قراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية.
التكرار والتناقضات:
28- في الصفحة (696) يعود الكاتب ويكرر المعلومات الواردة في الصفحة (642) كالتي يوردها عن سوريا في الصفحة (550-549) وغيرها من الصفحات، حول تزايد عدد الآلات الزراعية في تركيا خلال مشروع مارشال الذي كان لتركيا حصة منها، وبنفس الديباجة من الشرح والإحصائيات، وعلى خلفية أكثر من موضوع ولأكثر من غاية غير حميدة لواقع الجزيرة السياسي والاثني والاقتصادي، معتبرا هذا التطور المفاجئ للآلة في تركيا كما كانت في سوريا من العوامل الرئيسة لهجرة الكرد الخارجية (الداخلية) من تركيا إلى سوريا، على أن التطور الاقتصادي الزراعي في تركيا زاد من البطالة، فاضطر الناس إلى الهجرة نحو سوريا، وبالمقابل جذبت منطقة الجزيرة، الخالية من السكان حسب إحصائياته الديمغرافية! الكرد إلى الحياة الاقتصادية السهلة والمتصاعدة فيها التطور المشابهة لما كان يحدث في تركيا، متناسيا ومتغاضيا عن عدة قضايا، منها: أن الأرض التي كان يتنقلون فيها الكرد هي أرضهم، والكثافة السكانية في طرفي كردستان المقتسمة وليست في الجزيرة فقط كانت قليلة جدا، والآلات الزراعية كانت تدخل أراضي نفس العشائر التي قسمت بينها الاستعمار بخط سياسي غير معتبر كردستانيا، وأن التطور التقني المذكور كان يرفع من معدل متوسط المعيشة وبالتالي الاستقرار وليست إلى الهجرة، وهذه جدلية معروفة لأبسط المحللين الاقتصاديين، والغريب أن محمد جمال باروت أستخدم حالتي القحط والرفاه الاقتصادي والمعيشي كعوامل للهجرة، مثلما أستخدم خسارة الثورات الكردية. بل وبشكل عام عرض جميع الأسباب، الإيجابية والسلبية للمهمة ذاتها. والنمو الاقتصادي كان سيحصل في المنطقة مع أو بدون وجود سوريا وتركيا، بل وعلى الأغلب بشكل أفضل وأسرع مع بقاء كردستان جغرافية موحدة، إن كانت مستقلة أو تحت الاستعمار الفرنسي أو البريطاني. وهنا يتغاضى الكاتب أو يعتم بها على العامل السياسي الإقليمي للهجرة الكردية، ودور السلطات العنصرية في كلتا الدولتين، مثلما هو العامل الرئيس في تباطأ التطور التقني في المناطق الكردية مقارنة بما كان يجري في الداخل التركي والسوري، وبشكل واضح يلغي الكاتب التقسيمات السياسية لكردستان من قواميسه، وعلى هذا النمط الفكري يبسط تحليلاته ويضع استنتاجاته، كما ولا يعترف أو يغطي على مخططات العزل بين العائلة الواحدة، والعشيرة الواحدة، المتنقلة سابقا فصليا بين أجزاء كردستان دون أن تكون لها سابقا روادع حدودية، والكاتب أعلم بما تم، وما كان يخطط بين الدول المقسمة والمقتسمة لكردستان لتحديد حركة العشائر الكردية ضمن جغرافيتهم. وما يقال هنا ليست بأكثر من إحصائية عادية لتطور اقتصادي حصلت في تركيا أو سوريا على خلفية ما كان يجري في كل العالم، والتي لم تكن نصيب الجزيرة منها إلا القليل مقارنة بنسبة الأراضي الزراعية الخصبة فيها، وتعتبر متأخرة مقارنة بالتطورات الجارية في العالم على خلفية التسارع التكنلوجي، وفي الواقع قد يلاحظ القارئ أن التذكير بالحدث تأتي في سياق الكتاب، وهي من ضمن الدراسات الواجب ذكرها، ولا شك لا خلاف على هذا، لكنها في واقع الأمر، هي حلقة من ضمن سلسلة من المعلومات المعروضة ليس لمعرفة ماضي سوريا كوطن، بل ليسند بها استنتاجاته، المطعونة فيها، حول خلفيات تواجد الديمغرافية الكردية ضمن الجغرافية