الخميس, نوفمبر 28, 2024
Homeاخبار منوعةكيف لعلم الفلك الراديوي أن يكشف لنا عن خبايا الكون؟

كيف لعلم الفلك الراديوي أن يكشف لنا عن خبايا الكون؟

كيف لعلم الفلك الراديوي أن يكشف لنا عن خبايا الكون؟
 صورة لمجرة درب التبانة  في كاليفورنيا.
تمنحُ موجات الراديو الأطول من الضوء المرئي والأقل نشاطاً منه علماءَ الفلك القدرة على الوصول إلى الفيزياء الأكثر غموضاً في الكون. إذا طلبتَ من عالم فلك اختيارَ الصورة الأكثر إثارة في علم الفلك بأكمله، فسيشيرُ الكثيرُ منا إلى حلقة برتقالية مألوفة. للوهلة الأولى قد لا تبدو مشابهة كثيراً لكعكة الدونات المتوهجة والمبهمة المعالم، والمنتفخة قليلاً في الأسفل، كما بدت في الشهر الماضي وكانت مخططة بخطوط منحنية، ولكن في الواقع هذه الدائرة المتواضعة هي النظرة الأولى للبشرية على الثقب الأسود، لم نخترْ هذه الألوان لتحاكي الواقعية، ولكن للإشارة إلى كثافة الانبعاثات الراديوية. تكشف هذه الصورة المُلتقَطة وشديدة الوضوح -لدرجة تشبه القدرة على قراءة التاريخ على ورقة من فئة الربع دولار في لوس أنجلوس أثناء وقوفك في العاصمة واشنطن- عن ثقب أسود أكبر بمقدار 6.5 مليار مرة من شمسِنا واقع في مركز مجرة على بعد 55 مليون سنة ضوئية منا. كشفت التفاصيل الدقيقة للصورة أن الثقب الأسود يدور في اتجاه عقارب الساعة ويستهلك ما يعادل مئات من الكتل الأرضية كل عام. تمثل الخطوط المحفورة حديثاً إشارات واضحة لحقل مغناطيسي قوي. هذه الصورة غير المسبوقة لأحد من أكثر الأشياء غموضاً في علم الفيزياء بأكمله هي الأحدث من بين سلسلة طويلة من الاكتشافات التي أتاحها علمُ الفلك الراديوي، وقد يكون العِلم الذي تحمله هذه الصورة الشهيرة مُثيراً للدهشة، لكن العلم الذي جعلها ممكنة مثيراً للإعجاب بحد ذاته، مما يسمح للباحثين عبر الكوكب بالتنسيق بطريقة جديدة تماماً لدراسة الكون. يقع النظام الراديوي في أحد طرفي الطيف الكهرومغناطيسي، حيث تكون للموجات الضوئية طاقات منخفضة، وقد أُنتِجت أولى موجات الراديو المُكتشفة من تسارع الجسيمات المشحونة بشكل صنعي في أواخر القرن التاسع عشر. وفي الحال نُظِر إلى الأمواج الراديوية ذات الأطوال الموجية الطويلة التي تسمح لها بالانتقال لمسافات طويلة بسهولة باعتبارها أداة اتصالات ممتازة. وعرف الفيزيائيون بحلول أوائل القرن العشرين أن الموجات يمكن أن تنتج أيضاً عن ظواهر طبيعية مثل البرق، لكنهم أرادوا بشكل أساسي تجنب مصادر “التشويش” المزعجة هذه لتحسين وضوح تكنولوجيا الاتصالات اللاسلكية وقوتها ومدى انتشارها. كان كارل جانسكي Karl Jansky يعمل على هذا الهدف بالتحديد عندما اكتشف لأول مرة “ضوضاء النجوم” بالصدفة في عام 1931. وبصفته فيزيائياً ومهندساً في مختبرات بيل، تمكن جانكسي من تصميم أنتيناً هوائيًا ضخمًا يبلغ عرضه 100 قدم وارتفاعه 20 قدماً مُبثتًا على مجموعة من إطارات لها حرف T لتتمكن من الدوران والتوجه نحو أي اتجاه. أطلق زملاؤه على الأداة الغريبة اسم “دوارة جانسكي”. اكتشف كارل جانسكي إشارات الراديو الكونية مُصادفةً، باستخدام أنتيناً هوائياً دواراً يُطلق عليه اسم “دوارة جانسكي”.
