قراءة نقدية في المجموعة القصصية (تأملات بعدسة القلم)
صدرت المجموعة القصصية الموسومة ب( تأمّلات بعدسة القلم ) للقاصّة الجزائريّة نوميديا جروفي عن دار الماهر للطباعة و النشر و التوزيع ، في طبعتها الأولى عام 2019 م . و قد أهدتني القاصة – مشكورة – نسخة منها أثناء فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالجزائر العاصمة في شهر نوفمبر سنة 2019 م .
احتوت هذه المجموعة القصصية على اثنتين و خمسين قصة قصيرة . و قد صدّرتها الكاتبة نوميديا جروفي بعتبة جاء فيها : ” قصص الحياة تُكتب في القلب و ليس في الأوراق ” ص 5 . و هي بمثابة عنوان ثا و مفتاح للمجموعة ، يفضي بالقاريء و الناقد إلى تحديد العلاقة الجدليّة بين الفنّ القصصي الملتزم بقضايا الإنسان المصيريّة و وحياته اليوميّة في أبسط جزئياتها و أضيق زواياها .
تقول الكاتبة في مقدمة مجموعتها القصصية : ” هي قصص ليست منزلة من العلى بل من روافد المجتمع ففي عمق كل قصة هناك خبرة و ما وراء كل خبرة عبرة حياة … إنّها قصص أظنّها كفيلة بأن تجعل القاريء يرحل إلى أعماقه ليحاور ذاته و يتأمّل حياته حتى يبلغ ملء نضجه الإنساني ” ص 9 .
إذن ، هي قصص انتزعتها الكاتبة نوميديا جروفي من بين مخالب الواقع المرّ و أنياب الدهر ، الذي لا يرسو على شاطيء ، ولا يقرّ له قرار . رسمت فيها الكاتبة جزئيات مجتمع أنهكته العلل النفسيّة ، و العقد الدونيّة ، و الاستسلام لليأس و القنوط . ففي قصة ( شبح ) ، يتحوّل – فجأة – حب البطلة و وفاؤها و فرحها و حلمها المعسول إلى حزن فجنون فانتحار من أعلى الجبل ” لطمت و مزّقت ثيابها و أخذت تركض هائمة على وجهها حتى وصلت أعلى الجبل من ذلك الجرف و رمت نفسها منتحرة ” ص 15 . و كان (تحليقها ) ذاك من ( أعلى ) ، لا يشبه البتّة تحليق الفراشات بين الزهور زهوا و استمتاعا ، بل كان فجيعة و موتا محتوما ، و سقوطا نحو ( جرف ) مميت . و هو مصير مأساوي يعرّي هشاشة النسيج الاجتماعي و يفضح ضعف الوازع الروحي في مجتمع يتسيّد فيه ( فخامة ) الجهل و (جلالة ) الخرافة على قدسيّة العلم و اليقين . مجتمع ، ينظر إلى المرأة من زاوية ضيّقة و منكسرة ، لأنّها جسد لقضاء متعة جنسيّة ، و عورة وجب وأدها في( قبر ) دنيويّ ، قبل طمرها في قبرها الترابيّ . مجتمع يتّهم المرأة و يلبسها ثوب الجاني ، و لو كانت ضحيّة بشهادة نجوم السماء و كواكبها . و قصة ( فاجعة ) صورة لذلك ، فقد وقعت البطلة ضحيّة اغتصاب من طرف لاجئين من مالي ، وغم أنّها كانت يدها مشفقة عليهم . ” كانت المسكينة تشفق على لاجئين من مالي تراهم دوما قرب بيتها فتطعمهم و تعطيهم الماء لحرارة الجو خارجا ” ص 16 . أجل ، منحتهم الماء ، أي الحياة ، بينما منحوها الموت . ” .. فدخلوا عليها و كانوا ستّة و هي امرأة لا حول لها و لا قوّة و أطفالها الأربعة نائمون في العليّة … و تعاونوا لتكبيلها ثم تناوبوا عليها فاغتصبوها جميعا ” ص 16 . هو مشهد فظيع جدا ، لأنّها لم ترتكب تلك الخطيئة ، بل أُكرهت عليها كرها ، لكن لم يرحمها المجتمع ، و لا زوجها الذي قال لهم ، بعدما أخرج لهم صحنا من الطعام : ” عندما تنهون الأكل دقّوا عليها و اعطوها الصحن ” ص 16 . رغم أنّه مسؤول عمّا حدث لها . و طلّقها الزوج بعد جريمة الاغتصاب الوحشي ، ” ليظهر رجولته أمام الملأ الحاضرين .. ” ص 18 ، ثم تفارق الحياة من وطأة الصدمتين ؛ صدمة الاغتصاب و صدمة الطلاق . فالقصة – بقدر ما فيها من عبرة لمن يعتبر و ذلك عندما يكون جزاء الإحسان غير الإحسان – تدين بشدّة عنجهيّة الذكر الفاقد لصفات الرجولة الحقّة ضد المرأة الضحيّة في بيئة ذكوريّة أحاديّة النظر ، تغفر للذكر المستبّد كل خطاياه في حق المرأة ، بينما تعاقب المرأة على خطيئة لم ترتكبا رغبة و طوعا ، نظرا لاختلال عقليّ و سيكولوجيّ في تلك البيئة . و هذا ما تظهره قصة ( مذلّة و مهانة ) ، حيث تتعرّض البطلة ، و هي امرأة شرقية يتيمة ، مترفة ماديا ، لكنّها تعيسة في حياتها . ” أعيش حياة الترف ، أنظري حجم البيت الضخم الذي أعيش فيه ، عندي أفخم الأثاث ، أسافر كل سنة لبلد ، و لكنّني أتعس الناس ” ص 42 . تتعرّض للتعذيب النفسي الشديد من زوجها الذي وصفته قائلة : ” .. زوجي زير نساء ” ص 42 . و حين سألتها جارتها عن سبب رضاها بالعيش معه أجابتها بهدوء : ” ماذا أفعل ؟ أين أذهب ؟ إلى الشارع ؟ أنا يتيمة و لا بيت عندي يأويني و يحمي أولادي من الفقر و يسترني من أنياب ذئاب الشارع … أنا مقهورة ، ذليلة ، مهانة ، مسكينة ، مجروحة ، أموت في اليوم مائة مرّة ” ص 43 . فالمال وحده لا يصنع السعادة ، و الغنى وحده لا يبني أسرة مطمئنّة و متماسكة و سعيدة ، إذا انعدمت المودة و الرحمة و القناعة و الغنى العاطفي و النفسي . فقد يكون الترف بوابة مشرعة على الفساد الأخلاقي و الاجتماعي ، و وسيلة لإذلال الآخر و تعذيبه نفسيّا . لكن ما يلفت النظر هنا ، هو إصرار الكاتبة على تقديم بطلة قصتها في موقف انهزاميّ و استسلاميّ و سلبيّ ، لا مثيل له ، لا تملك من أسلحة المقاومة غير الصمت و الرضا و الدعاء . ” كلّما أنظر إليه أحترق في أعماقي ، و أدعو له الربّ في صلواتي ليبتعد عن الوحل الذي تلطّخ به .. هذا أقل ما أستطيعه للأسف ، فهو أب أولادي ” ص 43 . موقف خال من بؤرة التأزّم ، الذي يُكسب الحدث القصصي صراعا دراميّا ، غايته إثارة الإشكالية المطروحة و إظهارها و رصدها للرأي العام في صورتها النمطيّة لا الفردانيّة . و مهما كانت الأعذار ، فإنّ القبول بالخيانةّ الزوجية على أنّها أمر واقع ، هو أشد إيلاما من الخياتة نفسها . و كان على الكاتبة أن ترسم بطلتها في صورة إيجابية ، أقلّها ما فيها ، الرفض المطلق لسلوك زوجها الخائن لها جهرا و عمدا .