السورية، فالقارئ يرى أنها معلومات وثائقية تاريخية قيمة عن سوريا المتشكلة حديثا، وهي مثل غيرها من الأرقام تجلب الانتباه، لكن عند معرفة الغاية التي من أجلها كتب الكتاب، ومن وقف سابقا ورائها، ودعمها، وأعاد إحيائها بعد هروب الكاتب إلى (دولة قطر) التي قدمت له كل الإمكانيات المادية في المرحلة التالية لإتمامها ونشرها، واحتضانه تحت خيمة (المركز العربي للإستراتيجيات ودراسة السياسات) ولغيره من البعثيين السوريين والعراقيين والمستعربين أمثال عزمي بشارة، سيدرك أن هذا الأسلوب في تبيان ماض سوريا ليست بأكثر من طعن في القوميات غير العربية وبشكل خاص الكردية، والأقليات الأخرى المدرجة عنده ضمن سلسلة المهاجرين، وكأن سوريا، وبشكل خاص الجزيرة أو كل جنوب غربي كردستان لم يكن يسكنها غير العنصر العربي، وبهذا يجعلها ملك للعشائر العربية، ملغيا من الحضور والتاريخ، الكرد بعشائرهم بل وكلية ديمغرافيتهم من أرضهم، وبالتالي القضاء على الجغرافية الكردستانية، وعلى هذا المنطق الهش، نرى أن الكاتب يلحقها كجزء من الجزيرة العربية أو امتداد لها، عن طريق الاستشهاد بإسماء قبائل عربية ظهرت، حديثا أو قديما، في العمق الكردستاني وبمفبركات تاريخية قريبة من الأسطورة، في الماضي بإسماء مطعونة في وجودها ومن المصادر العربية ذاتها وكنا قد أتينا في الحلقات السابقة على دحضها من حضن كتب المؤرخين المسلمين، وأخرى حديثة هاجرت من مواطنها بعد حوادث حائل وظهور أل السعود، ولكليهما تاريخا أضحل من أن يتمكن كاتبنا هذا وغيره من الباحثين العرب الإتيان بأي إثباتات علمية اركيولوجية، أو دراسات غير التي سايرت الغزوات، وكتبت على رغبة السلطات العربية الإسلامية، على حضورهما في الجزيرة قبل بدايات الإسلام أولا، وقبل القرن الماضي ثانيا.
29- ليتمم تحليله الهش حول تأثير العامل الاقتصادي على الوجود الكردي في الجزيرة، على أنها تكونت على هجرة خارجية (داخلية) كردية (حسب مصطلحه المتذبذب والواضح في عدم قناعته بها، مستخدما كلمة خارجية، بين تركيا وسوريا، وداخلية، ضمن جغرافية كردستان المقتسمة لعدم تمكنه أو عدم قناعته رغم ما أقدم عليها، من فصل الجزيرة عن أصلها) بين الدولتين اللقيطتين وليدة القوى الكبرى، يأتي وفي الصفحة (697) على تكرار ذكر مشاريع أصفر-نجار ومعمار باشي، سبق وتم ذكرهما في الصفحة (550) تحت عنوان وقسم خاص، وفي غيرهما من الصفحات، وفي عدة مناسبات وبنفس المعلومات، وبنفس الصياغة، ومن خلال سطوره وما خلفها، يطعن في تاريخ وديمغرافية الأقليات الأخرى في سوريا، مثلما يفعلها مع الكرد، ويستثني منها العشائر العربية التي يقدمهم كأصحاب الجغرافية، علما أنها كانت لا تزال رحل منذ قدومها من شمال الجزيرة العربية، وفي الواقع التفاصيل الدقيقة عن المشاريع، قيمة كتاريخ اقتصادي للمنطقة، والتي حصل عليها من أرشيف المربعات الأمنية ومكاتب السلطة السورية والتي كانت ممنوعة على غيره من الكتاب، لكن وللأسف هذه الإحصائيات والمعلومات لم تستخدم بنزاهة الباحث العلمي، والذي يقدم خدمة معرفية للقارئ أو الباحثين اللاحقين عن ماضي المنطقة، بل سردها بتلك التفاصيل ليبني عليها استنتاجاته العروبية العنصرية، وتحريفه لتاريخ الشعب الكردي في المنطقة، وبالتالي حيث الهدف الرئيس، وهي فصل جنوب غربي كردستان عن جغرافيتها الحقيقية…
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية