تزداد يوماً بعد آخر معاناة الغالبية العظمى من بنات وأبناء شعب العراق المعيشية والحياتية اليومية، فالأزمة المالية التي هي من صنع قوى النظام ونهبهم المستمر والهائل لخيراته المادية وأمواله النفطية من جهة، والالتزام الخاطئ بـ “توجيهات ونصائح وبرنامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي” الاقتصادية والمالية والاجتماعية من جهة ثانية، وسوء استخدام موارد الدولة المالية والابتعاد الفعلي التام عن عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية واعتماد الاستيراد لتلبية حاجات السوق المحلي من جهة ثالثة، والتخلف الشديد في توفير الخدمات الأساسية للمجتمع، لاسيما لسكان المناطق الكادحة والفقيرة، وخاصة الكهرباء والماء والسكن المناسب وارتفاع الأسعار الجنوبي للمواد الاستهلاكية والإيجارات والمضاربة بالعقارات…إلخ، وتدهور سعر صرف الدينار العراقي بعد تخفيض رسمي لسعر صرفه مقابل الدولار بـ 25% تقريباً، إضافة إلى استمرار غسيل الأموال وبيع العملة الصعبة في مزاد البنك المركزي وتنامي دور السوق الموازي للعملة من جهة رابعة. وتخيم اليوم على البلاد غيوم داكنة تهدد بكوارث جديدة، لاسيما الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية بواقع استمرار هيمنة القوى السياسية الطائفية الفاسدة على مقاليد الدولة بسلطاتها الثلاث، لاسيما السلطة التنفيذية ومجلس النواب، وعجز القضاء وخضوعه أو تخلفه وخشيته المستفحلة، عن تقديم الدعم للشعب وإسناده في مواجهة قوى الدولة العميقة بمؤسساتها العسكرية والاقتصادية والمالية والأمنية وفرق التهديد والابتزاز والاختطاف والاغتيال وتشابكها العدواني مع مؤسسات الدولة الرسمية المدنية منها والعسكرية.
ونتيجة لهذا الواقع المرير انطلقت الانتفاضة التشرينية الباسلة 2019، ولم تحقق الأهداف الفعلية، لاسيما تغيير النظام السياسي الطائفي المحاصصي والإتيان بحكومة وطنية ديمقراطية لتسيير دفة البلاد وإخراجها من دائرة التبعية الشديدة لإيران بشكل خاص وضد التدخلات العسكرية التركية ووجود القوى الأجنبية والخبراء الأمريكان عموماً في العراق. وإذ تمكنت حكومة الكاظمي تفتيت نسبي لقوى الانتفاضة التشرينية أو السماح بتشريدها، إلا إن نواتها الثورية الأساسية ما تزال تعمل بجد لاستعادة زخمها السابق ودورها وتأثيرها وتوسيع قاعدة المشاركين فيها. ونجد اليوم لوحة تبشر بإمكانية تطوير الحراك الشعبي، إذ تتسع الإضرابات المهنية والاحتجاجات الشعبية والمطالبات بالدفاع عن مطالبهم ومصالحهم الأساسية المفقودة والمصادرة، وهي تحركات مهمة وضرورية لأنها مرتبطة عضوياً وغير منفصلة قطعاً عن حالة الوطن السيئة وخضوع الحكام وخنوعهم لإيران ومصالحها في العراق.
وتشير اللوحة السياسية إلى أنه وفي الوقت الذي يخوض الشعب بأغلبيته صراعاً رئيسياً مستمراً ضد أحزاب وقوى وميليشيات الطغمة الحاكمة ومصالحها الأنانية وتبعيتها للأجنبي، واحتمال كبير بانفجار جدد للانتفاضة أو لثورة شعبية عارمة تطيح بهذه الطغمة وتكنس البلاد من أردانها، تتفاقم في الوقت ذاته صراعات أخرى تدور حول اقتسام الأدوار والمصالح والتسابق في إبداء الولاء للأجنبي الإيراني أو غيره في إطار الطغمة الحاكمة وقواها الذاتية، وتنذر بنشوب نزاعات دموية مسلحة في كل لحظة إذا ما واصلت ميليشيات الحشد الشعبي الولائية بتوجيه صواريخها وطائراتها المسيرة وألغامها الأرضية، وأغلبها إيرانية الصنع والمصدر، صوب المعسكرات العراقية التي فيها خبراء من الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف الدولي أو زرع الألغام في طرق سير حافلاتها. وهي مصرة على ذلك على وفق أخر تصريحات لقادتها الولائيين. كما يبرز احتمال نشوب نزاعات دامية فيما بين الميليشيات الطائفية المسلحة ذاتها لانتزاع المواقع الأقوى والأرأس في السلطات الثلاث والتحكم بالسياسة والاقتصاد والمجتمع والقضاء العراقي والهيئات المستقلة. ومثل هذا الصراعات كما يبدو واضحاً تدور بين الميليشيات الولائية التابعة لإيران مباشرة، وتلك التي لا تخضع بالكامل لإيران وتدعي التزامها بالمرجعية والحوزة الشيعية في النجف، ومعها ميليشيا سرايا السلام وجيش المهدي. ويبدو أن قوى السلطات الثلاث حائرة في أمرها فهي في جرٍ وعرْ، بعضها يقف مؤيداً لسريا السلام وجيش المهدي وسائرون وقائدها مقتدى الصدر، كما يلاحظ في موقف رئيس الحكومة خلال الفترة الأخيرة، وبعضها الآخر يقف مع ميليشيا فيلق بدر وفتح وقائدهما الإيراني الهوى والهوية هادي العامري، وكثرة من الميليشيات الولائية التي تدين بالولاء الكامل لإيران وعضوة في الحشد الشعبي التي تؤيد وتقف في المحصلة النهائية إلى جانب هادي العامري، ومنها بشكل خاص ميليشيات عصائب أهل الحق وكتاب حزب الله والنجباء وعشرات أخرى من ذات الصنف والمعدن الرديء.
وفي هذه الفترة بالذات وفي هذه الأجواء المتشابكة يُقبل العراق على إجراء الانتخابات العامة المبكرة لمجلس النواب، فماذا هيأت الحكومة الحالية لهذه الانتخابات؟ كلنا شهود على أن حكومة مصطفى الكاظمي لم تهيئ أي إجراء مناسب وسليم، أو أنها عاجزة عن توفير أي شيء يسمح بإجراء انتخابات عامة وحرة ونزيهة وعادلة، بل كل الوقائع على أرض العراق تشير إلى أنها حددت موعد الانتخابات فقط ثم غيّرته، ولكنه ما يزال الموعد قلقاً وغير ثابت. فهل من حقنا الادعاء بأن الحكومة لم تفعل شيئاً يستحق التأييد؟
الشعب العراقي بغالبيته يواجه الوقائع التالية:
- سيطرة فعلية لقوى الدولة العميقة، لاسيما الميليشيات الطائفية المسلحة الولائية وغيرها والأعضاء في الحشد الشعبي، تهيمن على الساحة العراقية وتمتلك القدرة على تهديد الحكومة بل وعلى اغتيال رئيسها إن شاءت ومتى شاءت إن خالفها بالرأي، كما صرحت مرّات بذلك. فهي تمتلك السلاح والقوة الكافيتين للقيام بذلك، لاسيما لها في القوات المسلحة الرسمية ما يساندها من القوى الطائفية الفاسدة.
- عجز الحكومة عن تنفيذ أوامر القبض على من مارس الاغتيال أو الاختطاف، وحين يتم ذلك فالقضاء مستعد لتلبية أوامر الدولة العميقة بإطلاق سراح المعتقل بذرائع مختلفة. فالحماية للقضاء والقضاة من إرهاب الميليشيات مفقودة عملياً، حتى وهم في عقر دار الدولة والسلطة التنفيذية ومجلس النواب. والأدلة يعيشها الشعب يومياً وآخرها إطلاق سراح المتهم بالاغتيالات الميليشياوي قاسم مصلح. فالقتلة أحرار وعلى استعداد تام لتنفيذ أوامر القتل التي تصدرها إيران ودولتها العميقة في العراق بحق نشطاء الحركة المدنية والمدنية الديمقراطية وقوى الانتفاضة التشرينية.