أمّا العيش مهانة تحت سقف خيانة زوجها لها مع سبق الإصرار و الترصّد ، بحجة خوفها على نفسها ، وعلى أبنائها من الفقر و التشرّد و ذئاب الشارع . فذلك – لعمري – أكبر خيانة للضمير و العفّة و الحدّ الشرعي و القيّم الأخلاقيّة النبيلة و الأعراف الأسريّة المشاعة و الميثاق المتين و المقدّس للزوجيّة .
و هكذا ، وجدنا القاصة نوميديا جروفي ، قد قدّمت لنا في ثنايا قصصها شخصيات منتزعة من عالم الواقع المعيش ، مطحونة حتى النخاع ، و بنظرة موغلة في واقعيّة انتقاديّة داكنة ، تتأرجح بين دروب اليأس و الاستسلام و الخيبة و الضياع و الموت بشتى الطرق الموجعة . تارة يوجعها القدر في أعزّ ما تملك ؛ في فقدان مفاجيء و مأساويّ لزوج ، كما حدث في قصة ( غلطة عمر ) أو ضياع حبّ كما في قصة ( بعد 18 عاما ) ، أو إعاقة بيولوجية دائمة نتيجة حادث مرور ، كما جرى للطالبة الجامعية في قصة ( صدفة غريبة ) . و تارة أخرى يصدمها الواقع المرّ ، و ما فيه من خيبات و تناقضات عجيبة بين مظهره و مخبره . فهذا يتنكّر لها كم في قصة ( بين الماضي و المستقبل ) ، و ذاك يحاول خداعها بكلام معسول لنيل مبتغاه الجنسي ، كما في قصة ( في مهبّ الريح ) .
ففي قصة ( الموت ) كانت نهاية الفتى الصغير ، الحالم بالجمال و الابتسامة و السلام فظيعة ، و فيها إشارة إلى العشريّة السوداء و الحمراء التي عاشها جيل التسعينيّات في الجزائر ” … لكنّه ما كاد يعدو نصف الطريق حتى أصبح أشلاء متناثرة ” ص 21 . و كذلك كان مصير الطفل السعيد صاحب البالون الأحمر في قصة ( طفولة موؤودة ) ، بعدما سلبت منه الحرب اللعينة نعمة الأمن في وطنه ، و التي فرضها الأقوياء على الضعفاء ، و بات الموت ضيفا بشعا يتربّص – دون موعد أو سبب – بالأسر البريئة و الأحياء الآمنة دون رحمة أو شفقة . ” كان الوطن يعيش بأمن و أمان في زمن ليس ببعيد ، و اليوم اختلف كل شيء ، حيث أصبح الشعب مستضعفا في وطنه ، الذي عشّش فيه الخوف و الرهبة من موت بشع ، كيف لا و الموت أصبح ضيف الغفلة على الأسر و الأحياء ” ص 69 . ذلك الموت العشوائي ، الذي لا يميّز بين ضحاياه ، بل يزهق أرواح الأطفال . ” و ما كاد يخطو خطوتين حتى كُتمت أنفاسه البريئة برصاصة اعترض طريقها سهوا فاخترقت جمجمته الملائكية .” ص 70 . و كأن الذنب هنا ، ذنب الطفل الذي اعترض طريق الرصاصة ، لأن الحرب أمست سيّدة المكان ، احتلّت الشوارع ، أين يجد الأطفال متسعا و مساحة للعب الكرة . و هي في الغالب عادة الأطفال في البيئات الشعبية الفقيرة . و حين تحرم الحرب الأطفال من ممارسة ألعابهم المفضّلة في الشوارع ، و تغتالهم الرصاصات الطائشة ، فهذا يوحي بأنّ المأساة فظيعة ، و أنّ الوطن قد غرق في مستنقع حرب لا عنوان لها و لا خطوط حمراء أمامها . ” طار البالون الأحمر في السماء و لحقته روح الطفل هناك بعيدا حيث السلام الأبدي ” ص 70 . و قد وظفت القاصة نوميديا جروفي ألفاظا سيميائية مثيرة في التعبير عن بشاعة الحرب مثل : عشّش – الخوف – الرهبة – موت بشع – ضيف الغفلة – كُتمت – اعترض – اخترقت جمجمته – الأحمر .
