مقدمة:
تأتي أهمية هذا الكتاب: (هناك إله There is a God)، من كون مؤلفه الفيلسوف البريطاني (أنتوني فلو Anthony Flew)، كان من أشهر الملحدين لأكثر من خمسين سنة في نشاطه الأكاديمي، وفجأة تحوَّل من ملحد إلى مؤمن بإله في أواخر حياته. و للصراحة أقول أنه رغم صدور الكتاب قبل 16 سنة تقريباً، إلا إني وللأسف لم أسمع به إلا بعد أن قرأتُ المقال القيم للأستاذ حاتم حميد محسن، الموسوم: (حوار حول الطاولة بين الدين والفلسفة)(1)، في صحيفة المثقف الإلكترونية الغراء، في 3 حزيران 2021، حيث ذكر السيد الكاتب في المقدمة:
“هل الدين يحتاج للفلسفة؟ ام العكس؟ هل هما طريقتان متضادتان في النظر للعالم؟ ماذا يمكن ان يقول الايمان والعقل الى بعضهما؟”. ويضيف: “في آخر الألفية الماضية، جمعتْ (مجلة الفلسفة الآن)، وبالتنسيق مع (مؤسسة الفلسفة للجميع)، نخبة من المفكرين المتميزين أمام جمهور واسع في احدى دور الكتب في لندن [نهاية عام 1999]، لمناقشة الأسئلة الهامة الآنفة الذكر. وقدم الأستاذ حاتم مشكوراً، ترجمة وافيه عما دار في ذلك الحوار. وما جلب انتباهي هو الهامش (رقم1 في نفس المقال) عن أحد المشاركين في ذلك الحوار، وهو الفيلسوف أنتوني فلو، الذي كان مازال ملحدا في ذلك اللقاء، ولكن بعد أربع سنوات (أي عام 2004)، غيَّر موقفه وتحول من ملحد إلى مؤمن بالله، حيث نشر كتابه الذي هو محور مراجعتنا هذه (Book review).
ولا أفشي سراً إذا قلت، أني وكغيري من أغلب الناس، لي اهتمام في البحث عن الله. فكما قال الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط: إن أهم مواضيع الفلسفة هي: (الله والحرية والخلود). لذلك، و بعد انتهائي من قراءة المقال، سارعت إلى محرك البحث في غوغل أبحث عن الكتاب والمؤلف. فحصلت على ما أريد. وقد أنزلتُ الكتاب بنسختيه الإنكليزية، و العربية، بسهولة، أدرج رابطيهما في الهامش.(2 و 3).
قرأت الكتاب بنسخته الإنكليزية أولاً، ومن ثم بنسخته العربية التي وجدتها ترجمة مهنية دقيقة (ترجمة الدكتور صلاح الفضلي، ومراجعة الدكتور الشيخ مرتضى فرج). والجدير بالذكر أن المُراجع قد أغنى الترجمة العربية بإضافاته القيمة في الهوامش، يوضح فيها كل ما يحتاج إلى شرح وتوضيح، وكذلك نبذة قصيرة عن الأعلام من الفلاسفة الذين يأتي ذكرهم في سياقات الكتاب. لذلك فجميع الاقتباسات التي سترد في هذه المراجعة مستلة من الترجمة العربية، أضعها بين قويسات التنصيص. وهناك طبعة عربية أخرى كويتية لنفس المترجم، ولكن بدون تعليقات وإضافات المُراجع(4).
نبذة عن المؤلف:
هو أنطوني جيرارد نيوتن فلو (Antony Flew) (1923 – 2010)، فيلسوف بريطاني، ابن قس ميثودست/بروتستانتي، غالبًا ما كان يحضر الاجتماعات الأسبوعية لنادي سقراط الذي كان يديره الأستاذ سي أس لويس عندما كان طالباً في جامعة أكسفورد، لكنه لم يقتنع بحجة لويس عن وجود الله.
