خيانة غربية للأفغان زلزالها ممتد إلى أوروبا؟
لم تمضِ ثلاثةُ أشهر منذ توليه منصبه حتى أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن أخطر مناورة حتى هذا الوقت خلال ولايته الرئاسية: الولايات المتَّحدة الأمريكية تريد بحلول الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2021 – في الذكرى العشرين للهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن – سحب قوَّاتها من أفغانستان. سيكون هذا الانسحاب مع ذكرى أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر بمثابة نهاية رمزية لحقبة مكافحة الإرهاب وعمليات تغيير الأنظمة وبناء الأمة. ولكنه يبدو بمثابة اعتراف بالفشل.
مقبرة الإمبراطوريات
لم يتحقَّق بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 أي طموح من الطموحات المبالغ فيها الخاصة بإدارة بوش حينها في الشرق الأوسط. واليوم باتت تسيطر على المنطقة إيرانُ وروسيا وتركيا ودول الخليج العربي وإسرائيل. وبهذا ينتهي فصلٌ آخر من التاريخ إلى “مقبرة الإمبراطوريات”، مثلما سمَّى البريطانيون أفغانستان في القرن التاسع عشر.
في عام 1989، أُجْبِر السوفييت على الانسحاب مُحْبَطين بعد عشر سنوات من الحرب. وبعد عام واحد، انهارت الكتلة الشرقية الشيوعية. وبذلك فإنَّ إستراتيجية تسليح الإسلام المتطرِّف الأمريكية ضدَّ الشيوعية خلال الحرب الباردة قد حقَّقت هدفها. ولكنها بذرت أيضًا البذور، التي هزَّت بشدة في آخر المطاف الولايات المتَّحدة الأمريكية نفسها: فأُسامة بن لادن، وهو العقل المدبِّر للهجمات، كان قد كبر هو وتنظيمه القاعدة إلى حدّ الغرور خلال الحرب الجهادية ضدَّ السوفييت في أفغانستان. وبعدما تم إبعاد السوفييت، صارت غايتهم محاربة آخر قوة عظمى متبقية، أي الولايات المتَّحدة الأمريكية.
عملية عسكرية مبرَّرة. ولكن ماذا بعد ذلك؟
تلك الهجمات الإرهابية العنيفة المُنسَّقة من قِبَل أسامة بن لادن في أفغانستان، لم تترك للولايات المتَّحدة الأمريكية أي خيار آخر سوى طرد حركة طالبان، لأنَّها كانت تؤوي أسامة بن لادن وترفض تسليمه بعناد. وبالرغم من هزيمة طالبان، لكن أسامة بن لادن ظلَّ مختفيًا.
ومن أجل الحيلولة دون عودة حركة طالبان، كان يجب تحويل أفغانستان إلى دولة ناجحة دستورُها تَقَدُّمي وتَوَجُّه ناسِها غربي، وهذا مثالٌ نموذجي لما يُعرف باسم بناء الأمة. ولكن كان من الواضح منذ فترة طويلة للكثير من المراقبين أنَّ هذا المشروع قد فشل.
ولذلك يبدو في البداية أنَّ قرار جو بايدن الانسحاب من أفغانستان مفهوم. تعتبر هذه العملية العسكرية، التي استمرَّت عشرين عامًا، أطول عملية عسكرية في التاريخ الأمريكي. لقد أصبح إرهاقُ الولايات المتَّحدة الأمريكية من هذه الحرب واضحًا كلَّ الوضوح في هيئة ترامب، الذي بدأ مفاوضات السلام مع طالبان. وبالمناسبة، أكَّد جو بايدن من جانبه على أنَّ الأمريكيين قد حقَّقوا هدفهم الفعلي، وهو: أنَّ أفغانستان لن تعود من جديد قاعدة لشنّ هجمات ضدَّ الولايات المتَّحدة الأمريكية.
طالبان تتأهّب للتقدُّم
ولكن بحسب هذا المنطق كان يجب على الولايات المتَّحدة الأمريكية الانسحاب فعلًا في عام 2011، عندما كان جو بايدن نائبًا للرئيس وتم العثور على أسامة بن لادن وقتله في باكستان. وكان يوجد سبب وجيه لعدم ترك الأفغان آنذاك يُديرون شؤونهم بأنفسهم: فقد كانت حركة طالبان تتأهَّب للتقدُّم من جديد. لذلك رفع أوباما تواجد قوَّاته في أفغانستان إلى مائة ألف جندي. ومع ذلك فقد تمكَّن المنتمون لحركة طالبان من ترسيخ وجودهم. واليوم هم الحُكَّام غير الرسميين في أجزاء كبيرة من الأرياف الأفغانية. ولم يعد هناك أحد في مأمن منهم حتى في كابول.
وبالتالي فإنَّ الانسحاب الأمريكي لا يمثِّل فقط اعترافًا بفشل الخطط الأكبر والأنبل من أجل أفغانستان، بل يُعتبر عملًا من أعمال الأنانية السياسية على مستوى سلف جو بايدن، دونالد ترامب. وهو خيانة لشرائح كبيرة من الشعب الأفغاني، لكلّ الذين وثقوا بوعود الغرب وقيمه وحاولوا التمتُّع بقدر متواضع من الحرِّية. لذلك فإنَّ لديهم خوفًا كبيرًا من حركة طالبان وثأرها وأعمالها الانتقامية.
