.
“يتسبب الفساد في خسائر فادحة في البلدان الفقيرة ويؤدي إلى عدم الاستقرار والهجرة والصراع”، بعض ما ورد في مذكرة العمل الخاصة بالرئيس الأميركي، جو بايدن، التي نصت على أن مكافحة الفساد مصلحة أساسية للأمن القومي للولايات المتحدة.
تأتي نظرة إدارة بايدن في أجندة مختلفة عما يميل إليه خبراء سياسة الأمن القومي التقليديون بالنظر إلى الأمن القومي من خلال عدسة القوة الوطنية، وفي أغلب الأحيان، من منظور مقارنة الجيوش والقوات البحرية والقوات الجوية.
ويرى كبير الباحثين في معهد واشنطن والمستشار السابق لدى وزارة الخارجية الأميركية، ديفيد بولوك، في حديثه مع موقع “الحرة” أن الفساد المبالغ فيه يؤدي إلى عدم الاستقرار مثلما رأينا في ثورات الربيع العربي، “ولكن الأفضل هو عدم الصدام، والإصلاح خطوة خطوة، وهذا ممكن ولكنه معقد وليست هناك ضمانات للنجاح”.
فالمستويات المرتفعة للفساد وغياب المساءلة والشفافية هي في المقام الأول عواقب لفشل الحكم وضعف سيادة القانون، في بعض الدول، كما لا يمكن تجاهل أهمية كيف كان الفساد المنهجي في بلدان مثل سوريا إلى العراق إلى أفغانستان عاملاً رئيسيًا في التسبب في عدم الاستقرار ومنع حل التحديات، وفقا لتقرير نشرته “ناشيونال إنترست“.
لكن بدلا من استخدام القوة العسكرية لإصلاح الأنظمة الفاسدة، “يمكن العمل على الإصلاح التدريجي ومكافحة الفساد، ما سيؤدي إلى الاستقرار الاقتصادي، والذي سيؤدي في النهاية إلى الاستقرار السياسي، بحسب المحلل السياسي في واشنطن، مهدي العفيفي، في حديثه مع موقع “الحرة”، وهو ما تتجه إليه إدارة بايدن.
وبحسب المنتدى الاقتصادي العالمي فإن التكلفة العالمية للفساد لا تقل عن 2.6 تريليون دولار أميركي، أو 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ووفقًا للبنك الدولي، تدفع الشركات والأفراد أكثر من تريليون دولار في شكل رشاوى كل عام.
وأظهرت دراسة أجراها مركز كارنيجي للسلام الدولي وجود علاقة واضحة بين مؤشرات العنف وعدم الاستقرار والفساد، مما يدل على أن البلدان التي يتسم بها الفساد المستشري تميل إلى أن المعاناة من الصراعات وفشل في أنظمة الدولة.
وعانت 12 من أصل 15 دولة في الترتيب الأدنى في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2013، من نوع من التطرف العنيف أو الإرهاب أو التمرد أو أي تهديد آخر مشابه للأمن الدولي. وتقع دول مثل ليبيا وسوريا وأفغانستان والسودان والعراق واليمن في هذه الفئة.
وعلى الرغم من عدم وجود تعريف واحد عالمياً للفساد، إلا أن هناك قبولًا واسعًا لتعريف منظمة الشفافية الدولية الذي يشير إلى “إساءة استخدام السلطة المخولة لتحقيق منافع خاصة”.
ويستشري الفساد في كل مكان تقريباً، لكنه يزدهر حيث تكون سيادة القانون ضعيفة وحيث يكون احتكار السلطة على تخصيص الموارد (العامة والخاصة) مقترنًا بالسلطة التقديرية الفردية وغياب المساءلة، كما تخلق مستويات الفساد المتفشية دولا هشة من خلال الحد من الحكم الديمقراطي الفعال.
فما هي أدوات الإدارة الأميركية للحد من الفساد العالمي؟
وبينما لا يرى بولوك أن الآليات التي تعتمدها الإدارة الأميركية في هذا الجزء خصوصا “غير واضحة”، وأنه “من الصعب حدوثه” إلا أنه يؤكد أن الحكومة الأميركية قادرة بمعاونة بعض الدول الأخرى على الحد من الفساد في كثير من الدول، إن تمكنت من تحديد الخطوات المناسبة.
لكن العفيفي يشير إلى أن الولايات المتحدة تملك الكثير من الأدوات ويمكنها إنجاز الكثير في نطاق مكافحة الفساد في كثير من الدول الموجودة في الشرق الأوسط، لكن “الأمر سيأخذ وقتا”، مؤكدا أيضا على ضرورة التعاون الدولي لتحقيق هذا الهدف.
وأوضح بولوك “أولى الأدوات التي يمكن استخدامها بسرعة هو كشف أسماء الأشخاص الفاسدين في أنظمة الحكم المختلفة والتركيز عليها وفضحها”، مضيفا أنه “رغم أن هذه الخطوة رمزية وليس لها أسنان، لكنها تشعر بعضهم بالعار وتفضحهم أكثر أمام الرأي العام”.
ومن ضمن الخطوات الرمزية الأخرى، يشير بولوك إلى ضرورة أن تقدم الولايات المتحدة أيضا، من جانبها النموذج الإيجابي في هذا المجال وهذا يحتاج إلى إصلاح داخلي اقتصادي واجتماعي وسياسي.