اشتهر بكتاباته في فلسفة الأديان. وألف العديد من الكتب التي تدحض فكرة الإله، غير أنه في آخر حياته ألف كتاباً بعنوان: (هناك إله There is a God) في عام 2004، نسخ فيه كل كتبه السابقة التي تجاوزت ثلاثين كتابًا، تدور حول فكرة الإلحاد. وقد تعرض لحملة تشهير ضخمة من المواقع الإلحادية في العالم وذلك لأنه ولخمسين عامًا كان يُعتبر من أهم منظري الإلحاد في العالم. تميَّز فلو بعلميته في الطرح واستشهاده بقوانين الطبيعة لإثبات آرائه، وقد بدأ يتخلى عن الإلحاد بعد تفحص عميق للأدلة، عندما بلغ 81 عاماً من العمر، حيث أعلن ما اعتبر صدمة قوية في وسط الفكر الإلحادي في العالم أنه الآن يؤمن بوجود الإله بدافع من البراهين العلمية و تحوله إلى الفكر الإلهي.
كان فلو محاضرا في الفلسفة في كلية كنيسة المسيح (Christ Church) في جامعة أكسفورد لمدة عام (1949-1950). ومن 1950 إلى 1954 كان محاضرا في جامعة أبردين/ سكوتلاندا، ومن 1954 إلى 1971 كان أستاذا للفلسفة في جامعة كيل/أمريكا. ثم أصبح أستاذا في جامعة كالجاري/كندا 1972-1973. وأخيراً أستاذاً في جامعة ريدنغ/ إنكلترا إلى تقاعده، وعاش في هذه المدينة إلى وفاته عام 2010.
لماذا تحوَّل المؤلف من إلحاد إلى الإيمان بالألوهية؟
يجيب المؤلف في المقدمة: “منذُ أنْ أعلنتُ عن (تحوُّلي) إلىٰ الألوهية، طُلِبَ منِّي في مناسباتٍ كثيرةٍ جدَّاً بيانُ أسباب تغيير وجهة نظري…انتهيتُ إلىٰ القناعةِ بأنْ أعرِضَ ما يمكن تسميَتُهُ وصيَّتي وشهادتي الأخيرة. .. في البدايةِ لا بدَّ أنْ أكونَ واضحاً، عندما انتشرت أخبارُ تحوُّلي في وسائلِ الإعلام وعلىٰ شبكة الإنترنت، سارَعَ بعضُ المُعلِّقين إلى الادِّعاءِ بأنَّ تقدُّمي في العمر أثَّرَ فِي (تحوُّلي). لقد قيل: إنَّ الخوفَ هيمَنَ على عقلي بقوَّة، وقد انتهى هؤلاء المنتقدون إلى أنَّ توقُّعات الدُّخول إلى عالَم ما بعدَ الموت حفَّزَت لديَّ (تحوُّل فراش الموت Deathbed conversion). من الواضحِ أنَّ هؤلاء الأشخاص لم يكونوا مطَّلعين على كتاباتي عن اللاوجود بعد الموت، وهم ليسوا مطَّلعين كذلك على آرائي الحالية حول هذا الموضوع.” ويضيف: “علىٰ مدىٰ أكثر من خمسين سنة لم أُنكِر وجودَ إلهٍ فحسْب، بل أنكرتُ أيضاً وجودَ حياةٍ بعد الموت. ومحاضراتي التي نُشِرَت في كتابِ (منطقُ الفناء) تُمثِّلُ ذروة هذا المنهج من التفكير. فهذا مجالٌ من المجالاتِ التي لم أُغيِّر وجهةَ نظري فيها.” (ص 6).