ولديهم الحق في ذلك، مثلما تُبيِّن التقارير الصحفية والرسمية الواردة من أفغانستان. وعلاوة على ذلك بات يجب الآن شطب المليارات المُسْتثمَرة في مساعدة أفغانستان. فبعد عشرين عامًا على أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، تستفيد من العديد من مشاريع البنية التحتية الجيِّدة جماعةٌ تعتبر من الجماعات الأكثر تخريبًا وهدمًا، التي أنتجها الإسلام المعاصر.
خوف من المستقبل
هل يُصوِّر هذا التقييمُ المتشائم الوضعَ بصورة سوداوية؟ يبدو نظريًا أنَّ الانسحاب من عمليات عسكرية خارجية مشكوك فيها يعتبر عملًا جيِّدًا. ولكن إن انسحب الغرب من دون آفاق واقعية من أجل مرحلة ما بعد الانسحاب، فهو يتهرُّب بذلك من المسؤولية. لقد قال جو بايدن إنَّ دعم الحكومة الأفغانية المنتخبة سيستمر، وإذا اقتضت الحاجة حتى بقوَّات خاصة وقاذفات قنابل بعيدة المدى وطائرات مسيَّرة من دون طيار.
الأمريكيون يُعوِّلون على أنَّ حركة طالبان لا مصلحة لديها في التصعيد، أو على الأقل لدى المعتدلين من بين أفرادها. ولكنْ هناك آخرون أيضًا؛ وكذلك الفرع الأفغاني من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” يكتم على أنفاس حركة طالبان. لذلك لا يسعنا إلَّا أن نأمل في أنَّ باكستان، التي قامت في الماضي بتجنيد أفراد حركة طالبان من بين اللاجئين الأفغان فوق أراضيها، لا يزال لديها تأثير كافٍ على حركة طالبان من أجل منعها من اقتحام كابول بشكل علني.
غير أنَّ باكستان نفسها تتعرَّض لضغوطات من قوى إسلاموية قوية. ففي أبريل / نيسان 2021، قام أنصار حركة “لبيك باكستان” الإسلامية المتطرِّف بشلّ حركة المرور في مدينتَيْ لاهور وكراتشي وخاضوا معارك شوارع مع الشرطة. قد تصبح القوة النووية باكستان هدف طالبان التالي، بدلًا من أن تفرض سيطرتها على حركة طالبان.
ولكن على الأرجح أن تكون نتيجة الانسحاب حربًا أهلية أفغانية جديدة. وهذه الحرب ستكون كارثة إنسانية وستؤدِّي إلى موجات لجوء ستشعر بها أوروبا. لقد جَمَعَ الكثير من الأفغان حقائبهم وباتوا يجلسون عليها منذ الآن. ومَنْ استطاع السفر يسافر خارج البلاد. ومَنْ تعاون مع الغرب أصبح معرَّضًا للتهديد. فهل تستطيع ألمانيا استقبال وإنقاذ العديد من الأفغان الذين عمل معهم الجيشُ الألماني خلال العقدين الماضيين؟
لقد فهمت وزيرة الدفاع الألمانية أنغريت كرامب كارينباور هذه المشكلة وهي تريد تمكينهم من دخول ألمانيا. ولكن هذا يجب أن يسري أيضًا على الموظفين المعرَّضين للخطر لدى الجمعية الألمانية للتعاون الدولي (GIZ) التابعة لوزارة التنمية الألمانية الاتِّحادية وكذلك لدى المنظمات غير الحكومية الألمانية. لا يزال من غير المعروف حاليًا كيف سيتم ذلك في الواقع: إذ يجب حاليًا على الأفغان -الراغبين في التقدُّم بطلب للحصول على تأشيرة دخول لألمانيا- أن يسافروا خصيصًا من أجل ذلك إلى دلهي، نتيجة للهجوم على السفارة الألمانية في كابول عام 2017. ولكن مَنْ منهم يا ترى يستطيع تحمُّل تكاليف ذلك السفر؟
“أمننا في جبال الهندوكوش”
بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2021، سيتمكَّن الأمريكيون من الجلوس والاسترخاء. وسيكون عندئذ جنودهم قد عادوا إلى الوطن. وستحرص حركة طالبان على عدم مهاجمة الولايات المتَّحدة الأمريكية بشكل مباشر. ولن يتمكَّن أي لاجئ أفغاني من عبور المحيط الأطلسي من دون تأشيرة سفر. وستصل موجات الصدمة الناجمة عن الزلزال في جبال الهندوكوش أوَّلًا إلى الدول غير المستقرة المجاورة لأفغانستان: إيران وباكستان وجمهوريات القوقاز.
وستصل بعد ذلك في شكل لاجئين إلى تركيا ومنطقة البلقان وأوروبا. أمَّا مَنْ اعتقد أنَّ -مع جو بايدن- ستبدأ في الولايات المتَّحدة الأمريكية سياسةٌ خارجية جديدة تأخذ المصالح الأوروبية في عين الاعتبار، فسيكون قريبًا قد تعلم درسًا.
في عام 2002 قال وزيرُ الدفاع الألماني الراحل بيتر شتروك (من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني): “أمننا يتم الدفاع عنه أيضًا في جبال الهندوكوش”. وإذا كانت توجد ذرَّةٌ من الحقيقة في قوله هذا، فيمكننا أن نجهِّز أنفسنا لأوقات مضطربة غير آمنة.
شتيفان فايدنَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
شتيفان فايدنَر كاتب وباحث ألماني مختص في العلوم الإسلامية. صدر له كتابٌ تحت عنوان: “المنطقة صفر – الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وولادة الحاضر”، عن دار نشر هانزَر، ميونِخ، سنة 2021.