“يجب أن تركز أي استراتيجية لمكافحة الفساد على مصدر الأموال، وشبكات المصالح والثروة والسلطة”، بحسب ما أفاد العفيفي، مؤكدا أن “الحكومة الأميركية تملك أدوات تمكنها من مسألة الرقابة على المصادر المادية وتتبع أصول الأموال سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات بطريقة تضمن عدم وصول الأمر إلى غسيل أموال أو استخدامها بطريقة غير شرعية”.
وقال: “لو نظرنا إلى أسلوب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على أفراد أو مؤسسات معينة، تستطيع الحكومة الأميركية من خلال تطبيق هذه العقوبات التحكم في وصول هذا الدعم للأفراد أو عدمه، إضافة إلى أن الأدوات الأخرى التي تملكها واشنطن من متابعة البنوك والمؤسسات المالية تسمح لها بتتبع أثار هذه الأموال ومعرفة من أين تأتي وإلى أين تذهب”.
تنسيق أفضل
وأكد بولوك أن “الخطوة الأخرى المهمة هو تنسيق الإدارة الأميركية أثناء تنفيذ سياسة مكافحة الفساد، مع المنظمات الدولية ودول أخرى من أجل فرض قيود أو ربما عقوبات على المجرمين المفسدين عبر البنوك الدولية وآليات تحويل الأموال (سويفت)، ومجموعة العمل المالي لمحاربة تزوير العملات وتمويل الإرهاب (فاتف)، فضلا عن إلغاء الرخصة للنظم الفاسدة للمشاركة في المؤسسات المالية الدولية”، مضيفا أن “هذا صعب لأنه يحتاج إلى إجماع دولي”.
ومثل التعاون مع المنظمات المالية الدولية، يشير بولوك إلى أهمية التنسيق بين الولايات المتحدة ودول العام المختلفة، “مكافحة الفساد في المجال العالم يحتاج إلى تنسيق دولي، وهذا أعتقد الشعار الأساسي لإدارة جو بايدن، الذي يفضل التعاون الدولي وليس الخطوات الأحادية المنفردة الأميركية مثلما كان يفعل ترامب”.
يشير العفيفي إلى أن عدم تنسيق الولايات المتحدة مع دول أخرى مثل الاتحاد الأوروبي، أدى إلى فشل تأثير العقوبات الاقتصادية على بعض أنظمة الحكم الفاسدة أو المستبدة حتى بعد وقت طويل.
فالعقوبات التي فرضت على النظام السوري، على سبيل المثال، تحت قانون قيصر “نتيجة هذه العقوبات المالية والقوية والصعبة التي فرضت على نظام بشار الأسد للأسف كما يبدو هو الفقر عند الشعب وازدياد الفساد لدى النخبة الحاكمة وازديادهم غنى حيث يستغلون الشعب لكسب المزيد من الأموال وسرقة المساعدات التي تأتي له”، بحسب بولوك.
ويطلق العفيفي على العقوبات الاقتصادية التي فرضت على بعض أنظمة الحكم السلطوية في عهد ترامب على أنها كانت لأسباب سياسية ولأهداف أخرى غير مكافحة الفساد، والمسألة لن تتم بهذا الشكل”.
ويقول: “عندما تفرض عقوبات سياسية فقط، يكون تأثيرها ضعيفا بل تكون هناك مقاومة كبيرة ويستغلها النظام في تشويه صورة الولايات المتحدة”.
وقال: “قانون قيصر لم يصل إلى النتيجة المرجوة، لأنه لم يكن هناك تعاون كاف بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية وكان هناك خلاف سياسي على المصالح، لكن عندما تكون هناك منظومة كاملة ومتابعة الشركات التي يتعامل معها النظام وتنسيق مع الدول الأوروبية، أعتقد أنه ستكون هناك نتيجة إيجابية، أن منظومة الفساد ليست مجرد فرد وإنما مجموعات مستفيدة من الفساد وهناك من يسهل هذا الفساد”.
لكن المسألة ليست سهلة بتاتا ولن تلحظ نتائجها في يوم وليلة، بحسب العفيفي، الذي يقول: “سيتطلب الأمر فترة خاصة في بلدان مثل العراق ولبنان اللذين يحتاجان إلى مكافحة الفساد بشكل عاجل، لكن الأمر سيأخذ من ثماني إلى عشر سنوات”.
وأوضح قائلا: “لأن إصلاح الفساد يحتاج إلى تغيير الأفراد والفكر، والمؤسسات، لكن يمكن أن تكون هناك نتائج إيجابية في السنوات الأولى”.
وأوضح أن “استشراء الفساد في العراق مثلا كان بسبب التدخل الإيراني وعدم وجود مؤسسات فاعلة حقيقية، أعتقد أن تواجد مؤسسات متخصصة في مكافحة الفساد ومتابعة الأموال، ستدعم متخذي القرار في مثل هذه الدول، وبالتالي سيؤدي إلى استقرار تدريجي يبدأ باستقرار اقتصادي ثم استقرار سياسي”.
وقال: “سيكون هناك تخوف في التعامل في بعض البلدان وعلى رأسهما لبنان والعراق وذلك بسبب التعددية الداخلية والصراعات الطويلة في الداخل لكن أعتقد أن التفكير في هذه الموضوع والبداية فيه شيء جيد ويمكن البناء عليه في المستقبل”.