تشير المعطيات المتوفرة إلى أن عدد سكان العراق قد بلغ 40 مليون نسمة في عام 2020، وأن عدد العراقيات والعراقيين الذين يعيشون في الشتات العراقي في جميع أنحاء العالم يزيد عن 5 ملايين نسمة، وأن عدد اللاجئين منهم قد تزايد بشكل كبير منذ الغزو الداعشي لمحافظة نينوى في عام 2014. فالمعلومات المتوفرة تشير إلى أن نسبة عالية من مجموع من هم في الشتات تركوا العراق لأسباب سياسية واجتماعية، بما فيها الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والحروب الخارجية والداخلية، إضافة إلى الصراعات والنزاعات الداخلية التي برزت بشكل كبير في أعقاب إسقاط الدكتاتورية البعثية الصدَّامية الغاشمة تكريس نظام سياسي طائفي محاصصي فاسد. كما أن نسبة عالية من المهاجرين هم من أتباع الديانات الأخرى غير الإسلام، لاسيما أتباع الديانات المسيحية والإيزيدية والمندائية والبهائية الذين تعرضوا للاضطهاد في ظل النظام السياسي الطائفي الجديد. وإذا كانت فترة حكم الطاغية صدام حسين وعموم البعث قد شهدت هجرة وتهجير كبيرين لأتباع المذهب الشيعي في الإسلام من الكرد الفيلية والعرب، فأن الفترة الحالية في ظل النظام السياسي الطائفي المحاصصي الفاسد، فأن نسبة عالية من المهاجرين والمهجرين المسلمين هم من أتباع المذهب السني. وهذا بحد ذاته يبرهن على غياب العمل بالمبادئ الأساسية التي يفترض أن تحكم العلاقات بين البشر، بغض النظر عن لون بشرتهم أو قومياتهم أو دياناتهم أو لغاتهم، مبادئ الحرة والديمقراطية وحقوق وكرامة الإنسان التي لا يجوز المساس بها مطلقاً. فالمعلومات المتوفرة تشير إلى تقلص كبير في عدد السكان حالياً من أتباع الديانة المسيحية في العراق إلى حدود 1250000 نسمة بعد أن كان 2500000 نسمة في العراق في عام 2002، أما بالنسبة للصابئة المندائيين فتقلص عددهم من أكثر من 70 ألف نسمة في عام 2002 إلى أقل من 10 ألاف نسمة في الوقت الحاضر. وقد تشكلت جاليات كبيرة من الإيزيديين في دول الاتحاد الأوروبي، لاسيما في ألمانيا خلال السنوات الأخيرة، وغالبيتهم من الشبيبة.
إن الاستنتاج الرئيسي الذي يخرج به الباحث بشأن العامل المركزي في تنامي عدد المهاجرين والمهجرين واللاجئين من العراقيات والعراقيين يشير إلى العامل السياسي-الاجتماعي، أي الهروب من الدكتاتورية والإرهاب الحكومي والقسوة والهيمنة وغياب الحريات والديمقراطية والتمييز القومي والديني والمذهبي، والتمييز الشرس إزاء المرأة. أما العامل الثاني فهو العامل الاقتصادي الذي يرتبط بالبطالة المتفاقمة والمتراكمة والتمييز في التعيين وعدم الحصول على فرصة عمل بسبب تراجع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتدهور الخدمات الأساسية، إضافة إلى غياب الحريات الأكاديمية للهيئات التدريسية والتمييز في التعيين. وفي ظل النظام الطائفي المحاصصي الفاسد فأن إرهاب الميليشيات الطائفية المسلحة بمختلف ولاءاتها، والدولة العميقة التابعة لإيران والابتزاز والتهديد بالقتل والاغتيالات والبطالة وتفاقم الفقر والحرمان والتمييز الصارخ بين البشر على أساس الدين والمذهب والقومية والفكر والسياسة، والخشية من تلفيق التهم ضد المواطنات والمواطنين التي تؤكدها امتلاء السجون العراقية بألاف المعتقلين بتهم كيدية على ذمة التحقيق ولسنوات كثيرة، والضغوط المتفاقمة ضد المرأة، تشكل عوامل مباشرة وفاعلة في تنامي الهروب والهجرة من العراق وطلب اللجوء السياسي.
