(عندما تتحول الكلمة إلى بضاعة رخيصة، ويسيطر النقل على العقل، وتطغي العاطفة والجهل بالأشياء على ما عداها، حينها يختلط الحابل بالنابل!). فبعض من الكتبة الايزيديين، مَنْ ربط كلمة الـ (بير) بـ (طاؤوس ملك) بدلالة ورود كلمة (بيري كار) في الموروث الديني الايزيدي، من دون أن يجهد هؤلاء انفسهم في البحث عن جذر هذه الكلمة!!. بعد التنقيب والبحث في العديد من المصادر المتوفرة تحت أيدينا، لاحظنا بعدم وجود أية صلة بين كلمة (بير) ولا الـ (شيخ) بـ (طاؤوس ملك)، وإنما هنالك منابع فكرية أخرى، نناقشها هنا في هذا البحث المختصر:
ان الذي يجلب الانتباه هنا هو اسم (بابار Papar) كأحد أسماء إله الشمس، فما هو جذر هذا الاسم، ومن أين أتت فكرة هذا الإله؟
في الألف الثاني قبل الميلاد أثناء عصر سلالة أور الثالثة حصل دمج بين عقيدة الإله دوموزي الأرضية وعبادة الإله شمس (بابار السماوية) وانتقلت مفاهيم دوموزي، وخاصة مسألة تواريه عن الأنظار، أي الموت والبعث، إلى الإله الشمس (بابار)، الذي كان مركز عبادته في سيبار (زيبار) وهو موقع في شمال وادي الرافدين (كردستان العراق حالياً). ويعتقد الباحث مرشد اليوسف أن (بابار) هو اسم إله الشمس في اللغة السومرية، وجاء منه اسم بابير وهو كبير الكهنة في الديانة الايزيدية(1). ويضيف “انه في العصر الكردي الكاشي الأول (1570 ق.م.) ارتبطت عقيدة الإله الشمس (بابار) الشمولية بصفات الوجود والجبروت الكلي والحكمة والعدالة. وكان الإله (بابار) الشمس يطوف بمركبته الشمسية كل يوم حول العالم ليطلع على أحوال الناس وأعمالهم عن قرب(…) وحتى تكتمل عقيدة الإله دوموزي في شخصية الإله بابار أسبغ الحكيم الكردي الكاشي مفهوم الإله الإنسان على إلهه العلوي بابار، وبذلك ظهر الإله بابار على هيئة إنسان تخرج منه أحزمة من الأشعة والضوء، وحسب المعطيات الأثرية فقد تربع الإله بابار على رأس البانثيون الكردي الكاشي بشكل مطلق.”(2)
ونقرأ في ترنيمة الفصول الأربعة في كتاب آفيستا دمجاً بين أهورا ومثرا في عبارة أهورا-مثرا في صيغة بايو-ثورشتارا، والتي تعني حرفياً “الخالقون- الحافظون” أو الخالق والحافظ. وجاء في اليسنا: “نقدم القربان للتلال التي تجري عليها السيول، للبحيرات التي تطفح بالمياه، للحبوب الذي تملأ حقول الحبوب، ونقدم القربان للخالق والحامي/الحافظ كليهما، الرب وزرادشت كليهما”(3)
لا يتضح نوع علاقة الحافظين-الخالقين الاثنين مع الجبال والمياه والشعير بشكل خاص، ولا نوع العلاقة التي تربطهما مع مزدا وزرادشت، وهذا المحتوى لا يساعدنا إذا لم يتم مطابقة “الخالق” أو المبدع بشكل حرفي مع مزدا، و “الحافظ” مع زرادشت. إلاّ أن المترجم البهلوي قدّم شرحاً لهذا النص يمكن ارجاعه إلى تقاليد أصيلة قبل الزرادشتية، من دون أن يدرك أن العبارة هي بالفعل بالعدد الثنائي، “الحافظ المبدع BRINKAR” وفسرّها بكلمات “الرب مثرا” ويظهر هذا في النص المماثل (يسنا 57/2) التي تقول:
نحن نعبد سراوشا
الذي عبد أهورا- مزدا
الذي عبد الفيوض السرمدية
التي كانت تعبد الحافظين- الخالقين الاثنين
اللذان خلقا (ثورستو- مثنى) جميع الكائنات الحية.
