هذه الرواية هي الجزء الثاني ورباعية الليل على ضفاف ليالي مدينة السماوة , ولكن أو ما يلفت الانتباه , بأن لوحات عناوين هذه الرباعية ( الليل في نعمائه . الليل في عليائه . الليل في بهائه . الليل في نقائه ) هي عناوين استفزازية , بهدف شحن عقل القارئ وتركيز تفكيره وذهنه الى صياغة الحدث السردي , وكذلك في شحن الاغراء في هذه العناوين المبهرة , بلا شك هناك اختلاف متناقض بين محتوى المتن الروائي وهذه العناوين الساحرة في الليل في أقمارها الساطعة . بينما نجدها هذه الليالي مليئة بالحزن والاسى والإحباط المخيب بأثقاله , انها حكايات الحزن العراقي المدورة من حكاية الى الآخرى . ترسم بواعث الحزن ومرارته , نلمس الحب المقموع رغم عذريته وشغافه الشفافة في الروح والوجدان في نقاوة قلب النسوة , يحملن الطيبة الريفية والقروية الى حد السذاجة المتواضعة , يحملن قلوب كبيرة . في هذه الرواية في حكاياتها الحزينة والمريرة , لكنها تشدد على الرؤية الفكرية ومضاربها الدالة بالمغزى العميق . الذي يحرث بأن القوة الجبروتية الطاغية والمتسلطة في تسلطها في نهج الإرهاب الفكري , غير قادرة على قمع الثقافة الإنسانية والإبداع الادبي , قادرة على خنق القلوب بالحزن , ولكن غير قادرة على موتها وقتلها . مهما بالغت في تشديد طوق الحصار . وعندما يتوقف الارهاب الفكري , يتوقف والاضطهاد والقوانين الارهابية , تنهض الثقافة والفكر من رماده متوهجاً أكثر من السابق .وتعوض سنوات الخنق والحصار . لذلك يطرح الاديب ( زيد الشهيد ) رؤية فكرية خلاقة في الابتكار في المغزى الفكري الدال على هذه الثيمة وموضوعها الأساسي الثقافة والإرهاب . في الصياغة الفكرية التي تعتمد على الابتكار والتناص واستلهام والمقارنة المدهشة , بين حزن الشاعرة الروسية ( أنا أخماتوفا ) وهي من أشهر شعراء الروس , انبثقت موهبتها الشعرية وهي صغيرة السن ( بعمر 12 عاماً ) بشكل مرموق ودأبت في صعود نجمها الشعري في السنوات اللاحقة الى الشهرة العالية والواسعة , لكنها توقفت عندما وقفت بقوة في وجه الإرهاب الفكري الستاليني المتسلط . نتيجة لموقفها الإنساني والوطني , عاقبها ستالين . في إعدام زوجها , بسجن ابنها الوحيد في منافي سيبيريا . وكانت تقف مع الطوابير لساعات وساعات طويلة تحت الصقيع القارص , وفي الاذلال في المعاملة الخشنة من حراس السجن , من أجل زيارة ابنها السجين , ولم يكتف ستالين بهذا القدر من القسوة , وانما ايضاً أمر بسجنها ومنعها من الشعر , وطردت من اتحاد الكتاب والادباء الروس , بل سجنت في بيتها . هي محاولة سلبها من حق الحياة والموهبة الشعرية . أن تكون تحت طائلة الحزن والتعذيب النفسي . وهذه بعض المقاطع من ديوان ( قداس جنائزي ) كتبته في سنوات العجاف والحصار . وافرج عنه بعد عشرين عاماً من الحجر الابداعي :
لقد جلبت لنفسي هلاكاً محبباً …
بلايا واحدة تلو أخرى
فيا لمصيبتي
إن هذه القبور
هي نبوءة لكلماتي
———
الى …… الموت
ما دمت ستأتي , فلمَ ليسَ الآن ؟
أنني أنتظرك ….. أنني متعبة
لقد أطفأت النور ….. وفتحت لك الأبواب ….
——–
لا تبكي عليَ يا أمي
أنا هنا في القبر
———–
يدخل القمر بقبعة مائلة
ويرى ظلاماً
هذه امرأة وحيدة ,
الزوج في القبر والابن في السجن
صلوا لأجلي أذاً
هذه محنة الشاعرة ( أنا أخماتوفا ) مع ارهاب ستالين وكل على شاكلة ستالين من الطغاة , ضد دعاة الثقافة الانسانية الحرة والابداع الاصيل , لان غطرسة الطغاة المتعالية , يريدون كل الادب والابداع لوحدهم فقط لا لغيرهم , في التمجيد والتعظيم لشخصياتهم المجنونة والمتهورة بحماقات لا تغتفر . يضع الاديب ( زيد الشهيد ) هذه حكاية الحزن مع حكاية ( نبيلة ) القروية طيبة القلب التي هجرت قريتها وجاءت الى مدينة السماوة , وهي تحمل في خيالها موهبة فطرية في الابداع الفني بشكل ملهم , اذا كانت الشاعرة ( اخماتوفا ) في موهبة الابداع الشعري ووجدت الثعبان ستالين امامها يطاردها بالقمع والارهاب الفكري . فأن ( نبيلة ) في موهبتها الفنية الملهمة في حياكة الازر والنقش عليها برسوم بخيال ملهم , لكنها وجدت أمامها ثعبان ستالين ولكن بشكل آخر . في استغلال طيبتها وحبها في سرقة جهدها الفني , هكذا استغل الرسام ( جلال ) فكان يستنسخ الرسوم الموجود على الازر التي تحيكها , وتحويلها الى لوحات رسمية يدعي بأنها من إلهامه ومن خياله الفني . هذه الرسوم لروعة خيالها الملهم , نالت الشهرة والاضواء والمال , فأصبح فنان عصره في الابداع التشكيلي , بهذا شكل صعد على قمة الشهرة والمجد والاضواء بواسطة سلم ( نبيلة ) في حبه المخادع . لهذه الفتاة الطيبة التي تعيش من جهدها وكدحها في حياكة الازر , وكانت تحيك كل سنة ازاراً مدهشاً في رسوم الغزلان , حتى حاكت الازر بعدد سنوات عمرها . وكانت طيبة المعشر عند سكان الحي وحظيت بحبهم واحترامهم ومحبتهم . ولكنها أمنت بصدق بهذا الحب المقموع والمخادع . رغم أن حبها عذري غير مدنس . وكل قلبها يطير فرحاً بهذا العشق الصادق من ناحيتها, ولكن بما تملك من موهبة فنية ملهمة , أصبحت من حصة الآخر وحرمت منها , بينما الرسام المخادع صعد على سلم الأضواء والشهرة والمال . بسلب موهبتها الفنية , مثلما سلب ستالين موهبة ( أخماتوفا ) الشعرية . وجعلهما تعاني فداحة معاناة الحزن ومرارته . هكذا القدر يسلب المواهب بطرق اللاشرعية ويقمعها بكل أشكال القمع , فمن يستطيع أن يعيد مسار الامل الذي غرق بالحزن ( صدى روحها يردد . لا حد للصحراء يا صغيرتي , أن الصحراء كانت عصياً, لا أحد يتنبأ برأفتها فيعيد لقلب الفتاة مسار الامل ) ص 16 .. فكانت أمرأة مقموعة بالحب رغم جوانحها الصادقة , وكانت تعتقد أن حبها سينقذها من العتمة والوحشة , لكنها كانت على وهم كبير . فقد تحول حبها الى سكاكين تنهش احشاء قلبها . وكان صديق الرسام ( نديم ) يلعب دور الوسيط والتواصل بين الجانبين , في إصلاح البين والخلل , لكنه وجد المفارقة كبيرة في التناقض بين طيبة في حبها , والآخر مخادع في الحب . وكان ( نديم ) ينجرف بشوق ولهفة الى الديوان