إن هذا الاستنتاج يجعلنا ندرك بسهولة بأن نسبة عالية من المهاجرين والمهاجرات لهم اهتمامات بالسياسة وبمصائر العراق والشعب العراقي، وبالتالي يمكنهم أن ينشطوا في الوقوف إلى جانب الشعب العراقي والتضامن مع المناضلين في الداخل، وأن يكسبوا الرأي العام في البلدان التي هاجروا إليها ويقيمون فيها إلى جانب قضايا شعبهم والتضامن معه ضد ما يتعرض له من سياسات مناهضة تماماً لحقوق الإنسان عموماً وحقوق القوميات وأتباع الديانات والمذاهب والمرأة العراقية. وهذا بدوره يمكن أن يحرك الراي العام العالمي وهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وكذلك لجان المجتمع المدني العاملة في مجال حقوق الإنسان الإقليمية والدولية لدعم نضال الشعب بقوة وحيوية وتأثير فعلي على الوضع الداخلي لصالح الشعب العراقي وقضاياه العادلة والمشروعة. ولكن السؤال المشروع: لماذا لا يحصل ذلك بالمستوى المطلوب؟
تذبذب تضامن الجاليات العراقية في الشتات مع حقوق الشعب في الداخل
أتابع منذ سنوات كثيرة مسيرة التضامن مع الشعب العراقي في الخارج. والخط البياني للتضامن على مدى العقود المنصرمة يشير إلى تذبذب شديد بين سنة وأخرى، وغالباً ما اقترن بواقع الحركة الاحتجاجية الشعبية في الداخل، فهي في صعود أو هبوط مع تلك مستوى الحركة على وفق الأحداث الجارية في العراق. وإذ يرتفع التضامن ويشتد في فترات النهوض الثوري في الداخل، يعود إلى الانحسار الشديد والإحباط الملموس في الخارج في فترات الركود النسبي في الداخل. ورغم وجود عوامل كثيرة دافعة للحراك الشعبي في الخارج لم تستطع منظمات المجتمع المدني العاملة في الشتات، ولا الأحزاب السياسية المدنية والديمقراطية، أن تعبئ نسبة مهمة من بنات وأبناء الجاليات العراقية في الخارج، ولا حتى كل العاملين معها، إلى جانب قضايا الشعب العراقي، علماً بأن الغالبية العظمى ممن هم في الخارج يقفون من حيث المشاعر والأحاسيس الوطنية إلى جانب الشعب في الداخل ويعانون من عدد من العلل النفسية الجسدية psychosomatic التي تتسبب بها الغربة ومعاناتهم المرتبطة بمعاناة أهاليهم الشديدة في الداخل. والسؤال المشروع: ما هي الأسباب الكامنة وراء هذا العزوف عن اللحاق بحركة التضامن المطلوبة؟ أحاول هنا أن أطرح بعض العوامل للنقاش متمنياً المشاركة في بلورتها أو حتى تصححها أو استكمالها:
- الإحباط الشديد الذي تتعرض له نسبة عالية من المقيمين والمقيمات في الشتات وشعورهم بعدم قدرة شعبهم على تغيير الأوضاع الجارية في الداخل، فالعراق يعاني من الدكتاتوريات الغاشمة منذ ستين عاماً، ورغم إسقاط الدكتاتورية بالحرب الأمريكية، فقد نهضت، وبدعم منها ومن إيران وغيرها، دكتاتورية ودولة عميقة جديدة على أنقاضها. وبالتالي يرون أنهم عاجزون عن مساعدة شعبهم على تحقيق التغيير الديمقراطي المنشود!
- ضعف الأحزاب والقوى المدنية والديمقراطية واليسارية العاملة في الخارج وتخلف أساليب وأدوات عملها وأساليب تضامنها وعجزها عن الوصول إلى أبناء وبنات الجالية العراقية وكسب اهتمامها، وتعتمد هذه القوى في الغالب الأعم على مجموع صغيرة جداً مكونة من شخصين أو ثلاثة اشخاص منذ سنوات كثيرة. علماً بأن الشيخوخة شملت جمهرة كبيرة من العاملين والعاملات في الحقل السياسي والديمقراطي ضمن القوى والأحزاب السياسية الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني وعجزهم الفعلي الجسدي والعمري عن إيجاد لغة مشتركة مع الشبيبة العراقية المهاجرة واللاجئة الجديدة وكسبها للعمل في هذه المنظمات أو الأحزاب، مما يزيد من مصاعب النهوض بالمهمات الضرورية.
