يتناول المتن الروائي عدة محطات حيوية تخص الشأن العراقي , من الارث الحضاري لحضارات سومر القديمة , الى عهد النظام الطاغي وعشية سقوطه على يد المحتل الامريكي . يعني التناول يبدأ من العلى المجد الحضاري , الى السقوط المذهل في اسفل القاع. والاديب ( زيد الشهيد ) يملك القدرة المتمكنة من ضبط الايقاع الروائي , وتداعيات احداثه المتسارعة والمتلاحقة , عقب دخول المحتل قلب بغداد . هذا الحدث العاصف يدشن سقوط النظام ودخول العراق في طورٍ جديد بفتح صندوق ( باندورا ) وتطاير كل الشرور منه لتسميم سماء العراق وبغداد . بدون شك لم يأت الاحتلال اعتباطاً ومفاجئة , وانما هناك عوامل اختمرت ونضجت وتراكمت حتى سقوط النظام , واتضح أن قبضته الحديدية المتسلطة على رقاب الناس كانت من فقاعات هوائية تبخرت وانتفت , كان تبجحه بالغطرسة القوة الباطشة والمتسلطة , لكنها اتضحت بأنها كانت نمر من ورق , أو بالعبارة الاصح كان خروفاً بجلد الاسد المتوحش الكاسر , ونزع جلده واتضح حقيقته عارية واتضح زيفه للعيان , بأنه تبخر وانهزم وبات مذعوراً يفتش عن جحور يلجأ اليها . ولكن من الجانب المحتل لم يكن المخطط لم يقتصر فقط على اسقاط النظام وتدمير العراق بالخراب والفوضى , بل تعدى اكثر من ذلك , هدفه الشرير هو تحطيم الارث الحضاري وتكسير ونهب كنوزه الحضارية التي لا تقدر بثمن , من أجل جعل العراق منقطع الجذور , مننقطع من الاصل والنسب من مجده الحضاري التليد , وما عميلة تحطيم محتويات المتحف العراقي , والعبث بها بالتخريب والنهب والتهشيم , لم يكن إلا مخططاً معداً سلفاً , بدليل الدبابات الامريكية المتواجدة أمام بوابة المتحف , اكتفت بدور المتفرج لعمليات النهب والتحطيم والتخريب , رغم توسلات واستغاثة الشخصية الروائية المحورية ( جاسم ) , بطلب التدخل في وقف النهب والتخريب الحاصل داخل المتحف , يرد عليه قائد الدبابة بكل بصلافة ( آسف . هذا ليس واجبنا ) ص253 . عاشت بغداد ايام مرعبة وعاصفة قلبت حياتها , لم ينقطع هدير الطائرات الحربية عن سماء بغداد , لم ينقطع القصف الصاروخي الرهيب , يضرب في كل زاوية من بغداد . لتكون بغداد شهية النهب والخراب والحرائق . والقبضة الحديدية التي كان يتفاخر بها النظام بالارهاب . سقطت وفقد السيطرة على مسك زمام الامور . وتحولت بغداد الى الانفلات والفوضى والعبث العابثين . هذا النظام المرعب الذي بني على مدى ثلاثة عقود تتهالك قوته وتتحطم مثل فقاعات هوائية . بل رجالاته وضباطه هربوا وكل همهم يفتشون عن جحور تأويهم . فقد سقط النظام المرعب الذي ينتهك ابسط الحقوق , وجعل الناس تعيش في خوف ورعب دائم , أنقلب السحر على الساحر . ولكن من كان يصدق الاهوال التي سقطت على رأس بغداد المنصور ( منْ يصدق أن بغداد المنصور المدورة تترك مكتوفة اليدين , خاوية , ومتهالكة , وموحشة ؟! من يضع في حسبانه أن حسناء الرشيد تتقرفص على نفسها أسيرة , عليلة , ذليلة , بائسة ؟! ) ص155 . ولكن هذا ما حصل بوقوع الكارثة , التي تجرع فيها الناس المرارة والعلقم , مثلما تجرعوا اهوال النظام الطاغي على مدى اكثر من ثلاثة عقود . متمسكاً بشريعة الارهاب والبطش والتنكيل . لقد تركوا العراق يدمر ويخرب ويحطم . ليكون شهية العابثين من الجهلة والسراق من النفوس والذمم الضعيفة , الذين هبوا بالنهب والتخريب واشعال الحرائق من ضمنها محتويات كنوز المتحف العراقي . وبراعة الكاتب ( زيد الشهيد ) يحاول حشر الباحث والكاتب المشهور ( طه باقر ) المتخصص في ابحاثه عن حضارات سومر القديمة, وافنى حياته في التنقيب عن الكنوز الحضارية وشخوصها البارزين , يحاول المتن الروائي حشره ضمن شخوص الرواية . ليجد بنفسه محتويات المتحف تحولت الى ركام من التحطيم والخراب , ليبكي معه على الحالة المأساوية بما حدث داخل اروقة المتحف العراقي . ان يتحول التراث الانساني الى ركام من الازبال ( صار يبحث عن طه باقر متمنياً تلك اللحظة مشاهدته ليبكي بين يديه ويرجوه أن يأخذه معه الى العالم الآخر ففيه راحة أبدية , تبعده عن ضغينة بني البشر عدوانيتهم ووحشيتهم …….. صار يأمل مشاهدة جلجامش وسرجون ونبوخذنصر وآشور بانيبال وجوديا ليعتذر لهم ويشكو قلة حيلته في مجابهة الاعداء المهاجمين ) ص254 . هكذا تحولت أروقة المتحف الى مشاهد مخزية للعراق على مراى من انظار العالم . بأن ارثه الحضاري المجيد يصبح شهية العابثين .