الشعري ( قداس جنائزي ) للشاعرة ( أخماتوفا) ولا يفارقه ولا يمل من قراءته . ويدرك أن أحلام ( نبيلة ) بالحب الاخضر ماهو إلا حب أسود معتم . لانه يستغل العاطفة المتوهجة في روح ( نبيلة ) ليكون سلماً صعوده على سلم نشوة الاضواء والشهرة . في عقلية مخادعة بالغرور والتعالي , رغم ظاهره في البهرجة المزيفة من جانب الرسام ( قالت له : أسمي نبيلة , فرد في سره , بل أسمك ِ غزالة . وقال لها : أسمي جلال فهتفت في قلبها . بل أسمك بستان ) ص55 . وتصاعدت ضغوط الاهل أن ترجع الى قريتها من أجل الزواج . وهذه يعني عليها ان تودع الحب المقموع الى القبر , بعدما انقطع عنها الرسام بحجج واعذار واهية وغاب كلياً عنها , لانه اخذته الشهرة والاضواء بعيداً عنها . شعرت ان حياتها وصلت الى هاوية الجحيم . كأنها سقطت من مرتفعٍ عالٍ . لذلك فكرت برمي نفسها في النهر , لانها جزعت من المعاناة والحزن ولم تعد تتحملها ( يا الله . ما هذا العذاب ) ص90 . ولكنها اكتشفت خداع الرسام المزور في الحب والموهبة , حين وجدت المجلات تنشر رسوما على أغلفتها , وهي رسومها من بنات أفكار موهبتها الفنية ( أيكون حضوره لبيتي قصد جمع أحجار فني ليعرضها على أنها من بنات أفكاره وتوهج موهبته ؟ .. أتراه يتجنب وجودي معه , وما يبعث من كلام ترج واعتذار إنما من باب جبر الخواطر ) ص100 . لذلك تيقنت بأن حبه لها طواه النسيان وكان بهدف سرقة جهدها الفني , وينسبه الى نفسه , انها سقطت في فخ الخداع والغدر . مما سبب جرحاً عميقاً غائراً في الحزن , وتمنت الموت , مثل ( اخماتوفا ) تمنت الموت والقبر . بأنها أصبحت تعيش في غمرة الحزن الذي سلبها أعز الاشياء . زوجها انعدم ابنها الوحيد سجين , هي محاصرة في بيتها ممنوع عليها كتابة الشعر . انها في بلوى مجروحة . قال صديق الرسام ( نديم ) ينصح ( نبيله ) ان تهجر حبها لانه مقموع وعقيم ولا فائدة ترجى منه , ان تتركه افضل لها ( ما هكذا يكون الحب يا نبيلة , ولا هكذا تكون الثقة به …. لقد غاب عنكِ ونسيكِ , فواجب عليكِ نسيانه ) ص100 . لكن بالمقابل مصابح الشهرة واضواء المجد بدأت تخفت وتنطفي انوارها . وبدأ كالملك العاري من الثياب , بأنه لا يملك الابداع والموهبة فهجرته الأوساط الفنية والثقافية , وشحت العطاءات المالية. ووجد نفسه بدون هوس الأضواء والشهرة . فقد ذهب كل شيء عنه وسقط في الوحل . كما سقط ستالين وارهابه في الوحل , وهذه نهاية الطغاة في انطفأ بريق مجدهم وشهرتهم , ويسقطون الى قاع الحضيض . فقد انتظرت الشاعرة هذه اللحظة التاريخية . واعادت نفسها الى الحياة مجدداً المقارنة من رماد الحزن , ونشرت ديوانها الشعري ( قداس جنائزي ) . الذي كتبته في زمن الحصار والحزن , كذلك ( نبيلة ) فقد جاءها الفرج من ( حزين / عشيق حمامة في الجزء الأول من الرباعية ) ومد طوق الإنقاذ لينتشلها من الحزن . لكي تعود مجدداً للحياة , لتنتهي حكاية عذاب الليل في مدينة السماوة .