إذا كان واحداً من الحافظين- الخالقين هو مثرا، فان الآخر يكون هو أهورا، بمعنى أهورا ما قبل الديانة الزرادشتية، وهكذا يبدو أن أهورا هو الخالق، ومثرا هو الحافظ. وإن كلمة (ثورشتر) تتطابق مع (توشتر الفيداوية الذي يظهر عادة في الفيدا كرّب خالق مستقل، حيث نقرأ في الريغ- فيدا (4/42-43): “أنا (فارونا) العارف بالفضاء والعمق أسست بثبات مناطق الفضاء في عظمتها كلها، (والعارف أيضاً) بجميع المخلوقات كمبدع لها (توشتر)، لقد خلقت (ابرايام) كلا العالمين وحفظتهما”(4) . إذا كان المترجم البهلوي مصيباً في مطابقة مثرا مع أحد الحافظين الخالقين، كما يقول الأستاذ زيهنير، فلا بدّ أن يكون الآخر (أهورا) ما قبل الديانة الزرادشتية الذي يتطابق إلى حد بعيد مع ترنيمة الفصول السبعة مع الفارونا الفيداوي، وعليه فأن زوج الخالقين- الحافظين يمثل الزوج الإلهي القديم: أهورا ومثراـ أي مثرا- فارونا في التقاليد الفيداوية.
ويأتي اسم (بابا) كاحدى آلهات مدينة (لجش) السومرية، وكانت تدعى بالإلهة الأم، ويعتقد أنها كانت في الأصل إلهة محلية، وربما كانت إحدى آلهات الشفاء حيث ان إحدى الأغنيات السومرية المعروفة في العصر البابلي القديم كانت تلقبها باسم (نينيسنا-طبيبة الرؤوس السود).(5)
ويحمل إله القمر في اللغة السومرية لقب (أشيم بابار) ويعني صاحب الشروق المشع، وهو نفسه المعروف في السومرية (نانّا) وفي الأكادية القديمة عهداً (سو إين) و(سن) لاحقاً، حيث ورد اسمه في قوائم أسماء الآلهة المكتشفة في (فارا)، وربما اسمه أقدم من ذلك بكثير، ويعود إلى عصر الكتابات القديمة المكتشفة في (اوروك). وكان يعبد في أور وحرّان.(6)
للتعرف أكثر على حقيقة مفهوم وعبادة الإله (بابار)، يجب علينا تتبع آثار الديانة الهندو-إيرانية القديمة في (ريغ فيدا) الهندي المدون حوالي سنة 1500 ق.م.، وكذلك ما دونه أبا التاريخ هيرودوت عن نفس الإله. حينما انفصل الإيرانيون عن الهنود، اتجه الهنود نحو الجنوب عابرين جبال همالايا إلى بنجاب، أما الإيرانيون فقد نزلوا على هضبة إيران، وكان الإيرانيون آنئذ يعتنقون دين الهنود مما لا شك فيه، إلاّ أن ظهور زرادشت وما أتى به من إصلاحات، تعرض الدين القديم إلى بعض التغييرات والإصلاحات، حيث كانت الآلهة الإيرانية القديمة تظهر على النسق التالي:
1- (دياووس بيتر Diyvuh Piter= أب السماء/أو الأب السماء= إله السماء) الإله الأكبر الفاعل للخير. وكان مقدم معبودي الهندو-أوروبيين (الديفات) يسمى (دي يوس= إله السماء)، و (دياووس بيتر) المعبود الهندي الحالي، وهو نفسه (زؤوس باتير Zeus Piter) اليوناني و (ژوپیتر Jupiter) الروماني كلها (الأب ديوس أي الأب السماء بعينه.
2- الديفات؛ بمعنى قوى الطبيعة المصورة في صور مادية محسوسة، وهي تتضمن نوعان: قوى خيرة وقوى شريرة، يتم تمييزهما بناءً على الظواهر الطبيعية المنسوبة اليهما، كأن تكون القوى المؤمّنة لحاجات الناس، أو القوى المكدرة والمسيئة لمصالح الناس، كانتشار الأمراض والقحط والجوع، والفيضانات، والحرائق.
3- عبادة الآلهة العظام (آهورا Ahura أو آسورا Asura)، حماة المبادئ الأخلاقية. وكان كل من (دياووس بيتر Diyvuh Piter، ومهر/ميثرا= الإله الشمس) حاميين للمحبة والوفاء بالعهد. علما أن الآلهة النار Atharwan كانت من جملة الآهورات/الآسورات.
لقد أطلق زرادشت على أولئك الذين لم يتبعوا دينه اسم (دئيفه يسنه) أي عبدة الجن. (يقول الأستاذ المرحوم توفيق وهبي: “ليس ببعيد أن تكون لفظة (داسني) التي تطلق على اليزيدية أحياناً محرفة من (دئيفه يسنه)”(7) ، علماً لم يكن لهذا الاسم مفهوم قبيح لدى عبدة (ديو) أنفسهم. ورغم محاربة زرادشت أتباع العقائد الإيرانية القديمة ووصمهم بعبدة الجن، إلاّ أنه في عهد شابور الثاني الساساني تم رد الاعتبار للكثير من الآلهة القديمة كالشمس والقمر والشعرى والأرض والهواء ونالوا التقديس بشكل يتفق مع الديانة الزرادشتية، وألفت المزدسنية التي هي مزج للديانة الزرادشتية والعقائد القديمة التقليدية واعتبره ديناً رسمياً للدولة.