ما أقسى وطأة الموت على قلوب تعشق الحياة البعيدة عن أزيز الرصاص و دويّ القنابل . و ما أتعس حياة جيل التسعينيات ، الذي طحنته حرب بين الإخوة الأعداء ، و حرمته من نعمة السلام و الأمن و سبّبت له عللا و عقدا نفسية ، دفعته إلى جلد الذات ، و إلى سلوكات مميتة ، مثل : الهروب من الوطن على متن قوارب الموت و المخدّرات و الانتحار و العنف ووو .
و تواصل القاصة نوميديا حروفي في التنقيب في أعماق المجتمع الشرقي المريض عن خباياه . ففي قصة ( الأم و الابن ) ، تعرّي القاصة جانبا أسود من المظالم الاجتماعية ، و هو عقوق الوالدين ، حيث طرد الابن أمّه إلى الشارع بسبب زوجته ، ناسيا أو متناسيا برّ الوالدين ، و غافلا عن مآل العاق لوالديه ، و متجاوزا – بعنجهيّة – أحكام الشرع و تقاليد المجتمع الشرقيّ و أعرافه و قيّمه ، سواء المحافظ منه أو المتفتّح . جاء على لسان الأم : ” .. شاءت الأقدار ، أن يأتي يوم و يرميني ابني في الشارع مع حزمة من ثيابي بسبب زوجته ” ص 57 . و جاء على لسان الابن العاق ، مخاطبا أمّه : ” اذهبي ..غادري .. و اخرجي من بيتي فقد ضقت ذرعا بك . ” ص 57 .
لقد تنكّر الابن العاق و رمى أمّه التي حملته وهنا على وهن ، و أرضعته حتى الفطام ، و رعته إلى أنّ شبّ و اشتدّ عوده و ساعده . ” وَ قَضَى ربُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيَّاهُ وَ بالوالدين إحسانا ، إمّا يبلغنّ عندكَ الكبرَ أحدُهُمَا أو كلاهُمَا فلا تقلْ لهما أفٍّ و لا تنهرْهُمَا و قُلْ لهُمَا قولاً كريما و اخْفِضْ لهما جناح َالذّلِّ من الرَّحْمةِ و قُلْ ربِّ ارْحمهُما كما رَبيَّاني صغيرا ” مسورة الإسراء 23 / 24 .
و في القصة إيحاء إلى محاولة انسلاخ الجيل الجديد من هويّته بكل ما تحمله من قيّم نبيلة ، بدعوى العصرنة الغربيّة الزائفة .
و لم تغفل القاصة زمن الحراك الشعبي الذي انطلق في فيفريّ 2019 م . و تناولته في قصة قصيرة جدا بعنوان ( صلاة الشعب ) . بعد إعلان الرئيس – تحت ضغط المظاهرات المليونيّة السلميّة – عدم ترشّحه لعهدة خامسة ، و الصلاة هنا تعني الدعاء . و هي أقصوصة ، تشبه ما عرفه العصر العباسي بفنّ ( التوقيعات ) . و بقدر ما هي موجزة في لفظها ، لكنّها عميقة في معناها . فقد عبّرت الأم – و هي رمز الجيل القديم و الشاهدة على العهدات السابقة – عبّرت عن بهجتها ، و كأنّها تخلّصت من كابوس ، طالما أرّق حياتها . و هنا يظهر أثر التواصل بين الأجيال الواعيّة ، و دور الشعب الحرّ في إحداث التغيير المنشود ، و أحقيّته للتحية و التقدير و الإجلال . فإذا أراد الشعب الحياة الحرّة ، استجاب له القدر ، أمّا إذا خنع و استسلم و رضي بالاستبداد ، فإنّ مصيره الهوان و الفناء .
لم تبتعد قصص الأديبة نوميديا جروفي عن معالم بيئتها الملأى بالمعاناة و المآسي اليوميّة التي تفترس الفرد كوحش ضار ، و المحفوفة بالتناقضات الاجتماعيّة . فكأنّي بالقاصة ، قد اتّخذت لها مجلسا شهرزاديّا ، و طفقت تحكي دون تكلّف حكايات شهدت أحداثها ، بأسلوب سرديّ بسيط و واقعيّ ( نسبة إلى المدرسة الواقعيّة ) و خال من الخيال . مستغلّة تقنيّة الأنا الشاهد أو ( التبئير الداخلي ) كما سمّاه جرار جينيت . و في أغلب الأحيان، جعلت القاريء يكتشف أن السارد ( القاصة ) تتحكّم في عالم القص و توجه الأحداث ، من خلال أسلوب بانوراميّ غير محايد . فغالبا ما جاءت نهايات قصصها منفصلة عن العقدة أو لحظة التأزّم ، عبارة عن عبارات تلخّص المغزى و العبرة من القصة ، تحمل معاني حكمية وعظية ، و هذا تدّخل واضح و سافر من القاصة في توجيه الأحداث . كقولها – على سبيل المثال لا الحصر – في نهاية قصة ( فاجعة ) : ” صدق من قال : لا تكسر اليد التي تمد لك الخبز أبدا ” ص 18 . و قولها في نهاية قصة ( انتحار ) : ” .. و ما أكثر هذه الأخطاء الطبيّة التي ذهب ضحيتها الكثيرون .. طوبى للحزانى لأنّهم يتعزّون . ” ص 20 . و قولها أيضا في خاتمة قصة ( القهوة المالحة ) : ” قد نشرب المرّ من أجل أحدهم فقط لأنّنا أحببناه من كل قلبنا و أنّنا نضحي بكل شيء في سبيل أن نبقى معه و حياتنا لا تستمرّ بدونه . إنّه الحب صانع المعجزات الذي لا يؤمن بالمستحيل أبدا ” ص 97 . و قولها في نهاية قصة ( عشرون عاما و أنا أبحث عنك ) : ” إنّنا لا بد أن نحصد ما زرعناه و لو بعد أيام كثيرة أو أعوام خيرا كان أم شرّا و ليعطينا الرب الإله أن نصنع رحمة طوال أيّام حياتنا . ” ص 131 . و قولها في خاتمة قصة ( بين العار و الشرف) : ” قتلوا الشرف ليحيا العار ” ص 148 .
إنّ مثل هذه النهايات متروكة – في الأصل – للمتلقي ، و هي حق من حقوق الناقد و واجباته و رسالته النقدية . و إلاّ ماذا بقي للناقد من اجتهاد نقدي ؟ هي ليست من مهمّة القاص، لأنّ القصة في مضمونها العام ، ليست مقالا فلسفيّا أو اجتماعيا أو أدبيّا ، تستنتج العبر و المواعظ ، و تمنح الحلول و النظريّات للمتلقّي . أعتقد أن القاصة نوميديا جروفي قد أقحمت تلك النهايات المنفصلة عن الأحداث في جلّ قصصها ، و هذا شكل من أشكال هيمنة الساردة ( القاصة ) و سلطتها على النص . في الوقت الذي كان عليها أن تبقى محايدة عن النهايات القصصية الحاسمة أو المفتوحة ، التي تفرضها فنيّات القصة القصيرة ، من خلال توظيف تقنيّة التبئير الخارجي أو المعرفة المحايدة ، التي تعطي لشخصيات القصة القصيرة دورا أكبر من دور ( السارد ) ، حين يكون ناطقا بضمير الغائب .
و يلفت الانتباه ، في هذه المجموعة القصصية ، هو أنّ العديد من أبطالها أطفال معذبّون ، بسبب اليتم أو الفقر و المرض و الحرمان و القهر الاجتماعي . و قد قدّمتهم القاصة نوميديا جروفي في صورة أليمة و مؤلمة و تراجيدية ، خاصة في قصص ( البراءة ) ص 146 ، و ( الطفل و الطبيب ) ص 143 ، و ( الوردة ) ص 142 ، و ( كلمة السر ) ص 126 و ( الموت ) ص 21 . و ( طفولة موؤودة ) ص 69 ، و ( كأس الحليب ) ص 98 ، و ( الصندل ) ص 100 ، وغيرها .