×× احداث المتن السردي :
يتحدث السرد الروائي عن ٍأستاذ اكاديمي ( جاسم شلال ) درس في لندن وتعرف على فتاة اسكتلندية ( جوليا ) واقتران بعد ذلك بالزواج منها , وتحدث عن هويته أمام جلسة التحقيق بعد اعتقاله في قبضة الامن عند زيارته للعراق ( أنا جاسم شلال مواطن عراقي عدت من انكلترا الى بلدي , وبي حنين الطفل لأمه وشوق الحبيب لحبيبته , عدت لالبي نداء الروح التي دفعتني الى ضرورة مشاهدة أمي العليلة , المتهالكة ) ص55 . كان الحافز لزيارة أمه المريضة بسرطان الكبد قبل ان يخطفها الموت . هذا الحنين الطافح لم يعطِ الاذان الصاغية الى التحذيرات الخطيرة , حتى رفضت زوجته ( جوليا ) فكرة القيام بهذه الخطورة في زيارة العراق . قد يجد بما لا تحمد عقباه . ولا تحذير شقيقه ( سالم ) الناشط السياسي المعارض للنظام الطاغي , وقد هرب منذ عقدين من الزمان الى المانيا من بطش وارهاب النظام بقبضته الحديدية الدموية . وفي المانيا واصل نشاطه السياسي المعارض . حذره من الوقوع في السجن حتى الحكم بالموت عليه. ولكنه اصر على زيارة العراق , واعتقل مباشرة قبل ان يصل الى مدينته الجنوبية , واتهام بتهمة التجسس . ومارس بحقه بشاعة التعذيب الجسدي والنفسي , حى يعترف بتهمة التجسس , رغم أنهم يعرفون بأنه بعيداً عن الشؤون السياسية , مكرساً خدماته لتدريس في الجامعة . لكنهم لم يصدقوا اقواله , بأنه يكذب عليهم , وانه اذا لم يعترف بتهمة التجسس فسيكون مصيره الموت البطيء , ولكن اثناء عشية الغزو الامريكي , والاجواء المرعبة من القصف الصاروخي المتواصل , قلب حياة بغداد الى الفوضى والانفلات والرعب . وبدأ اركان النظام يتزعزع ويتهشم ويتفتت , وتيقنوا رجاله وضباطه بأن المصير الاسود ينتظرهم , وراح كل واحد يفكر بالنجاة بنفسه , وترك سفينة النظام تغرق وحدها . أراد العريف ( برهان جابر ) سجان في الشعبة الامن الخامسة , ان يكفر عن ذنوبه واخطاءه ومعاملته السيئة مع السجناء , تيقظ ضميره واراد ان يفعل الخير والمعروف لسجناء , في استغلال حالة الارتباك في مؤسسته الامنية , ان يفتح بوابات الزنازين ويدعو السجناء الى الهروب ( أن يفعل خيراً عله يشفع له أمام خالقه , فيمسح عذابات سببها لاناس يدرك ان غالبيتهم أبرياء لا جناية ارتكبوا ولا موبقة فعلوا , فقط كانوا أقرباء لمتهمين أعدموا ظلماً أو هاربين لا يد طولى للسلطة على أعتقالهم وقتلهم . العريف برهان فكر في القصف الذي جرى قبل يومين في فتح ابواب الزنازين وترك السجناء يفرون من قفص القهر لفضاء الحرية بينما يتوارى هو عن الانظار , فالسلطة كما يتلمسها خارت ووهنت ) ص94 . وهرب ( جاسم ) مع بقية السجناء واراد ان يصل الى مدينته الجنوبية . لكنه وجد الفوضى وانتشار السيطرات للتفتيش في الشوارع بحثاً عن السجناء الهاربين , فنزل من السيارة وتراجع الى الخلف حتى وجد نفسه محاصر قرب المتحف العراقي , فتسلق سياجه واختفى تحت شجرة الزيتون وبعد ذلك تسلل الى قاعات المتحف , ولم يخرج إلا بعد سقوط النظام .
×× الدلالة الرمزية لشجرة الزيتون والمتحف العراقي :
عرف قديما منذ الحضارة الاغريقية , بأن شجرة الزيتون شجرة السلام والمحبة والتآخي . والعراق لا يمكن ان يخرج من النفق المظلم , إلا بسلام مع الطوائف ومكونات الشعب على اللحمة الوطنية .
اما من ناحية المتحف , العراق منذ ان ابتعد عن الارث الحضاري المجيد , داهمته الفترات المظلمة المتعاقبة حتى سقوط نظام البطش والارهاب . وتكالبت عليه الاهوال والنوائب , ولا يمكن ان يشهد الانفراج إلا بالرجوع الى اصله الحضاري المجيد , حضارات سومر القديمة , وإلا يكون لقمة سائغة للاطماع العدوانية الاجنبية , لابد ان يملك قراره الوطني المستقل , غير ذلك يعني الخراب الدمار .
× الكتاب : رواية جاسم وجوليا
× المؤلف : زيد الشهيد
× الطبعة الاولى : عام 2016
× عدد الصفحات : 261 صفحة