ويذكر هيرودوت عن عادات البارسيين “انهم يصعدون إلى أعلى قمم الجبال فيقدمون قرابينهم من فوقها إلى (زؤوس) وهو إله يطلقون اسمه على الكون والأفلاك”(8) وهذا يدل على ان الاله دياووس كان ضمن مجموعة الآلهة البارسيين، حيث كانوا يقدسون قبة السماء بكاملها. وكان هناك إله هندو-إيراني أو هندو-آري آخر يدعى (فارونه) جاء وصفه في (الفيداآت) على أنه: إله السماوات الساتر للكون كله. كيف نتصور ان البارسيين، ومن بعدهم الساسانيين، قد اعترفوا بربوبية كل من (أهورامزدا) و (دياووس) في آن واحد؟. كما تمت الإشارة اليه في أعلاه ان البارسيين لم يكونوا قد تركوا عبادة قوى الطبيعة بعد، من الممكن أن يكون (دياووس) لم يزل إلاهاً من تلك الآلهة، ومن المحتمل أيضاً أن تكون الإصلاحات التي جاء بها الزرادشتيون في عهد الأخمينيين اعتبارهم أهورامزدا إلاهاً للآلهة، قد أدت إلى أن تتراجع منزلة (دياووس) في الدرجة الثانية من الالوهية، كما جرى هذا التراجع نفسه بالنسبة إلى (دياووس) في الفيداآت(9). علماً وصف إله السماء (دياووس) في الفيداآت “بأنه الحكيم الأكبر الفاعل للخير ذو العزم والإرادة” ووصف (فارونه) الذي كان إله السماء في الليل بأنه “إله الحكمة والنظام والقانون والعدل والصدق والطهارة”(10) . وكان (فارونه) يلقب في الفيداآت بلقب (آسورا، يقابله في الإيرانية (آهورا)، كما كان (دياووس) يلقب بنفس اللقب. ونجد تشابهاً كبيراً بين (فارونه) و (أهورامزدا)، وكذلك نجد أن (فارونه) و (دياووس) كلاهما من منشأ واحد، ولذلك لا بد أن نحكم بأن (أهورامزدا) إما ناشئ من تطور الإله السماء (دياووس)، الذي هو الإله الأكبر فاعل الخير (آهورا-اسورا)، أو ناشئ من تطور (فارونه)، بمعنى أن الإيرانيون قد غيروا (فارونه) إلى (أهورامزدا)(11) . كما ان أتباع العقائد القديمة الذين لم يدينوا بدين زرادشت، كان لهم إله أعظم يعمل الخير، وهو الإله الطبيعي الذي عرفوه مع بقايا تلك الآلهة الطبيعة الأخرى منذ أدوار ما قبل التاريخ، وكانوا قد ورثوا معرفته من أجدادهم الأقدمين، وكان هذا الإله هو (دياووس پدر) الذي لا يزال الداسنيون= اليزيديون يعبدونه للآن ويعرفونه باسم (الملك طاووس أو “أب طاووس= عب طاووس”(12) .
ويرى البروفيسور مينورسكي بأن “طاؤوس ملك-الأب طاؤوس، هو أحد سيماء الالوهية لدي اليزيدية تظهر نفسها كمذهب ثنائي الاعتقاد، لكن هذه النظرية غير صحيحة لأن الخير والشرّ ليس في التناقض الأساس في البداية (أهورامزدا وأهريمان) وإنما بالعكس فالخلق كله من مصدر واحد، وانهم مخلوقين مثل خلق الضياء من الضياء (النار تتكون من النار)، و(الأب طاؤوس) عند الايزيدية هو قبلة للعبادة والتقديس(13).
بعد هذا العرض المقتضب للتطور التاريخي لعقيدة دوموزي/تموز/طاؤوس ملك، نصل إلى الاستنتاجات التالية:
– كان الهندو- إيرانيين، أو الهندو- آريين قبل ظهور زرادشت يعبدون (دياووس بيتر Diyvuh Piter= أب السماء/أو الأب السماء= إله السماء) الإله الأكبر الفاعل للخير. وكان معبود الهندو-أوروبيين (الديفات) يسمى (دي يوس= إله السماء)، و (دياووس بيتر) المعبود الهندي الحالي، كما كانوا يعبدون الآلهة العظام (آهورا Ahura أو آسورا Asura)، حماة المبادئ الأخلاقية. وكان كل من (دياووس بيتر Diyvuh Piter، ومهر/ميثرا= الإله الشمس) حاميين للمحبة والوفاء بالعهد.