و عندما نتأمّل المقاطع السردية التالية: ” دكتور ، طفلي مريض و هو في حالة خطيرة جدا ، أرجوك أن تفعل أي شيء لإنقاذه ” ص 130 . ” … فالولد كان ضريرا ” ص 142 . ” .. و ما كاد يعدو ( أي الولد ) نصف الطريق حتى أصبح أشلاء متناثرة ” ص 21. ” طار البالون الأحمر في السماء و لحقته روح الطفل هناك بعيدا..” ص 70 . ” كان طفلا فقيرا يوزّع السلع على المنازل ليلا حتى يتمكن من إنهاء تعليمه ، و في ليلة شعر بجوع شديد ..” ص 98 . ” طفل صغير يتيم في السابعة من عمره فقد والديه و هو رضيع .. ” ص 100 . ” ..و لأنّ اليوم كان العيد ، فقد كانوا كلهم يلبسون الملابس الجديدة إلاّ هو الذي كان يلبس ملابس رثة ، و نفس زوج الصندل الذي يصغر مقاسه عن قدمه .. ” ص 100 / 101 . تتّضح لنا صورة سوداوية لطفولة معذّبة و ضائعة في مستنقع مجتمع لا مستقبل له . مجتمع يقتات من ترهات الماضي و خرافاته ، و يتكئ على حاضر افترضيّ و فوضويّ ، و يرنو إلى مستقبل أعنّته السراب .
كما كان للأنثى المقهورة و المهمّشة نصيبها في هذه المجموعة القصصية، فقد قدّمتها القاصة ضحيّة مجتمع ذكوريّ معقّد . فهي متّهمة ومذنبة رغم براءتها، تدفع ثمن خطيئة الطرف الآخر تحت سلطان القوّة و التسلّط. و كأنّها فرض كفاية في المجتمع . ففي قصة ( مذلة و إهانة ) تعامل الأنثى كسقط المتاع فهي – في نظر الذكر – مجرد كتلة من اللحم و العظم ، منزوعة العواطف ، وظيفتها جنسيّة لا أكثر . ” زوجي زير نساء، كل نهاية أسبوع يأخذني عند أخته لتمضية يومي الخميس و الجمعة… ” ص 42 .
و كذلك في قصة ( فاجعة )، دفعت الزوجة الضحيّة، الطيّبة، الكريمة، البريئة، ثمن غلطة زوجها المتعجرف الذي ” أدخل عليها غرباء و تركها و هي في أشدّ الحاجة إليها ” ص 18 . فبدلا من الوقوف بجانبها و مؤازرتها و حمايتها ، قام بتطليقها ، ليبدي رجولته المزيّفة أمام الناس . ” تخلّص منها بطلاق ليظهر رجولته أمام الملأ الحاضرين … ” ص 18 . و هكذا يتحوّل الزوج من سند لزوجته و حام لها إلى جلاّد . و هو صورة واقعيّة لمجتمع ذكوريّ منافق، يمارس دور الخصم و الحكم في الوقت نفسه.
و بعد ، فقد وفقت القاصة نوميديا جروفي – في مجموعتها القصصية ( تأمّلات بعدسة القلم ) – في فضح خبايا واقع اجتماعيّ يرزح تحت نير التخلّف و الخرافة و الظلم و القهر و التهميش و العلل النفسيّة ، و رصد سلوكيّات أفراده ، بأسلوب سرديّ بسيط و سلس .
من المآخذ التي رصدتها أيضا تلك النهايات في القصص و هي تدخّل واضح من القاصة في توجيه القارئ نحو المغزى العام للقصة ، ممّا قد يحوّلها إلى مروحة للكسالى . كان على القاصة أن تدع ذلك للقارئ المتذوّق و الناقد المتمكّن، كي يغوص في أعماق المعمار القصصي لاستنباط الهدف و المغزى العام.
( تأملات بعدسة القلم ) لنوميديا جروفي إضافة مفيدة للمكتبة العربية ، و لبنة أخرى تضاف إلى هرم القصة الجزائرية القصيرة الشبابيّة ، و بريشة و عدسة نسويّتين .
(الاستاذ العربي علي فضيل/الجزائر)