الدكتور إسعافه على الفور. قيل أنه خرج من بيت والدته لجلب خثرة لبن من بيت الجيران وحال خروجه ومن مسافة قريبة للغاية أُطلقت عليه النيران وأصابته رصاصة متفجرة بساعد يده اليسرى التي كان يحمل بها البندقية. فهشمت عظمة الساعد تماما وسقطت بندقيته اثرها لشدة الاصابة .
يا للساعات اللعينة. قبل ساعات نجونا من الموت وأنقذنا منه كاروان بدهاء عجيب لايصدق، كنا في عقر السلطة ولم نبالي، وهنا في أماكن نعتبرها محررة وآمنة افلح الخونة والعملاء في الوصول لمآربهم فاسالوا دم كاروان باطلاقات كوردي عميل من بني جلدته. للاسف الساعات التي أعقبت إصابته كلفته فقدان كميات كبيرة من دمه. أفلح الدكتور بإيقاف النزيف وأمر بإحضار كيس الدم الوحيد الذي تملكه طبابتنا في قاعدة (مراني). كانت الساعة تشير الى الثانية عشر ليلا. لم اعد اتذكر من هرع لمراني من الانصار لاحضار الكيس، وخلال ساعات الانتظار، قام الدكتور بفحص فصيلة دماء الأنصار المتواجدين الذين سيزودون رفيقهم الجريح بالدم وتأكد بأن دم أغلبنا يتوافق مع دمه.
مازال كاروان في وعيه الكامل. قال أن الإطلاقات أتته من جنب حائط جاره، ولتتاكد انني في وعيي كاملا هل أروي لك ماحدث معنا ليلة امس بالكامل ان اردت!! وكيف نجونا من كمائن الجيش الشعبي .
أسقاه الدكتور قليلا من الماء فيه شيئا من ملح الطعام . عاد الأنصار في الثالثة فجرا ومعهم كيس الدم واستلقى الرفيق عادل اول المتبرعين على سرير بجانب كاروان الممدد على الارض واَوصل الدكتور وريديهما ببعض مباشرة الا ان جسم كاروان لم يكن يستجيب لنقل الدم . تنقل الدكتورجهاد باماكن عديدة من جسم كاروان عله يفلح في احداها لفتح اوردته وليجري الدم فيها ، وبدى أن الاوان قد فات فدم كاروان قد تخثر. لم تفلح مساعي الدكتور (جهاد) لثماني ساعات من انقاذه، أتذكرجيدا حين اطبق الدكتور يوم 30 تشرين الاول من عام 1985 فجراً جِفني الشهيد كاروان باصابع يده وتَراجعَ لزاوية الغرفة مُنكفئاً على نفسه، دافناً رأسه بذراعيه وركبتيه جاهشا بالبكاء دون ان ينطق بكلمة ، ادركنا أنّ كاروان قد ودّع الحياة .
أه يا كاروان هل قطعنا امس كل تلك الصعاب وكأنك اردت ان تودع خالك البير قطو اول الناس؟ !!
حلّقت روحه في سماء المكان لتلحق بروح شقيقه (بير جوقي- ابو ماريا) التي سبقته بخمسة اشهر وسبعة ايام على وجه الدقة والتحديد في كه لي كورتك اثناء مباغتة الطيران للسرية الرابعة.
وارينا شهيدنا كاروان الثرى، بجانب الشهيد الخالد (محمود أيزيدي)4 في (كاني مازي). جمعتهم المقبرة معا وجمعتهم ذات الحكاية التي تقول أن الأبطال لا يسقطون بسهولة دائماً، لكنهم يسقطون على أيدي الخونة، خونة يكونون قد عاشوا بينهم وغدروا بهم.. الأبطال يقتلون غدراً.. كذلك هي حكاية الثائر (محمود أيزيدي) الذي أربك أجهزة النظام وهم في أوج قوتهم وفي عقر دارهم، لكنه استشهد غدراً على يدي خائن دُس معه… أنهم الخونة الذين منحهم العهد الجديد حق مواصلة الحياة والحرية وغدوا أحرارً أكثر من الثوار الذين يتوارون في زوايا النسيان.
خلّف كاروان وراءه أمه العجوز التي فُجعت بولدين وشلت أطرافها قبل أن تغادر الحياة عام 2007.
-1ابو امل – كريم كطافة الروائي العراقي المعروف كان نصيرا وقاد سرية الشهيد امين لغاية الانفال في منطقة الفوج الاول.
-2البشتين قطعة قماش خفيفة تلف على خصر الرجل مع الملابس الكوردية.
-3هي مجموعة قرى تابعة لناحية اتروش.
-4الشهيد الخالد محمود ايزيدي بيشمركة بطل حير السلطة واعاد نشر النضال المسلح في اصعب الظروف بعد انهيارثورة الشعب الكوردي في عهد الراحل ملا مصطفى البارزاني عام 1975.
اغتيل على يد احد الخونة الكورد المرسلين من قبل السلطة عام 1979.