- تزايد كبير في عدد اللاجئين والمهاجرين الجدد والانقطاع الفعلي للصلات بين قدامى المهاجرين واللاجئين والجدد، لاسيما وأن نسبة عالية من الجدد هم من الشبيبة العراقية التي أضرت الدكتاتورية والحروب بأوضاعها النفسية والسياسية كثيراً، والتي يعجز كبار السن عن فهمها وتأمين الصلة المناسبة بهم.
- مصاعب الحصول على عمل أو الاندماج في المجتمعات الجديدة وتعلم اللغة وتوفير العيش الكريم لعائلاتهم أو حتى لدعم عائلاتهم مالياً في الداخل، مما يبعدهم عن التفكير بالجانب الاجتماعي والسياسي العام، لاسيما بعد نمو العائلات بالأطفال ومصاعب الحياة وتأمين العيش الكريم.
- ضعف الثقة بالأحزاب والقوى السياسية العراقية لما مرت به هذه الجماعات في الداخل من مشكلات وتعرفت على تقلبات في السياسات والمواقف من القوى والأحزاب إزاء القوى الحاكمة. كما أن التباين الشديد والتذبذب في السياسات والمواقف لقوى المعارضة السياسية وبروز صراعات تجعل العمل المشترك وكسب الجدد للعمل السياسي او الديمقراطي شديد التعقيد والصعوبة.
- إن ضعف حالة الاندماج بالمجتمعات الغربية وضعف العلاقة باللاجئين الجدد ومشكلاتهم وسبل تقديم الدعم لهم يزيد من مصاعب الاحتكاك والعمل مع سكان البلاد الأصليين وكسبهم لصالح التضامن مع شعوبهم كما يزيد من إحباط القوى العاملة لصالح التضامن. علماً بان كثرة متزايدة من بنات وأبناء المجتمعات الغربية تقدم المزيد من الدعم والمساندة للاجئين واللاجئات الجدد القادمين من العراق وتناضل بعزم وإصرار ضد القوى اليمينية المتطرفة والنازية الجديدة وتفضح نواياها العنصرية والعدوانية ضد الأجانب.
- الإعاقة الفعلية التي تواجه نسبة غير قليلة من الجاليات في الخارج بسبب همجية النظام السياسي في بلدانهم في مواجهة المعارضة وخشيتهم من المشاركة في نشاطات التضامن لما يمكن أن يلحق عائلاتهم في العراق أو في بلدان الجوار/ مثل إيران، من عواقب سلبية، بما في ذلك الاعتقال
أو الاغتيال.
إلى ماذا يشير الواقع الملموس للجالية العراقية في ألمانيا كنموذج ملموس للدول الأوروبية الأخرى؟ بلغ عدد العراقيات والعراقيين في ألمانيا 259.500 نسمة على وفق الإحصاء الرسمي لعام 2020 بعد أن كان في عام 2010 بحدود 81.272 نسمة. (أنظر: Anzahl der Ausländer aus dem Irak in Deutschland von 2010 bis 2020, Statista 2021).
أي بزيادة تفوق ثلاثة أضعاف خلال 10 سنوات، علماً بأن العدد الفعلي هو أكثر من ذلك بكثير. وقد توزع أفراد الجالية على عدد كبير من المدن الألمانية الصغيرة والكبيرة، بما يسمح بخلق توازن مناسب مع عدد السكان الأصليين ومع عدد الأجانب من قوميات أو دول أخرى، ومع ذلك فأن هناك أعداداً مهمة من العائلات العراقية في مدن وضواحي مثل برلين، ميونيخ، فرانكفورت، دسلدورف، هامبروغ، هانوفر، لايبزك دريسدن، أيرلانكن وكولون…إلخ. وفي بعضها توجد تنظيمات حزبية لبعض الأحزاب العراقية ومنها الحزب الشيوعي العراقي وقوى إسلامية سياسية، كما فيها منظمات مجتمع مدني ثقافية واجتماعية وومنظمة امرك لحقوق إنسان “منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في العراق/ألمانيا”. إلا أن كل هذه التنظيمات الحزبية الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني لا يزيد عدد الأعضاء فيها عن عدة مئات لا غير. ولكن هناك تنظيمات إسلامية سياسية دينية، لاسيما الشيعية منها، تضم هي الأخرى مؤيدين ولهم حسينيات بشكل خاص، ولها علاقات مباشرة ببعض القوى في الداخل كما في حالة حزب الحكمة وحزب الدعوة الإسلامية. وهناك تنظيم ضعيف لحزب البعث ما يزال يعمل ويمجد الدكتاتور صدام حسين ونظام البعث السابق ويحتفل بعيد ميلاده، ويضم أفراداً ممن كان يطلق عليهم “تجمع المغتربين العراقيين”.