- ليست الميليشيات الطائفية المسلحة هي من يهدد العراق باسم إيران فحسب، بل إيران ذاتها تشكل بقواها الذاتية الموجودة في العراق وهيمنتها الفعلية على مفاصل أساسية في الدولة والاقتصاد والبنوك والمجتمع تشكل عاملاً قوياً ضاغطاً لإخضاع الدولة لإرادة إيران وكذلك نتائج الانتخابات لصالحها.
- عجز الحكم، رغم كل الادعاءات بمحاربة الفساد، فمازال دهاقنة الفساد يمارسون بحرية كبيرة وبكل أمان دورهم في نهب خيرات البلاد وأمواله، وبالتالي فأن المال الحرام يتحرك بحرية تامة في الساحة العراقية وقادر على تغيير كل شيء لصالح الطغمة الحاكمة، سواء بوجوه قديمة أم جديدة يطرحها للانتخابات القادمة، لاسيما وأن البطالة والفقر المدقع والحرمان يسحق أبناء وبنات الشعب العراقي ويعرض كرامتهم وحرتهم لفدية للخطر، إضافة إلى ضعف الوعي بالمآل التدميري للقبول ببيع صوت الناخبة أو الناخب لصالح قوى الدولة العميقة والطغمة الحاكمة وإيران.
- وماذا عملت الحكومة الحالية من أجل تغيير قانون الانتخابات لصالح قانون حر ونزيه وعادل، لا شيء حقاً وصدقاً أولاً، كما أن التغييرات التي حصلت على بنية المفوضية المستقلة للانتخابات حافظت على طبيعتها الطائفية المحاصصية الفاسدة، وبالتالي احتمال التزوير والتزييف ممكنة جداً، سواء وجدت رقابة محلية أو دولية، فهم يملكون خبرة متراكمة.
إن قوى الدولة العميقة فرحة حتى الآن بما حصل، وهي مستبشرة خيراً لها إذا ما جرت هذه الانتخابات في ظل الأجواء السائدة حالياً، وبالتالي فلن يكون نصيب من يخوض هذه الانتخابات من القوى المدنية سوى فتات الموائد لا غير، إذ ضمنت الأكثرية الساحقة لها، حتى أن أمين عام ميليشيا فيلق بدر وفتح هادي العامري هدد بأن كتلته إن لم تحصل على الأغلبية سينتفض ضد النتائج ويعتبرها مزورة. هكذا إذن تجري الأمور على وفق الرياح التي تريدها إيران وقواها المحلية، في حين أن الولايات المتحدة منشغلة جداً بمساومة إيران في مفاوضات الطاقة النووية على حساب مصالح العراق بشكل خاص، والذي ينبغي التنبيه إليه والتحذير منه، فالعلاقات الدولية لا تعرف الصداقة والتحالفات والاتفاقيات المبرمة، بل تحكمها المصالح المباشرة، وهو ما عرفناه دوماً في مواقف بريطانيا والولايات المتحدة وغيرها.
من هنا تنشأ الحاجة الملحة والضرورة القصوى في لقاء كبير وأساسي بين كل القوى المدنية النظيفة والديمقراطية، كل قوى اليسار، كل القوى المناهضة للدولة الدينية والتحكم الخارجي بالقرارات السيادية العراقية، كل القوى المناهضة للوجود الأجنبي العسكري والمدني في العراق، في عقد مؤتمر وطني جامع وشامل يضع أهدافاً محددة وينسى الخلافات أو التباينات الثانوية لصالح بناء الدولة الديمقراطية المستقلة، لصالح انتزاع استقل وسيادة العراق، لصالح إقامة مجتمع مدني ديمقراطي واقتصاد متنوع ومزدهر وعادل.
26/06/2021