كذلك يرد المؤلف على منتقديه قائلاً: “أود أنْ أضَعَ حدَّاً لجميعِ هذه الشَّائعات التي وضعتني في رهانِ باسكال Pascal* أيضاً لا بدَّ أنْ أُ شيرَ إلى أنَّ هذه ليست هي المرَّة الأولى التي (أُغيِّر فيها وجهةَ نظري) في موضوعٍ رئيسي. قد يندهشُ القُرَّاءُ المُلِمُّونَ بدفاعي المستميت عن الأسواقِ الحُرَّة إذا ما علموا أنِّي كنْتُ ماركسياً (لمزيدٍ من التَّفصيل، انظُر الفَصْل الثاني من هذا الكتاب). وقبلَ عقدينِ من الزَّمن، تراجعتُ عن قناعاتي السَّابقة بأنَّ اختيارات الإنسان محكومةٌ بنحوٍ شاملٍ بواسطةِ أسبابٍ مادية.”(ص 7)
* ولتوضيح عما يسمى بـ (رهان باسكال Pascal wager)، هو مراهنة مبنية على نظرية الاحتمالات، وتُستخدم بضرورة الإيمان بوجود الله على الرغم من عدم إمكانية إثبات وجوده أو عدم وجوده عقلياً. و بليز باسكال (Blaise Pascal)(1623-1662)، هو فيلسوف وعالم رياضيات فرنسي عاش في القرن السابع عشر، يتلخص رهانه بقوله: “من الأفضل أن أؤمن بالله، فإن كان موجوداً فأنا رابح، وإن لم يكن موجوداً فلم أخسر شيئاً.” وينقل رجال الدين الشيعة مثل هذا القول عن الإمام جعفر الصادق أيضاً. بمعنى أن هذا الرهان هو أشبه بالتأمين على الحياة، ولا يعني الإيمان بالله عن قناعة بالدليل التجريبي، أو المنطق، أو الحجة العقلانية.
وفي هذا الصدد يقول أنتوني فلو: “إنَّ على المرءِ أنْ يظلَّ مُلْحداً حتى يجِدَ الدليل التجريبي على وجودِ الإله.”( ص 3).
لذلك، وكما يؤكد المؤلف، لم يكن تحوله من ملحد إلى مؤمن بدافع رهان باسكال، أو العمر، أو الإيمان بحياة ما بعد الموت كما اتهمه البعض، بل بدافع القناعة بالأدلة بعد كل هذه الرحلة الثقافية الطويلة، عملاً بالمبدأ السقراطي القائل والذي راح يؤكده: “يجب أنْ نتَّبع الحُجَّةَ أينما قادتنا.” ويضيف في مكان آخر “وقد حاولتُ أنْ أُطبِّقَ هذا المبدأ طوالَ حياتي الجدلية.”(ص 30).
ملاحظات توضيحية
يبدو أن هناك خلط و التباس بين الإلحاد، والنفور من الأديان لدى البعض. فأكثر الذين يرون أنفسهم ملحدين هم في الحقيقة لا يؤمنون بالأديان، وربما يؤمنون بإله كوني، أو ما يسمى بالعقل الكوني المطلق، وموقفهم هذا هو رد فعل لما أرتكبه السلاطين ووعاظ السلاطين من مظالم بحق البشرية باسم الله والدين. فأغلب الحروب في العالم كانت دينية، وخاصة في أوربا حيث الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت، إضافة إلى الحروب الصليبية بين المسيحيين الأوربيين والمسلمين في القرون الوسطى، وما ارتكبته الكنيسة من جرائم بشعة إبان محاكم التفتيش بحق العلماء، والفلاسفة، وملاحقة السحرة (witch hunting). وكذلك في عصرنا الراهن ما يرتكبه الإرهاب الإسلامي بمختلف مذاهبه ومنظماته (القاعدة، طالبان، داعش، بكوحرام، والمليشيات الطائفية وغيرها)، من أعمال إجرامية بحق الإنسانية والحضارة البشرية باسم الله والدين. وهذا ما جعل الكثير من المثقفين يكفرون بالله وبالأديان معاً. كذلك علينا أن نميِّز بين إله الأديان وإله الأكوان، أي الإله حسب تعريف العلماء والفلاسفة. فإله الأديان هو ما يُعرف بالإله الشخصي (Personal God)، ويشبهونه بالبشر (Anthropomorphism)، حيث يغضب ويعاقب ويحرق البشر…الخ. وفي هذا الخصوص يقول الشاعر إليا أبو ماضي:
كم روّعوا بجهنّم أرواحنا… فتألمت من قبلُ أن تتألما!
زعموا الإله أعدّها لعذابنا …حاشا، وربُّك رحمةٌ، أن يظلما
ما كان من أمر الورى أن… يرحموا أعداءهم إلا أرقّ وأرحما
ليست جهنم غير فكرةِ تاجرٍ… ألله لم يخلق لنا إلا السما
بينما إله الفلاسفة، وكما نراه في سياقات هذا الكتاب الذي نحن بصدده، هو إله غير مادي، عقل كوني ذكي واعي بلا حدود، ليس كمثله شيء، سميع عليم، كلي القدرة والوجود، وهو خالق الكون والقوانين الطبيعية الثابتة والمُحكمة وبمنتهى الدقة والتعقيد.
كذلك يتوهم البعض أن الإنسان التقدمي أو اليساري، يجب أن يكون ملحداً!! وكأن الإلحاد شرط ملازم للتقدمية واليسارية، وهذا في نظري غير صحيح. فهناك العديد من القساوسة في دول أمريكا اللاتينية انتموا إلى أحزاب يسارية وماركسية بدافع النضال من أجل العدالة. وحتى الحبر الأعظم الحالي للفاتيكان، البابا فرانسيس، متهم بالشيوعية لحبه وانحيازه للفقراء والمظلومين في العالم. لذلك أقول أن مسألة الإيمان بالله أو عدمه، لا علاقة لها بكونك تقدمي، أو رجعي، أو يساري أو يميني، أو متدين أو غير متدين. وعلى سبيل المثال، كان المفكر والكاتب المسرحي المصري الكبير توفيق الحكيم يؤمن بالله، ولكنه ما كان يؤدي الفروض الدينية عملياً، أو ما يسمى بالتدين الظاهري، ولما سُئل لماذا لم يؤدِ الفروض الدينية، فأجاب أنه يؤديها بقلبه.
الكتاب
يتألف الكتاب من مقدمتين، واحدة للناشر (تعريف بالكتاب والمؤلف Preface)، والثانية للمؤلف في النسخة الإنكليزية، ومقدمة للمترجم وثانية للمؤلف في النسخة العربية، وعشرة فصول، وملحقين.
ويخصص المؤلف الفصولُ الثلاثةُ الأ ولىٰ للإجابة على سؤال لماذا صار ملحداً، والفصولُ السَّبعةُ الأخيرة يجيب على سؤال: لماذا تحول إلى الإيمان واكتشافه للمُقدَّس (الإله)”.(ص7). وسنأتي بشيء من التفصيل لاحقاً.
أسباب إلحاده
يقول المؤلف: “بعضُ آرائي الفَلْسفية تشكَّلت حتَّى قبْلَ أنْ أدخُلَ إلى مدرسةِ كنغزوود (إعدادية). لقد كنْتُ معتنقاً الشُّيوعية في فترةِ تسجيلي في المدرسة، وقد بقيتُ كاشتراكيٍّ يساري نشيطاً حتَّى بدايةِ الخمسينيات من القَرْنِ الماضي، عندما استقلْتُ من حزْبِ العُمَّال، وهو الحِزْبُ الذي يُمثِّلُ تاريخياً الحركةَ اليسارية في بريطانيا.”(ص 45). ويضيف في مكان آخر أنه أخفى إلحاده عن أبويه حفاظاً على استقرار العائلة، ولكنه بعد أن دخل جامعة أوكسفورد، ومساهماته في سجالات دافع فيها عن الإلحاد، عرف أبواه عن إلحاده وتسامحوا معه.