لقد نشط العراقيون والعراقيات في فترة الانتفاضة التشرينية في ألمانيا بشكل محدود، ومع ذلك كان إيجابياً، واقتصر على بيانات أو مقالات أو تجمعات أمام السفارة العراقية أو في ساحات بعض المدن. ولكن نشاطهم ضعف بشكل ملموس في الأشهر الأخيرة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، ورغم وجود جمهرة غير قليلة منهم في برلين لم يحضر الدعوة التي وجهتها “لجنة تنسيق تجمع دعم الانتفاضة والتغيير في العراق” سوى 11 شخصاً من الذكور من كل ألمانيا، شخص واحد من هالة و10 أشخاص من برلين. أما عدد من شارك في الدعوة التي وجهتها اللجنة ذاتها للتجمع بتاريخ 22/06/2021 في “ساحة ألكسندر” بوسط برلين والسير صوب وزارة الخارجية الألمانية لتسليم مذكرة تضامن مع الشعب وإدانة التدخل الإيراني والتركي في الشأن العراقي، فلم يزد عن 26 شخصاً فقط، ست من الإناث و20 من الذكور، منهم اثنان قدما من مدينة هالة، والبقية من برلين، بينهم ثلاثة شباب ذكور تتراوح أعمارهم بين 20-25 سنة، والبقية بين 60-86 سنة، وكان داعيكم أكبرهم سناً، بينهم رجلان من الألمان وهما زوجان لسيدتين عراقيتين. هذا العدد الضئيل تحقق لكثرة الاتصالات التي قام بها منظما الندوة “سامي كاظم ومثنى صلاح الدين محمود بعدد كبير من أفراد الجالية المدنيين والديمقراطيين عبر الهواتف والإيميلات. وكانت كثرة من الشعارات خطت بالعربية وقليل منها باللغة الألمانية، بعضهم أشار معتذراً باحتمال تعرض عائلته إلى ما لا يحمد عقباه. هذا الواقع مؤلم حقاً ومؤذٍ في آن واحد ولا يقدم انطباعاً جيداً لدى الشعب الألماني، لاسيما أولئك الذين يشاهدون مثل هذا التجمع حيث تم نصب ميكرفون ووقف الخطيب يقرأ بيانات بالعربية ومن ثم بالألمانية، وتساءل البعض عن حق لِمَ القراءة بالعربية ولا يوجد غير عراقيين ونحن نعرف ما في البيانات، ثم أذيعت عبر الميكرفون أغنية “الله أكبر” وبصوت مرتفع، وهو نداء يردده الانتحاريون من الإسلامويين السياسيين السلفيين والتكفيريين الإرهابيين في كل مكان من العالم، وبالتالي كان يمكن أن يشكك فينا من يسمع هذا الهتاف من الألمان، فاضطر البعض منا إلى التنبيه وطلب تغيير الأغنية وحصل فعلاً. أي أن التحضير ورغم الجهود لم يكن كافياً لتعبئة عدد أكبر، كما أن الاستعداد للمشاركة محدود جداً. علماً بأن الشعب العراقي هو بأمس الحاجة إلى التضامن والدعم في المرحلة الراهنة لما يمكن أن تترتب عن التناقضات والصراعات المحتدمة والنشاط الواسع النطاق لقوى الميليشيات الطائفية المسلحة التابعة لإيران أولاً وبسبب استخدام الساحة العراقية موقعاً للصراع الأمريكي- الإيراني واستخدام سلاح الميليشيات الولائية المسلحة والحشد الشعبي الولائي في هذا الصراع.
كل الأسباب التي يمكن إيرادها في ضعف نشاط العراقيات والعراقيين لا يمكنها أن تبرر هذه المساهمة الصعيفة جداً في التجمعات التضامنية مع شعبنا المستباح بالطائفية والإرهاب والفساد.
كلنا يدعو لتغيير الحالة، ولكن ليس فينا من يتحرك ليغير هذه الحالة كما ينبغي، فما العمل؟
لا أود الإجابة عن هذا السؤال حاليا، بل أطرحه لإبداء الرأي والمناقشة ممن يجد ضرورة المناقشة سواء من هم في برلين أو عموم المانيا أو بقية الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة وكندا وغيرها.