اكتشف كارل جانسكي إشارات الراديو الكونية مُصادفةً، باستخدام أنتيناً هوائياً دواراً يُطلق عليه اسم "دوارة جانسكي". حقوق الصورة: (NRAO/AUI/NSF)
اكتشف كارل جانسكي إشارات الراديو الكونية مُصادفةً، باستخدام أنتيناً هوائياً دواراً يُطلق عليه اسم “دوارة جانسكي”. حقوق الصورة: (NRAO/AUI/NSF) عندما بدأ جانسكي في استخدام الهوائي، لاحظ هسهسةً خافتةً ولكنها ثابتة في بياناته. تتبع المصدر وحدد موقعه في النهاية مستفيداً من إمكانية المناورة التي تتمتع بها دوارة جانسكي. لم يكن الأنتين الهوائي يلتقط العواصف الرعدية القريبة أو المصادر الشاردة للإشعاع المرتبط بالأرض، بل كان يتحرى الطاقة القادمة من مركز مجرة درب التبانة. قابل مجتمع علم الفلك اكتشاف جانسكي بفضول معتدل، ففي خضم الكساد الكبير، لم تكن المراصد على استعداد لتخصيص تمويلها المحدود لتكنولوجيا جديدة غير مضمونة. لكن عالماً ومهندساً شاباً يدعى غروت ريبير Grote Reber وجد أن اكتشاف جانسكي اكتشافا رائعاً وتعهد بتكريس حياته المهنية لدراسة إشارات الراديو من الفضاء. وبعد أن رُفض طلب توظيفه في مختبرات بيل، قرر بناء تلسكوب لاسلكي خاص به في الفناء الخلفي لمنزله في ولاية إلينوي: وهو عبارة عن طبق له شكل قطع مكافئ بطول 31 قدماً مع مُستقبِل راديو مُركب فوقه مباشرة.
غروت ريبير وهو يقف أمام أنتين ريبير الهوائي في جرين بانك في فيرجينيا الغربية عام 1988. (حقوق الصورة: NRAO/AUI)
غروت ريبير وهو يقف أمام أنتين ريبير الهوائي في جرين بانك في فيرجينيا الغربية عام 1988.
كانت مساعيه ناجحة إلى حد كبير، حيث أعاد إنتاج عمليات رصد جانسكي ومن ثم إنشاء أول خريطة راديوية للسماء. وجد نقاطًا لانبعاثات راديوية متوهجة عُرِف لاحقاً أنها مجرات بعيدة ومخلفات لسوبرنوفا (لمستعرات أعظمية) حديثة. بحلول عام 1940، كان ريبر ينشر في مجلة The Astrophysicalوكان عمله ينشر اهتماماً أوسع بالأرصاد الراديوية ضمن المجتمع الفلكي. فتحَ رصدُ هذه الأطوال الموجية الأطول أمام علماء الفلك نافذةً جديدةً تماماً على الكون، مما سمح لهم باكتشاف الانبعاثات الراديوية الناتجة عن توهج مصادر الحرارة البعيدة الخافتة، والفيزياء الغريبة القادرة على تسريع الجسيمات المشحونة بطرق شديدة وغير متوقعة، وكانت التلسكوبات الراديوية أول ما استُخدم في رصد البقايا الكثيفة وسريعة الدوران للنجوم الضخمة الميتة والمعروفة باسم النجوم النابضة (البولزرات)، وإشعاع الخلفية الميكروني الكوني (ضوء يحمل بصمات الانفجار العظيم نفسه)، وأول علامات الثقوب السوداء الهائلة في مراكز المجرات بما في ذلك مجرتنا، وهذا هو المصدر المُشتبَه به لاكتشاف جانسكي الأصلي. تبدو هذه الظواهر غير مرئية إذا اكتفيتَ بالنظر إلى الضوء المرئي فقط. علم الفلك الراديوي مثيرُ، لكن التلسكوبات تبدو غريبة بالتأكيد لأي شخص اعتاد على النظر عبر تلسكوبات المرايا العاكسة، ومع ذلك، في الأطوال الموجية الطويلة لضوء الراديو، تكون أطباق التلسكوبات الراديوية لامعة أيضاً وتعكس موجات الراديو من السماء إلى جهاز الاستقبال تماماً كما ينعكس الضوء المرئي عن مرآة التلسكوب إلى عدسة العين. تتبع التلسكوبات الراديوية أيضاً نفس المبادئ الأساسية لتلسكوبات الضوء المرئي: يجب أن تُستخدم في مكانٍ مظلم لتكون أكثر فاعلية (للقضاء على مصادر الضوء المنافسة)، وكلما كانت أكبر كان ذلك أفضل.