– عندما ظهر زرادشت بدعوته الإصلاحية الجديدة، حارب بقوة أتباع “الديفات” وأبقى على بعض العقائد الهندو-إيرانية القديمة ودمج بين أهورا ومثرا في عبارة أهورا-مثرا في صيغة بايو-ثورشتارا، والتي تعني حرفياً “الخالقون- الحافظون” أو الخالق والحافظ. “الحافظ المبدع BRINKAR” وفسرّها بكلمات “الرب مثرا”
– وهذا يعني، إما ان (أهورامزدا) الزرادشتي ناشئ من تطور الإله السماء (دياووس)، الذي هو الإله الأكبر فاعل الخير (آهورا-اسورا)، أو ناشئ من تطور (فارونه)، بمعنى أن الإيرانيون قد غيروا (فارونه) إلى (أهورامزدا).
– وفي العصر السومري والكاشي صار هنالك دمج بين عقيدة دوموزي و(بابار) إله الشمس (1500 قبل الميلاد)، وإنتقلت مفاهيم دوموزي الخاصة بالموت والانبعاث إلى الإله بابار.
– ان الإله (بابار) هو نفسه (مهر/مثرا/ميثرا) إله الشمس للشعوب الهندو-إيرانية من عصر فيدا. ويبدو انه نفسه (دياووس بيتر- الأب طاووس)، الرمز الأقدس في الديانة الايزيدية، نرى ونسمع صدى هذا الاسم في التراث الديني الايزيدي (بيري كار Piri Kar) المحرفة من (بابار Papar) و (BRINKAR) بمعنى “الحافظ المبدع” وهو الإله ميثرا، وكذلك (الأب طاؤوس) بعد حذف حرف (الراء) للتخفيف وسهولة النطق. ونجد صدى (الأب) و (بابا) في لقب التبجيل لرجال الدين الايزيديين: بابا شيخ، بابا كافان، بابا جاويش، بابا قوال. وحتى أن لقب (بابا الفاتيكان) يأتي من نفس المنبع.
– ان كلمة (بير Peer أو pir) ليست لها علاقة مع (بيري كار Piri Kar) كونه طاؤوس ملك، كما يدعي بعض الكتبة الايزيديين الذين يشهون الحقائق. فـ (بيري كار Piri Kar) ماهو إلاّ تحريف الإله (بابار) أو (BRINKAR) إله الشمس/ميثرا الذي دمجت عقيده مع دوموزي/طاؤوس ملك.
المصادر المعتمد عليها:
1-مرشد اليوسف، دوموزي (طاووسي ملك)، مصدر سابق، ص 54-55
2-مرشد اليوسف، نفس المصدر السابق، ص 67.
3-آفيستا/الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية، هايتي 42/2، إعداد د. خليل عبد الرحمن، ص 135. أما الترجمة الواردة في كتاب: ر.س. زيهنير، المجوسية الزرادشتية/الفجر-الغروب، ص 76 فهي بالشكل التالي: “نقدس الجبال التي تجري المياه منها، نقدس البحيرات التي تحتوي على المياه، نقدس الشعير الذي يجلب النماء، نقدس الخالقين الحافظين الاثنين، نقدس مزدا وزرادشت”
4- ر.س. زيهنير، المجوسية الزرادشتية/الفجر-الغروب، نفس المصدر السابق، ص76-77.
5-د. اذزارد، م.هـ. بوب، ف. رولينغ، قاموس الآلهة والأساطير/في بلاد الرافدين (السومرية والبابلية) وفي الحضارة السورية (الاوغاريتية والفينيقية)، ص 74.
6- د. اذزارد، م.هـ. بوب، ف. رولينغ، نفس المصدر السابق، ص 48-49.
7-توفيق وهبي، أثران تأريخيان عن الكرد، قام بتحقيق الأول وتعريب الثاني محمد جميل الروزبياني، مطبعة المجمع العلمي، بغداد 1995، الحاشية رقم 20، ص 71.
8-هرودوت (1/131) الترجمة الفارسية؟ مقتبس من توفيق وهبي، مصدر سابق، ص 75.
9-توفيق وهبي، نفس المصدر السابق، ص 77.
10-د. محمد معين، مزديسنا، ص 38.
11-توفيق وهبي، نفس المصدر السابق، ص 79
12-نفس المصدر السابق، ص 84.
13-ف.ف. مينورسكي، الأكراد: ملاحظات وانطباعات، موسكو 1915، ترجمة وتعليق د. معروف خزندار، بغداد 1968، ص 45. كذلك انظر: د. خليل جندي، الدين الايزيدي، مصدر سابق، ص 40؟