الابتعاد القسري عن المجتمع العراقي، عن الفئات الاجتماعية، عن الشبيبة من الذكور والإناث، نتجت عنه فجوة واسعة ومديدة وغربة فيما بين المجتمع والقوى والأحزاب السياسية ونشطاء التيار الديمقراطي العراقي بكل فصائله واتجاهاته الفكرية والسياسية الديمقراطية واليسارية والاشتراكية. وكانت هذه الظاهرة الواقعية واحدة من أقسى العواقب السلبية الحادة التي أصيب بها التيار الديمقراطي العراقي خلال الفترة التي هيمنت فيها القوى والأحزاب القومية والبعثية اليمينية والشوفينية والرجعية المتطرفة على حكم البلاد. فطيلة حكم هذه القوى، الذي دام أكثر من خمسة عقود، مارست فيها سياسات تدميرية ضد القوى المعارضة لها أو المستقلين عنها أو حتى ضد قواها الذاتية، إذ تميزت بممارسة أبشع أنواع الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والشوفينية والطائفية، كما فرضت هيمنتها المطلقة على المجالات الفكرية والسياسية والحياة الاقتصادية والاجتماعية وعلى الإعلام والنشر، كما صادرت جميع حقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، ولاسيما الحق في العمل والحياة والكرامة، وغاصت في استخدام أقسى أنواع العنف السادي المرضي والاضطهاد المتعدد الجوانب والأغراض، ومطاردة المعارضين واعتقالهم وقتل الكثير منهم أو زجه بالسجون لسنوات كثيرة، أو فرض الهجرة القسرية على قوى وكوادر وأعضاء ومؤيدي التيار الديمقراطي العراقي وقوى سياسية أخرى أيضاً، إضافة إلى زجها الشعب العراقي بعدة حروبٍ إجرامية داخلية وخارجية متلاحقة دامت طوال الفترة بين 1980 حتى سقوطها بحرب الخليج الثالثة 2003، بضمنها السنوات العجاف، سنوات الحصار الاقتصادي الدولي وتفاقم حياة البؤس والفاقة للغالبية العظمى من أبناء وبنات المجتمع، وحيث حصدت الحروب والحصار والاستبداد مئات الألوف من العراقيات والعراقيين ومن مختلف الأعمار والقوميات والديانات والمذاهب الفكرية.
ورغم النشاط الفكري والسياسي والاجتماعي والإعلامي لقوى التيار الديمقراطي العراقي بكل فصائله العربية والكردية والقوميات الأخرى، لفضح وإدانة نهج وسياسات النظام البعثي الدكتاتوري، سواء أكانت خارج الوطن أم في مناطق إقليم كردستان العراق، في فترة الكفاح الأنصاري أو في الفترة التي أعقبت عام 1991، بعد اضطرار نظام الحكم البعثي على الانسحاب من بعض مناطق إقليم كردستان العراق، فأن انقطاعاً طويلاً وغربة فعلية حصلت عن المجتمع ونسيان ملموس من جانب الذين ولدوا في نهاية السبعينيات وما بعدها لحركة ونضال ودور قوى وأحزاب التيار الديمقراطي خلال العقود المنصرمة وعدم معرفة الحجم الكبير للتضحيات، ولاسيما الشهداء الأبرار، الذي قدمته هذه الحركة لتخليص العراق من الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والفكري.
وخلال فترة الاغتراب عن الوطن لم يستطع التيار الديمقراطي العراقي العمل الواسع والمناسب في صفوف الجاليات العراقية التي كانت في الغالب الأعم في أكثريتها تعاني من مصاعب جمة، بما في ذلك الإحباط والبطالة وعوز العيش الكريم، إضافة إلى قناعتها بعدم قدرة قوى التيار الديمقراطي العراقي على تغيير الوضع الدكتاتوري في العراق. وبسبب طول فترة الغربة كبر سن أغلب كوادر وأعضاء قوى التيار الديمقراطي الذين كانوا شباباً وبين 30-50 سنة أصبحوا بعد إسقاط الدكتاتورية كبار السن، ولاسيما القيادات الحزبية والكوادر المتقدمة، الذين عادوا إلى الوطن وعاودوا نشاطهم في الداخل، مع من كان قد بقي في الداخل من الكوادر القديمة، والتي هي الأخرى لم تعد شابة. لقد وجدت هذه القوى نفسها أمام وضع جديد معقد ومشوهومجتمع صعب الراس. وهنا لا بد من تشخيص بعض سمات أضاع العراق في أعقاب إسقاط الدكتاتورية، لكي نتفهم مدى صعوبة العمل الجديد في الداخل في ظل سلطة الاحتلال الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وقواتهما العسكرية والمدنية باتجاهاتهما الفكرية والسياسية والاقتصادية المعروفة ورغبتهما في تكريس هيمنتهما على العراق، إضافة إلى عوامل أخرى.
أولاً: حصول تحولات واسعة وعميقة جداً وسلبية في بنية المجتمع العراقي. فقد تقلص بشكل استثنائي عدد أبناء وبنات الطبقة العاملة العراقية، بسبب التدمير الهائل الذي أصيبت به الصناعة الوطنية وتوقف فعلي في الاستثمار الصناعي وعجز عن توفير المواد الأولية والاحتياطية للمكائن والمعدات المتبقية، وخراب الكثير من الأراضي الزراعية وتلوثها ووجود الألغام المبثوثة في المناطق الحدودية وخسارة هائلة في نخيل العراق وعموم زراعته، بسبب الحروب واستخدام الأعتدة المحرمة دولياً من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا والعراق نفسه في المعارك (اليوانيوم المخصب والسلاح الكيماوي)، إضافة إلى تراجع حجم الطبقة البرجوازية المتوسطة وعموم الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة، ولاسيما فئة المثقفين، نتيجة الانهيار الذي أصيب به الاقتصاد العراقي وتخلفه الشديد وريعيته التي جلبت له الكثير من المتاعب، بما في ذلك الاستبداد السياسي والتدخلات الخارجية الفظة. وكل هذه العوامل أدَّت إلى بروز فئات ذات قاعدة اجتماعية واسعة جداً نشأت بفعل انحدار الكثير من العائلات العمالية والفلاحية والبرجوازية الصغيرة إليها، فئات هامشية تعيش على هامش الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فئات يصعب عليها تدبير أمر عيشها اليومي، إنها من أشباه البروليتاريا وفئات أخرى رثة في سلوكها ومصادر عيشها اليومي وعلاقاتها الاجتماعية. وهي تحمل معها تركة ثقيلة من سياسات النظام وقسوته وعنفه وساديته، كما إنها ضحية النظام السياسي الدكتاتوري ونهجه وسياساته العسكرية والحربية والعدوانية نحو الداخل والخارج، إضافة إلى فساده وتعفنه.
ثانياً: تراجع شديد وعام في الوعي السياسي والاجتماعي في المجتمع العراقي نتيجة الاستبداد والقهر والتوعية المشوهة والمزيفة للنظام الدكتاتوري من جهة، وبسبب الفقر والحرمان والبطالة والأمراض والحروب والموت الذي حصد مئات الآلاف من سكان العراق، ولاسيما الذكور، وأصيب ما يقارب ذلك العدد بجروح وعوائق وتشوهات أبعدوا عملياً عن مجمل العملية الاقتصادية، دفع بهم كل ذلك إلى الغوص في الغيبيات والخرافات والأساطير والسحر، ثم السقوط تحت تأثير شيوخ دين مزيفين ومشوهين وأحزاب وقوى إسلامية مماثلة تستثمر الدين لصالحها وإملاء جيوبها بالسحت الحرام من جهة ثانية.
ثالثاً: وبسبب تلك الأوضاع الشاذة والطويلة الأمد حصل تراجع في السلوك العام وفي صيغ التعامل اليومي للكثير من القيم والمعايير العامة وذات الطابع الإنساني الشمولي التي عرف بها الشعب العراقي، ونشأت عوضاً عنها سلوكيات غير حميدة كالانتهازية والخديعة والمختلة والركض وراء المكاسب بأي ثمن، إضافة إلى تفاقم العنف والضغينة والعدوانية والرغبة في الثأروالنزعات الشوفينية الطائفية المقيتة والرغبة في الانتقام.
رابعاً: وعلى أثر إسقاط الدكتاتورية على أيدي القوى الإمبريالية المعروفة، ولاسيما الولايات المتحدة وبريطانيا، التي ادَّعت بناء الديمقراطية “الأمريكية!” على أنقاض الفاشية في العراق، قامت بتسليم الدولة بسلطاتها الثلاث بأيدي قوى إسلامية سياسية طائفية، بأيدي جماعات من أشباه البروليتاريا ومن الفئات الرثة، والفئات الرجعية والمحافظة القديمة، التي فرضت الحكم الطائفي المحاصصي على البلاد، والذي أنهى العمل بمبدأ وهوية المواطنة، وأخذ بالهويات الفرعية القاتلة والمدمرة لوحدة الشعب ومصالحه الأساسية. لقد نهض في العراق حكماً طائفياً محاصصياً بأيديولوجية دينية رجعية مشوهة وفاسدة، نخرت في النسيج الوطني للمجتمع العراقي ودفعت بالبلاد إلى جحيم لا يطاق ولا يختلف كثيراً في بعض أبرز جوانبه السيئة عن النظام السياسي الشوفيني والعنصري.
في مثل هذا الواقع كان على القوى الديمقراطية العراقية أن تجد طريقها في العمل السياسي والاجتماعي وأن تطرح برامج تتناغم مع الواقع الجديد في العراق، وأن تعمل على تجميع قواها والتعاون والتنسيق فيما بينها لتجاوز الصعاب والإحباطات المتراكمة في المجتمع وجماهير قوى التيار الديمقراطي العراقي.
لم يكن العمل سهلاً على كوادر قوى التيار الديمقراطي العديدة القادمة من الخارج وتلك التي كانت في الداخل ولا على إيجاد لغة مشتركة فيما بينها، بل نشأت منافسة غير عقلانية ورغبة في توسيع وتقوية الذات، ربما حتى على حساب الآخرين من قوى التيار، أولاً، وصعوبة الوصول إلى الشبيبة التي لم تتعرف عن قرب على قوى التيار الديمقراطي، وغالبيتهم ليسوا من الشبيبة ثانياً ويصعب عليهم تغيير خطابهم السياسي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
في مقابل ذلك كانت قوى الإسلام السياسي، الشيعية منها والسنية، التي تسلمت الحكم، قد وجدت في عمل المساجد والجوامع والحسينيات والمنابر الدينية مجالاً واسعاً للعمل في أوساط المجتمع، حين عادت إلى العراق وتسلمت السلطة، فاستطاعت أن تجتاح الساحة العراقية وتمارس بالتعاون مع المرجعيات والمؤسسات الدينية الهيمنة على المجتمع مستفيدة من بعض التقاليد والطقوس الدينية، ولاسيما المذهبية الشيعية، في التأثير على المجتمع اشيعي والشبيبة الشيعية لصالحها ومصالحها في آن واحد.
رغم إن هذا الوضع البائس لا يزال قائماً حتى الآن، استطاعت قوى التيار الديمقراطي، ولاسيما الزب الشيوعي العراقي، بجهود كثيرة وحثيثة وتضحيات غير قليلة، اختراق نسبي للطوق الذي فرض عليها، وإيجاد لغة مشتركة نسبياً مع جمهرة من الشبيبة والنساء، في مجال الحراك المدني الشعبي، خاصة وأن المجتمع العراقي يعاني الأمرين من سياسات النظام الطائفية والفساد السائد اللذين تجليا بشكل صارخ في كامل سياساتها وتعاملاتها اليومية والتي افتضح أمرها على نطاق واسعد.
لقد استطاع الحزب الشيوعي أن يجدد نسبياً جزءاً من قيادته وكوادره وأن يكسب نسبياً المزيد من الشباب والنساء في العمل، ورغم إنه بحاجة إلى المزيد والمزيد جداً من العمل باتجاه الشباب والنساء وعموم المجتمع، إلا إن الواقع يشير إلى أن بقية قوى التيار الديمقراطي لم تستطع حتى الآن أن تجدد نفسها أو تضيف شباباً إلى قياداتها، وبالتالي فهي لم تستطع التوسع في القاعدة الشبابية أو النسوية كما يفترض أن يكون عليه الأمر، وبالتالي فأن تأثيرها في المجتمع بقي ضعيفاً وتأثيرها محدوداً والتصويت لها في الانتخابات العامة واطئاً، مع قناعتنا بوجود تزوير وتزييف للإرادة ورشوات هائلة شهوت العملية الانتخابية كلها. إني بهذا المعنى أود أن أؤكد بأن أعضاء قيادات قوى تيار الديمقراطي في أغلبها لا تزال من كبار السن أولاً ومن الذكور ثانياً ونادراً ما تجد امرأة في القيادة، فيما عاد الحزب الشيوعي فله بعض النسوة في اللجنة المركزية وواحدة في المكتب السياسي للحزب.
ما لم تتحرك قوى التيار الديمقراطي، بما فيها الحزب الشيوعي العراقي، بشكل أكبر وأوسع، نحو الشبيبة من الذكور والإناث، وما لم توضع خطة متكاملة بهذا الصدد مع استخدام التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال الأكثر حداثة وتأثيراً، فسوف يصعب عليها تجاوز الواقع الراهن القائم في العراق، فالشبيبة هي عصب الحياة وهي التي تمتلك القدرة على وعي الجديد والتجديد والتفاعل مع المجتمع والأحداث بسرعة وبحيوية فائقة، ولها القدرة في التأثير المباشر على بقية فئات المجتمع. بين الشبيبة الطلبة وكثرة من المثقفين ومن العمال والفلاحي والكسبة والحرفيين، والكثير منهم من أبناء وبنات الفئات الكادحة والفقيرة المظلومة والمضطهدة اقتصادياً واجتماعياً والتي تعيش على هامش الحياة السياسية، وهي الصوت الذي لم يجد في القوى الإسلامية السياسية من اهتم به وبمصالحه وحقوقه والذي يدرك يوماً بعد أخر، المخاطر التي تلم بالعراق وأكثر حتى من السابق، بسبب النهج الطائفي المحاصصي والفساد ووجود الميليشيات الطائفية المسلحة والصراع الطائفي في البلاد على مستقبل البلاد والشعب، إضافة إلى كون الشبيبة بدأت تدرك تدريجياً بأنها قد استغلت ولا تزال تستغل بوحشية من جانب قوى الإسلام السياسي الطائفية لصالحها ومصالحها، دون أي اعتبار لمصالح الشبيبة وحياتها ومستقبلها ومستقبل البلاد.
إنها واحدة من أهم مهمات قوى التيار الديمقراطي هو العمل الجاد والدروب بين الشبيبة لكسبها إلى جانب برامجها ونشاطاها وفعالياتها للخلاص من النظام السياسي الطائفي المحاصصي، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، إنها من أكثر المهمات صعوبة وحيوية وتعقيداً، ولكنها الأكثر أهمية ونبلاً، إذ عليها يعتمد تغيير واقع العراق الراهن.