كان مرصد أريسيبو في بورتوريكو موطناً لأحد أكبر التلسكوبات الراديوية في العالم، حتى تاريخ انهياره في عام 2020. (حقوق الصورة: Arecibo Observatory)
كان مرصد أريسيبو في بورتوريكو موطناً لأحد أكبر التلسكوبات الراديوية في العالم، حتى تاريخ انهياره في عام 2020.
.
بينما تتيح لنا مساحة التلسكوب الكبيرة استقبال المزيد من الضوء ورصد الأجسام الخافتة ( تذكر اتساع حدقة العين في غرفة مظلمة)، فإن قطر التلسكوب الكبير يساعدنا في التقاط صور أكثر وضوحاً، يشبه ذلك العدسات المقربة الضخمة التي يستخدمها المصورون الرياضيون لالتقاط صور لتصرفات قد لا تظهر واضحة من جوانب الملعب. غالباً ما تكون هذه الحِدة الشديدة هدفاً رئيسياً في علم الفلك لأنها تتيح لنا تحديد النجوم الفردية في المجرات البعيدة أو رسم الشكل الدقيق للسُديم، وتوفر الأطوال الموجية الطويلة لعلم الفلك الراديوي طريقة مختلفة لبناء تلسكوبات كبيرة. ويمكن للتلسكوبات الراديوية أن تحقق أقطاراً فعالة كبيرة بشكل لا يصدق بفضل تقنية تُعرف باسم التداخل، والتي تجمع البيانات من مصفوفة أطباق أصغر مما يمكنُها من العمل كتلسكوب عملاق واحد ينتج صورة واحدة شديدة الوضوح. وعلم قياس التداخل شاق ولكنه يعطي نتائج مذهلة: كانت هذه التقنية بالذات هي التي سمحت لتلسكوب إيفينت هورايزن Event Horizon Telescope بدمج ثمانية تلسكوبات راديوية من جميع أنحاء العالم في تلسكوب واحد بحجم كوكب والتقاط صورته الشهيرة للثقب الأسود. لذا من الواضح أن كلمة “كبيرة” هي وصف ملائم للتلسكوبات الراديوية. لكن ماذا عن كلمة “ظلام”؟ هذا يشكل تحدياً أكبر بكثير. من المفارقات أن هدف جانسكي الأساسي هو عزل المصادر الطبيعية لموجات الراديو وإفساح المجال لتكنولوجيا الاتصالات قد تجلّى الآن لعلماء الفلك الراديوي الذين يحاولون دراسة الكون في عصر الإلكترونيات الحديثة. إذا تمكنت عيناك من الرؤية في ضوء الراديو، فستصبح الغرفة من حولك عبارة عن تشابكٍ أعمى من إشارات الراديو: سحابة من شبكات واي فاي واندفاعات متقطعة من الضوء من الهواتف المحمولة القريبة، وحتى ومضات الضوء الصغيرة الناجمة عن شمعات الإشعال في السيارات العابرة. تتمثل إحدى طرق منع هذه الفوضى من الهيمنة على البيانات الكونية في الحد من إشارات الراديو الاصطناعية القريبة، كما يفعل مرصد جرين بانك في فيرجينيا الغربية. يقع هذا المرفق في منطقة السكون الراديوي الوطني National Radio Quiet Zone، حيث تعمل على تقييد استخدام التكنولوجيا لتقليل ضوضاء الراديو: إنها تعمل على حظر شبكات الواي فاي والهواتف المحمولة والأجهزة المُصدِرة للأشعة الراديوية، وكل المَركبات التي تعمل بمحركات الديزل. (على الرغم من ذلك، فقد ضاع وقت الرصد على الباحثين ذات مرة، ودونًا عن كل الأسباب السابقة، بسبب سنجاب طائر، بعد أن قامت دراسة لمحمية قريبة بتزويد القوارض بأطواق جي بي اس GPS لدراسة عادات هجرتها). رغم أن المراصد الفردية التي تشكل تلسكوب إيفينت هورايزن منتشرة في جميع أنحاء العالم، ولكن كل موقع من القطب الجنوبي إلى صحراء أتاكاما إلى أعلى جبل في هاواي بعيد تماماً ومعزول قدر الإمكان عن الضوضاء البشرية الشديدة.
يقع تلسكوب جرين بانك في ولاية فرجينيا الغربية داخل منطقة السكون الراديوي National Radio Quiet Zone، والذي يحظر استخدام أجهزة معينة حتى لا تتداخل مع إشارات الراديو القادمة من الفضاء. (حقوق الصورة: Brett McGuire)
  يقع تلسكوب جرين بانك في ولاية فرجينيا الغربية داخل منطقة السكون الراديوي National Radio Quiet Zone، والذي يحظر استخدام أجهزة معينة حتى لا تتداخل مع إشارات الراديو القادمة من الفضاء.
.
وكما يمكن للتكنولوجيا الجديدة أن تزيدَ من انتشار الضوضاء الراديوية ولا شك ان هذا حدث مُحبِط، كذلك قد تثيرُ تساؤلات محيرة ألا وهي: هل يمكننا في يوم من الأيام أن نرصد موجات راديو اصطناعية ليست من صنعنا؟ لطالما اعتُبر علم الفلك الراديوي طريقة رائعة للبحث عن إشارات من عوالم أخرى. وفي الواقع، يمكن تتبع أول تجربة في علم الفلك الراديوي إلى ما قبل تجربة جانسكي، وتحديدًا إلى آب/أغسطس عام 1924 عندما مر المريخ بأقرب نقطة له إلى الأرض منذ ما يقارب قرن من الزمن، حينها أعلن علماء الفلك في الولايات المتحدة عن “يوم الصمت الراديوي الوطني”، لتشجيع الناس على التوقف عن استخدام أجهزة الراديو ضمن فواصل زمنية منتظمة على أمل أن تصل إشارة من كوكب المريخ المجاور. حتى أن المرصد البحري للولايات المتحدة أرسل جهاز استقبال لاسلكي على أعلى جهاز توجيه لالتقاط رسالة مريخية محتملة، مع وجود خبير تشفير جاهز لتقديم خدماته في حال الحاجة إلى ترجمة الشيفرة. يُعتبَر المشروع الفلكي الذي يهتمُ بالبحث عن الذكاء خارج الأرض SETI بمثابة مسعَى علمي جاد اليوم، ويتبنَى باحثو مشروع البحث عن الذكاء خارج الأرض الاحتمالات المثيرة للاكتشاف التي يقدمها نظام الراديو بقيادة علماء مشهورين مثل فرانك دريك Frank Drake وجيل تارتر Jill Tarter وذلك عبر استخدام مرافق المساعدة التي حصلوا عليها بشقِ الأنفس مثل مصفوفة تلسكوب ألين في كاليفورنيا. كان خلاصة ما توصلوا إليه أن نفس الموجات الراديوية المستخدمة للاتصالات بعيدة المدى هنا على الأرض تنتقل أيضاً إلى الخارج، وتبث إشارات تنبيهية عن براعتنا التكنولوجية في الكون. من الممكن أن تكون الحضارات البعيدة ترسل إشارات مماثلة، أو حتى تحاول إرسال رسائل عن قصد، كونها ستتعامل مع نفس الطيف الكهرومغناطيسي الذي نتعامل معه. من الواضح أن علم الفلك الراديوي يوفر لنا إمكانيات هائلة: القدرة على رؤية ما لا يمكن رؤيته في ثقب أسود بعيد، وكشف النقاب عن فيزياء جديدة ومثيرة، وربما حتى العثور على أول دليل لدينا على كائنات ذكية خارج كوكب الأرض. من المضحك أنهم قد ينظرون إلى التلسكوبات الراديوية على أنها أدوات عديمة الفائدة، فهي في الحقيقة أدوات لا تقدر بثمن في علم الفلك، وهي إحدى الأدوات التي ستستمر في الكشف عن أجزاء جديدة من الكون لدراستها.

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular