بقلم الدكتور مهدي نوربخش
استاذ العلاقات الخارجية في جامعة هريسبرك – بنسلفانيا
الدكتور مهدي نوربخش
خلال عقود، وخاصة بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، حافظت السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط على استمراريتها حتى إندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1978 ، وأعقبها التدخل العسكري الأمريكي في العراق عام 2003 . ولكن بعد هذين الحدثين، واجهت الخارجية السياسة الأمريكية تحديات كبيرة وتغيير ملحوظ. وتركز السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط في الوقت الحاضر على أربعة محاور رئيسية. أولا: تعمل واشنطن على الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة. ثانياً: تعمل الولايات المتحدة على تأمين حرية الشحن للتجارة والنفط والوصول إلى موارد الطاقة. ثالثاً: تحاول الولايات المتحدة، خاصة في ظل التوترات والحروب الإقليمية، منع تطوير أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الأسلحة النووية. رابعاً : أصبح الإسلام الراديكالي المتمثل في تنظيم داعش، الذي لجأ إلى الترويج للعنف، هدفًا آخر في السياسة الخارجية لواشنطن في السنوات الأخيرة. حتى الآن، تم إنفاق 6.4 تريليون دولار من وزارة الخزانة الأمريكية على التدخل العسكري في العراق وفي أفغانستان. لذلك، فإن السؤال الرئيسي المطروح الآن في الولايات المتحدة هو كيف يمكن للولايات المتحدة أن تصوغ سياساتها في الشرق الأوسط لتحقيق هذه الأهداف الأربعة بأقل كلفة.
سعت إدارتا أوباما وترامب إلى اللجوء صوب آسيا لمواجهة النفوذ الصيني من خلال تقليص تركيز السياسة الخارجية للبلاد على الشرق الأوسط، لكن التدخل العسكري الأمريكي في العراق عام 2003 وبداية الربيع العربي في المنطقة عام 2010 حولا اهتمام الولايات المتحدة الى الشرق الأوسط. لقد تحدت حركات الربيع العربي الأنظمة الاستبدادية المهيمنة في تونس ومصر وسوريا وليبيا والأردن والبحرين. وما زالت سوريا بعد تسع سنوات في حالة اضطراب، وليبيا بعد ست سنوات واليمن بعد خمس سنوات. في بداية حركة الربيع العربي في عام 2010، تدخلت المملكة العربية السعودية عسكرياً في البحرين لقمع الأغلبية الشيعية في البلاد ومنع التغييرات السياسية اللازمة فيها. وفي أعقاب هذه الاضطرابات، تسبب فيروس كورونا في مشاكل أخرى لدول المنطقة منذ أوائل عام 2020. وبغض النظر عن التحدي الذي يمثله هذا المرض في مجال الصحة العامة، والذي كشف أبعاد عدم كفاءة الحكومات أكثر من ذي قبل، فقد أدى إنخفاض أسعار النفط أيضاً إلى زيادة حجم المشاكل في بلدان هذه المنطقة. ففي أيار عام 2019، انخفض سعر برميل النفط إلى 32 دولاراً بعد أن كان سعر النفط 67 دولاراً للبرميل. وفي تشرين الثاني من نفس العام ، وصل سعر النفط إلى 40 دولاراً للبرميل، وفي الأشهر القليلة الأولى من عام 2021 ، ارتفع هذا السعر مرة أخرى إلى أكثر من 60 دولاراً للبرميل. وخصصت العديد من الدول الغنية بالنفط في المنطقة ميزانياتها على أساس سعر قدره 80 دولاراً للبرميل. وتم تحديد ميزانية المملكة العربية السعودية لعام 2020 عند سعر 80 دولاراً للبرميل.
وعلى الرغم من أن الكثير من الحديث يدور في المجتمع الأمريكي هذه الأيام حول خفض القوات والإنفاق والمواجهة في الشرق الأوسط، إلاّ أن أي من الأهداف الأربعة التي سعت واشنطن لتحقيقها منذ بداية الحرب الباردة في المنطقة لم يطرأ عليها تغيير، على الأقل في التعبير من قبل الكثير من آراء وتحليلات النخبة السياسية في البلاد، إذ لا يمكن متابعة هذه الأهداف دون تدخل واشنطن في المنطقة. وبصرف النظر عن هذه الأهداف الأربعة، فهناك إدارة الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية ومحاولة حلها، مع الاختلافات في المواقف المختلفة للنخب والحكومات المختلفة ،وهو ما أصبح محور تركيز القادة السياسيين وصناع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة.
بدء الوجود الأمريكي المكثف في الشرق الأوسط: في عام 1971، عندما أرادت الحكومة البريطانية مغادرة الشرق الأوسط. لكن حكومة الولايات المتحدة، التي كانت في حالة حرب مع فيتنام في ذلك الوقت ، لم تكن مستعدة للانخراط في الشرق الأوسط. لذلك، أوكل دور الحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط إلى إيران والسعودية لأن ذلك من شأنه أن يخدم مصالح الغرب ، وخاصة الولايات المتحدة. وأطلق على هذين البلدين اسم Twin Pillars لتحقيق مهمة الاستقرار في المنطقة. وحدثت ثورة في إيران عام 1979، وفي عام 1980 قدمت إدارة كارتر إطاراً جديداً للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وكان ذلك بمثابة تحذير للاتحاد السوفيتي من مغبة التدخل في المنطقة. وأدت هذه السياسة في النهاية إلى وصول السفن الحربية الأمريكية إلى الخليج العربي في عام 1987، والتي شكلت في النهاية الأساس لبناء قواعد عسكرية وإتساع المواجهات السياسية والعسكرية لواشنطن في المنطقة.
وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، وبصرف النظر عن المشاكل الأخرى في المنطقة، شهد الشرق الأوسط الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988) ، وإخراج العراق من الكويت (1990-1991)، والتدخل العسكري الأمريكي في العراق (2003). وكان لكل حدث من هذه الأحداث تأثير كبير على الشرق الأوسط والسياسة الإقليمية. لقد سعت العديد من الحكومات في الولايات المتحدة بعد الثورة الإسلامية في إيران إلى تعزيز علاقاتها مع الدول العربية في المنطقة. وتشمل هذه الدول الخليجية الست، أبرزها الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمملكة العربية السعودية والكويت وقطر وعمان والأردن وشمال إفريقيا ومصر. وفي هذه السياسة الخارجية، تم التسامح مع دولة مثل العراق بقيادة صدام حسين حتى ما بعد الحادي عشر من سبتمبر لأنه من غير الممكن استقرار المنطقة من وجهة نظر الولايات المتحدة بدون تلقي واشنطن الدعم من الدول العربية.
بدأت أكبر مشكلة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه إيران، والتي أصبحت تحدياً كبيراً للولايات المتحدة ، مع الاستيلاء على سفارتها في طهران. في وقت سابق ، أثارت ايران قضية تصدير الثورة أو دعوة مواطني دول الجوار لإحداث الإضطرابات والثورة في بلدانهم. لكن احتلال السفارة في إيران لم يؤد فقط إلى تصاعد موجة التطرف في الأجواء الداخلية في إيران فحسب، بل وأضحت نقطة الانطلاق لإثارة التوتر مع الدول الإقليمية.
لطالما كان استقرار الشرق الأوسط أمراً مهماً للقوى العظمى على مدى القرون الخمسة الماضية. فقد اعتمد البرتغاليون على أسطولهم البحري بين أعوام 1505-،1622 وما بعدهم جاء البريطانيون إلى المنطقة في أوائل القرن التاسع عشر، على الرغم من أن الحكومة العثمانية تحدت ذلك. بعد عام 1835، أخضعت الحكومة البريطانية مشيخات منطقة الخليج العربي لسيطرتها، وبعد ذلك تم النظر في رسم حدودها، بغض النظر عن البنيه الاجتماعية مع مختلف القبائل والأقوام. ثم تم اكتشاف النفط واستخراجه في إيران عام 1908، وتلاها العراق عام 1927، وفالبحرين عام 1032، وفي المملكة العربية السعودية عام 1938، حيث سيطرت الشركات البريطانية في الغالب على عمليات التنقيب والاستخراج.
وتناول الباحثين في المنطقة مناقشة أمرين، أولهما تقييم السياسة الخارجية لدول الخليج والآخرى قضية توفير الأمن العام للمنطقة ذي الأهمية بالنسبة للغرب. وفي تقييم السياسات الخارجية لبلدان المنطقة، تحول العديد من المحللين إلى إطار تحليل السياسة الخارجية(Foreign Policy Analysis-FPA). ومن أجل تقييم السياسة الخارجية، يلجأ هؤلاء المحللون إلى دور الأفراد ومزاجهم ومواقفهم أزاء السياسة الخارجية ، مع الأخذ بنظر الاعتبار أيضاً الضغط الخارجي على بلدانهم عند صياغة السياسة الخارجية في تلك البلدان. من حيث الاستقرار، فهم ينظرون إلى المنطقة بأكملها كنظام موحد. وهم يعتقدون أن الاستقرار الإقليمي لا يقتصر على السياسة الخارجية للدول المختلفة بشكل عام، فمن أجل تحقيق الاستقرار ، يجب تحديد ومعالجة نقاط الضعف من أجل تمهيد الطريق لإقامة منظومة أمنية.
العوامل المؤثرة على استقرار المنطقة:
أولاً ، في عصر الاتصال والإعلام ، وبقدر ما يتعلق الأمر بالشباب والميسورين، تواجه دول المنطقة تحدياً أمنياً بشكل متزايد. لقد فشلت الحكومات غير الفعالة في المنطقة، التي غرقت في أجواء الفساد في السابق، في تحقيق الرخاء النسبي لمواطنيها. وكان العراق هو من بين أحد البلدان التي فشلت على نحو ملحوظ. ونتيجة لذلك انطلقت احتجاجات الشعب العراقي في الأول من تشرين الأول عام 2019 من المحافظات المركزية والجنوبية في العراق التي أطلق عليها ثورة تشرين. وبدأت الاحتجاجات في محافظات وسط العراق وسرعان ما امتدت إلى جنوب العراق والمناطق الشيعية. وخرج المتظاهرون ضد الحكام لعدم كفاءتهم، وضد الفساد المستشري في المجتمع، وانتعاش الطائفية في السياسة العراقية، وإنعدام التعددية السياسية في السياسة العراقية التي سمحت للدول الأجنبية بالتسلل إلى العراق. وكان من جملة مطالب المتظاهرين إقالة حكومة عادل عبد المهدي، وأطيح بحكومته بدعم واسع من مختلف القطاعات السياسية في البلاد، وكذلك من قبل آية الله السيستاني. وقد سعت بعض الأطراف المتنفذة في إيران التأثير سلباً على حركة الاحتجاجات، ولكن بسب الدعم الفعال للسيستاني للاحتجاجات، أصبح هذا المسعى ضرب من العبث. ودخل عدد من قادة الاحتجاجات إلى مجلس النواب العراقي ، وطالبوا بتنفيذ أحد مطالب المتظاهرين بإشراف الأمم المتحدة على الانتخابات العراقية. ولم يكتف آية الله السيستاني بدعم المتظاهرين ومطالبهم فحسب، فقد سعى إلى التقريب بين المؤسسة السياسية في العراق مع المؤسسات الدولية.
وأجبر ضغط الشبيبة المشاركة في الاحتجاجات مختلف الحكومات في بلدان عربية أخرى في المنطقة على الإذعان بمطالب التغيير. وعلى الرغم من أن هذه التغييرات في بلد مثل المملكة العربية السعودية ليست أساسية وأكثر شكلية، ولكن في قطر وبعض الإمارات الصغيرة، بدت التغييرات السياسية الهادفة إلى الاستقرار الاجتماعي أكثر وضوحاً.
ثانياً: العامل الثاني الذي يؤثر على استقرار المنطقة هو تزايد عدد نفوس شعوب الدول المجاورة في الخليج. فبحلول منتصف عام 2020، قدر عدد سكان إيران بنحو 84.2 مليون، والإمارات العربية المتحدة 9.8 مليون، والسعودية 35 مليوناً، وقطر 2.8 مليون، والعراق 40 مليوناً، وهو أقل في عدد نفوسه مقارنة بإيران. إذا ما تم توئمة السكان مع توظيف الرساميل في التعليم والصحة والسعي لإنشاء اقتصاد ديناميكي، فإن ذلك من شأنه أن يساهم في توفيرالرفاهية النسبية لمواطني هذه البلدان، مما يوفر الأرضية للمواطنين في أن يبدعوا في مجال الصناعة والتكنولوجيا والإنتاج. كما يمكن لمثل هؤلاء الشعوب أن تصبح ذات شأن وترفع من مستوى النفوذ السياسي للبلاد في المنطقة. ولكن إذا كانت الدولة فاشلة ولم تمهد الطريق لنمو سوق العمل والتنمية الاقتصادية ، فإن النمو السكاني سيؤدي إلى ردود فعل معاكسة لتوقعات النظام، وسيهدد هؤلاء السكان استقرار وأمن النظام. فالأنظمة الفاشلة، وفي ظل انتشار الفساد والانقسامات الطبقية داخل بلدانها، سوف تهدد أمن هذه الأنظمة عاجلاً أم آجلاً.
وأثرت التركيبة السكانية في بعض هذه البلدان على الأمن الداخلي والاستقراربطرق أخرى مختلفة. فقد اعتمدت العديد من هذه الدول على الدول الأجنبية للحفاظ على أمنها بسبب انخفاض عدد السكان أو إنعدام القدرة الإبداعية لشعوبها. حيث لم تكن هذه الدول قادرة على إنشاء جيش حديث خاص بها. إن أغنى هذه البلدان، مثل قطر والإمارات العربية المتحدة والكويت، قامت بالاستعانة بمصادر خارجية ( Outsourcing ) لتشكيل جيوشها. ولجأت هذه البلدان صوب استخدام مرتزقة من جنوب آسيا لتشكيل جيشها. واستخدمت السعودية مواطنين سودانيين وصوماليين كمرتزقة (Mercenaries) في جيشها لشن الحرب ضد اليمن. إن إنشاء مثل هذه الجيوش لا يمكن أن يساهم بشكل أساسي وفي نهاية المطاف في إرساء الأمن في أي بلد.
ومما يؤثر على الاستقرار في المنطقة الاختلافات العرقية واللغوية والدينية والثقافية في المنطقة. ففي الدول الديمقراطية، يعلن الأشخاص من خلفيات عرقية وقومية مختلفة ولاءهم للنظام القائم في الدولة التي يعيشون فيها، ولكن مثل ذلك لا يحدث في الأنظمة غير الديمقراطية. فنادراً ما تعتمد الأنظمة غير الديمقراطية على مواطنين متعاطفين موالين للنظام السائد في بلادهم. واستغل العديد من الحكومات الاختلافات بين الشيعة والسنة على مدى السنوات القليلة الماضية لصالح مجموعة دون أخرى في بلدهم، والاعتماد على الدعم الخارجي دون اللجوء إلى طريق تأمين التماسك الاجتماعي الداخلي لحفظ الاستقرار والثبات في البلاد. ودفعت هذه الدول بالخلافات إلى ما وراء حدودها، وشكلت مجموعات “ولائية” لها، واستخدمتها لتأجيج هذه الاختلافات، أضافت إلى خلق مناخ عدم الاستقرار في المنطقة. وكانت النتيجة العملية لاستخدام هذه الطريق هو المزيد من الإرتهان للقوات الأجنبية واستقرارها المنطقة.
رابعاً: وهناك عامل آخر مزعزع للاستقرار هو الاختلاف في قراءة الإسلام. فقد تم تقديم ما لا يقل عن ثلاثة قراءات مختلفة ومتعارضة للإسلام في الشرق الأوسط. فقد قدمت المملكة العربية السعودية قراءة للإسلام بناءً على التفسير الوهابي للدين. وعلى الرغم من أن قطر تتبع أيضاً تفسيراً وهابياً للدين، إلا أن هناك اختلافات كثيرة بين التفسير الوهابي للدين في المملكة العربية السعودية وبينه في قطر. أما النهج الثاني فتقدمه تركيا. فهي على عكس المملكة العربية السعودية، تتمسك بقراءة للدين وتلتزم بالمبادئ التي اتبعها الإخوان المسلمون لسنوات عديدة. واستخدم أردوغان الإسلام لبناء حكومة مركزية تميل إلى الاستبداد أكثر من ميلها للديمقراطية في تطبيقاته السياسية. تحولت القراءة الثالثة للإسلام من قبل إيران وفي شكل تفسير الدين عند بعض أطراف الشيعة، إلى إنشاء حكومة ونظام قائم على حكم الفقهاء. فعلى عكس هذا النوع من القراءة للمذهب الشيعي ، فإن قراءة آية الله السيستاني للإسلام في العراق ، تتميز بإلتزامه بالمعايير الديمقراطية في السياسة ويقف ضد إشتراك رجال الدين في الحكم. وتحولت هذه التفسيرات المختلفة للدين إلى أدوات ومواقف سياسية، واعتمدت حكومات المنطقة على هذه الأدوات للاستثمار في داخل حدود بلدها وفي خارجها، وسعت إلى استخدام هذا الاختلاف في تبرير توسيع نفوذها وفرض الشرعية. إن هذا النفوذ يثير التوتر ويهدد الاستقرار داخل البلاد والأمن الإقليمي من الخارج.
خامساً: العامل الآخر الذي يؤثر على استقرار المنطقة هو الخلافات الحدودية بين الدول المختلفة في المنطقة. لقد تم حل الخلاف الحدودي بين قطر والبحرين في عام 2001 في محكمة العدل الدولية في لاهاي، لكن الحدود المائية بين إيران والعراق في شط العرب أو الخلاف بين إيران والإمارات على جزر أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى لم يتم حلها بعد. كما توجد نزاعات حدودية بين الكويت والعراق والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان. وتزيد هذه الاختلافات من حجم الأعمال العدائية والتوتراتالإقليمية في بعض الأحيان وفي بعض المناطق.
سادساً: مع سقوط كابول عام 1992 وتخلي الولايات المتحدة عن إعادة البناء الاقتصادي في أفغانستان، إنغمرت الجماعات المختلفة التي هزمت الاتحاد السوفيتي في حروب أهلية للسيطرة على البلاد. ونتيجة لهذه الحروب، سيطرت طالبان على أفغانستان. وبرزت حركة طالبان، الداعمة للقاعدة وداعش، في نهاية المطاف من رحم القاعدة تحت قيادة الزرقاوي في العراق وغيرت اسمها بمرور الوقت. ثم سعت داعش إلى إقامة “خلافة إسلامية”، وأصبحت قوة مزعزعة للاستقرار في العراق وسوريا والمنطقة. ثم اغتيل أبو بكر البغدادي على يد الأمريكان في آذار عام 2019 ، وأعلنت الأمم المتحدة عام 2020 أن عشرات الآلاف من مقاتلي داعش ما زالوا ينشطون في العراق وسوريا. ولا تزال هذه القوة دور في إثارة عدم الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط وتهدد الحكومات السنية والشيعية والولايات المتحدة على حد سواء.
سابعاً: يشكل شكل وبنية دول المنطقة عاملاً كبيراً في عدم الاستقرار وتأمين الاستقرار الداخلي والاقليمي. ما حدث في سوريا أظهر عمق الكارثة التي تخلقها هذه الدول في سعيها من أجل الاستقرار في الداخل والأمن في الخارج. فقد فتح الاستبداد داخل سوريا الباب أمام القوات الأجنبية للتدخل في الشؤون السياسية للبلاد. وترك 11 مليون مهاج، فر أكثر من نصفهم إلى تركيا والأردن ولبنان وأوروبا، علاوة على بؤر توتر مختلفة في العديد من هذه البلدان. لقد كان أحد الأسباب الرئيسية لنمو الجماعات اليمينية المتطرفة في أوروبا هو تدفق المهاجرين الذين لجأوا إلى هذه البلدان من سوريا. ولا تعترف الأنظمة الوراثية أو الأيديولوجية في العديد من دول المنطقة بحقوق المواطنة للشعب. ويتعرض المعارضون للقيود بأشكال مختلفة. ويكشف مآل قاشقجي، الصحفي المنتقد للنظام في السعودية، وخاصة في ظل الحكومة التي شكلها محمد بن سلمان ، مصير منتقدي الأنظمة الاستبدادية في المنطقة. ففي بلد مثل المملكة العربية السعودية ، يُقتل ناقد مثل قاشقجي بوحشية في دولة أخرى في المنطقة. ويتعرض أولئك الذين يعبرون عن احتجاجهم على سياسات النظام الحاكم في بلادهم إلى لسجون لسنوات، ويحرمون من حقوق المواطنة وتلفق الإتهامات الباطلة ضدهم. لذلك، فإن الأنظمة الاستبدادية، لا سيما في المجتمعات التي تستند فيها مطالب التغيير السياسي على أسس اجتماعية، ستكون هي نفسها عاملاً رئيسياً في عدم الاستقرار السياسي.
ومع الأخذ بنظر الاعتبارر تأثير العوامل المشار إليها آنفاً على الأمن الداخلي والإقليمي، فإنه مع تفشي وباء كوفيد-19 وهبوط أسعار النفط وتراجع أهمية النفط في العالم بسبب الجهود المبذولة لاستبداله بالطاقة البديلة، تواجه منطقة الشرق الأوسط تحديات جديدة تتعلق بأمنها واستقرارها حيث لم تتخذ اية إجراءات إيجابية. لقد ظهر وباء كوفيد-19 في بعض دول المنطقة منذ نهاية كانون الثاني عام 2020. وتم تحديد الإصابة الأولى بهذا المرض في 22 كانون الثاني عام 2020 في إيران. وبعد أكثر من عام تحور هذا الفيروس داخل إيران ، دخل لقاح مضاد للكوفيد لأول مرة بلدنا من صنع روسيا. لقد أثر وباء كوفيد على اقتصاديات البلدان في المنطقة بطرق مختلفة. وأوقف طيران الإمارات رحلات جميع شركات الطيران التابعة له لأكثر من أربعة أشهر. كما أثر انخفاض أسعار النفط بسبب انخفاض الطلب على اقتصادات العديد من دول المنطقة في نفس الوقت. وكانت قطر وحدها قادرة على موازنة اقتصادها بتحديد مبلغ 40 دولاراً لبرميل النفط وتحمل ضربات كوفيد وهبوط أسعار النفط. لكن سيواجه مستقبل سوق النفط في السنوات الثلاثين القادمة تغييرات كبيرة. لذا فإن البلدان التي اعتمدت على بناء اقتصادها ي على سعر برميل النفط بقيمة 100 دولار في الماضي ستواجه مشاكل كبيرة في المستقبل مع الشروع بتطبيق مصادر الطاقة البديلة. في الوقت نفسه، فإن مشكلة نقص المياه في العديد من دول المنطقة، وخاصة إيران، لا تساهم فقط في إثارة التوترات الخارجية خارج حدود الدول المختلفة، ولكنها تثير أيضاً توترات داخلية بسبب عدم كفاءة الحكومات في السيطرة على هذه الأزمة.
بؤر توتر جديدة في الخليج: توصلت إدارتا روحاني وأوباما إلى اتفاق في تموز عام 2015. ويعد توقيع الاتفاق النووي تجربة ووثيقة يمكن الدفاع عنها من أجل المصالح الوطنية لبلدنا وكذلك السلام في الشرق الأوسط. ولكن انسحب ترامب في أيار عام 2018 من الاتفاقية الدولية التي حظيت بدعم جميع المفاوضين والأمم المتحدة. لو نجا الاتفاق النووي من تطاول ترامب ، بالإضافة إلى المشاكل الداخلية التي سببها تخلي ترامب عن الاقتصاد النووي على اقتصاد وسياسة بلدنا ، لكانت السعودية التي كانت تعارض الاتفاق النووي قد تعمد إلى التفاوض مع بلدنا في وقت سابق لدوافع مختلفة لحل الخلافات بين البلدين. لكن المملكة العربية السعودية، بقيادة محمد بن سلمان ، شنت أعمالا عدائية وأثارت توترات جديدة في الشرق الأوسط، وشكل ذلك تحديا للاستقرار السياسي أكثر من أي وقت مضى. في عام 2015 ، تولى محمد بن سلمان زمام السلطة في المملكة العربية السعودية، وفي ظل قيادة شابة وعديمة الخبرة، دخل الشرق الأوسط في دوامة تجربة سياسية جديدة قد تتجلى في أكثر أشكالها في الحرب ضد اليمن. وفي نفس العام تدخلت روسيا في سوريا بدعم من بلدنا. وبصرف النظر عن النفوذ الأمريكي الأكبر في الشرق الأوسط واليد الطولى في مياه البحر الأبيض المتوسط ، فقد سيطر بوتين ببطىء على سوريا لصالح روسيا. ثم إندلع التوتر بين المملكة العربية السعودية وقطر في حزيران عام 2017. ووقفت الإمارات والبحرين ومصر إلى جانب المملكة العربية السعودية ، في حين قدمت إيران وتركيا الدعم لقطر بشكل علني لمنع الدول التي تقودها الرياض من فرض هيمنتها على قطر. وفي إنذار أخير، وجهت الحكومة السعودية 13 طلباً لقطر، كان أحدها قطع العلاقات مع إيران، وإغلاق قناة الجزيرة التلفزيونية، وقطع العلاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في الشرق الأوسط. لقد وضع العداء بين السعودية بقيادة الزعيم الشاب والسعودي الخام وبين قطر مجلس التعاون الخليجي على شفا انهيار. ولم يلحق التوتر في حد ذاته الضرر بالعلاقات بين البلدين فحسب، بل أدى أيضاً إلى ظهور تحديات أمنية مختلفة. وفشلت المملكة العربية السعودية في نهاية المطاف في خطتها لأن إيران وتركيا لم تسمحا لقطر بالتعرض لأضرار سياسية وأمنية. وفي هذا الصدد، ازدادت الخلافات بين تركيا والإمارات، وخاصة بين أردوغان والشيخ محمد بن زايد ، بحيث دخلت قطر وتركيا في الصراع الليبي ضد الإمارات والسعودية.
وبرز توتر جديد آخر في المنطقة تمثل في إقامة العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والإمارات والبحرين في آب وأيلول عام 2020. كان الدافع لإقامة هذه العلاقة على وجه التحديد هو تشكيل جبهة جديدة ضد إيران. وحذر الإسرائيليون الدول العربية في المنطقة بمهاجمة القواعد العسكرية الإيرانية في سوريا، وعبروا عن استعدادهم للخوض في مواجهة عسكرية مع بلادنا للدفاع عن مصالحها ضد إيران. وشجع إحجام الكونغرس الأمريكي عن بيع أسلحة للسعودية بسبب الحرب في اليمن الدول العربية في المنطقة على تحسين العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وإضفاء الطابع الرسمي عليها للحفاظ على أمنها. وعلى الرغم من عدم وجود حديث أولي عن التعاون العسكري بين إسرائيل وهذه الدول، إلاّ إن الهدف بعيد المدى لهذه العلاقة هو إرساء أسس هذا التعاون وربما إنشاء سوق اقتصادي إقليمي مشترك. وافق الإسرائيليون على التخطيط لمثل هذا المستقبل من خلال بيع طائرات مقاتلة أمريكية من طراز F-35 إلى الإمارات خلال إدارة ترامب.
التطورات الإقليمية الأخرى: لقد زادت الصين على مدى العقد الماضي من نفوذها الاقتصادي والتجاري في مختلف بلدان الشرق الأوسط. بادئ ذي بدء، يتم تصدير حوالي 80٪ من نفط الشرق الأوسط إلى آسيا. علماً إن أكبر مشتري للنفط في المنطقة هم الصين بنسبة 19٪ والهند بنسبة 16٪ واليابان بنسبة 15٪ وكوريا الجنوبية بنسبة 13٪. إن نفط الشرق الأوسط مهم جدا لهذه البلدان. ومن بين المشترين الأربعة، تنتمي كوريا الجنوبية واليابان إلى المعسكر السياسي للغرب والولايات المتحدة. وتتمتع الهند بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة والغرب، ولا تخلو علاقاتها مع الصين من المشاكل. كما تحتاج الصين فقط إلى نفط الشرق الأوسط، وهي في حاجة ماسة إلى التجارة مع مختلف دول المنطقة. ويعتمد الاقتصاد الصيني إلى حد كبير على الصادرات والاستثمار الأجنبي. تعتبر الطبقة الوسطى في داخل الصين أقلية مقارنة بالدول الصناعية ولا يمكنها تقليل حاجة اقتصادها للأسواق الخارجية من حيث الاستهلاك. ولا يسعى الصينيون إلى منافسة عسكرية مع الولايات المتحدة أو خطط أمنية عسكرية مع دول في الشرق الأوسط. إنهم لا يريدون التنافس مع الصناعة العسكرية الأمريكية، فهي صناعة غير تنافسية عملياً. وتم تأمين العلاقة بين دول المنطقة والصين بمبادرة الحزام والطريق (BRI). في عام 2018 ، أسس الصينيون أكثر من 230 شركة في عُمان وميناء جبل علي في دبي لإقامة علاقات تجارية مع دول المنطقة. لا يبحث الصينيون عن خيار بين إيران والدول العربية في المنطقة، لكنهم يسعون وراء مصالحهم الاقتصادية الخاصة. ولا تحتاج دول المنطقة إلى مساعدة مالية صينية للاستثمار في بلادهم، بينما تبحث بلادنا عن الاستثمار الصيني في مختلف قطاعات الاقتصاد على مدار الـ 25 عاماً القادمة. وبما أنهم لا يحتاجون إلى استثمارات صينية ، فإنهم يتحكمون في مشاريعهم على أساس الجودة والتكلفة ووقت الانجاز. ولكن من الجدير بالذكر أن الصينيين سيحتاجون أيضاً إلى نفط شرق أوسطي أقل خلال العشرين عاماً القادمة لأنهم يبحثون عن مصادر طاقة بديلة، كما أن النمو السكاني للبلاد آخذ في الانخفاض حالياً على الأقل. إلاّ أن من الواضح أن الولايات المتحدة والغرب يتنافسان مع الصين في الشرق الأوسط على اقتصاد صعب ولن يسمحا للصين أو روسيا بملء الثغرات الأمنية في المنطقة.
إن الهند أيضاً هو بلد يتمتع بنفوذ قوي في الشرق الأوسط في مجال تلبية احتياجات العمالة وكذلك التجارة. فبالإضافة إلى احتياجاتها من نفط المنطقة، أرسل الهنود العاملون في منطقة الخليج في عام 2018 تحويلات تبلغ قيمتها 79 مليار دولار إلى عائلاتهم في الهند. ويمثل هذا المبلغ رقماً كبيراً مؤثراً في تنمية جزء من الاقتصاد الهندي، لأن أكثر من نصف هذا المبلغ يتم استثماره في قطاعات مختلفة من الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة.
ومع ذلك، تنخرط روسيا في حرب باردة بطريقة مختلفة عما كانت عليه في الماضي مع الغرب والولايات المتحدة في المنطقة وحول العالم ، فهي تسعى إلى تحدي الولايات المتحدة عسكرياً بشكل أكبر. ويسعى بوتين، وهو أحد القادة في عالمنا اليوم، إلى التنافس مع الولايات المتحدة والغرب في الصناعة والقوة العسكرية دون امتلاك اقتصاد ديناميكي وتنافسي، ويرجع ذلك أساساً إلى أنه يعلم أنه لا يستطيع إنشاء مثل هذا الاقتصاد في سياقه السياسي الحالي. لقد حذرت الحكومة البريطانية روسيا في عام 1903، ومن ناحيتها حذرت الحكومة الأمريكية روسيا في عام 1979 من السعي للهيمنة على الشرق الأوسط، لكن تدخلها العسكري في سوريا في عام 2015 منح بوتين الفرصة لتوسيع نفوذه في المنطقة. وفي ليبيا، تقف روسيا إلى جانب الإمارات ومصر، بمساعدة زعيم مثير للشغب هو الخليفة حفتر، بينما لا تعترف الأمم المتحدة بحفتر. إن لروسيا والدول العربية في المنطقة مصلحة في إبقاء أسعار النفط مرتفعة لأن اقتصاديات روسيا والمملكة العربية السعودية تعتمد بشكل كبير على صادرات النفط ، لكن في الممارسة العملية وفي وقت من الأوقات لم تكن قادرة على تبني استراتيجية واحدة ومتابعتها. خلال فترة العقوبات التي فرضها ترامب على إيران ، بذلت روسيا والسعودية قصارى جهدهما لاغتنام الفرصة لجعل من الصعب على إيران العودة إلى سوق النفط السابق. في أيلول 2016، عملت روسيا مع المملكة العربية السعودية على تحديد أسعار النفط، وخفضت المملكة العربية السعودية الإنتاج هذا العام للحفاظ على الأسعار مرتفعة. ولكن في آذار عام 2020، عندما انخفض الطلب على النفط بشكل حاد، اندلعت حرب أسعار النفط بين البلدين، وقررت المملكة العربية السعودية عدم خفض إنتاجها النفطي بعد الآن . وفي وساطة ، طلب ترامب من بوتين خفض إنتاجه من النفط، وذلك بسبب علاقات الصداقة التي تربطه مع ترامب. لم تكن روسيا قادرة على توسيع نفوذها في الشرق الأوسط بإستثناء تدخلها العسكري في سوريا، لأن الولايات المتحدة وأوروبا ساعدت سوريا في السابق من حيث الأمن واعتمد اقتصادها اعتمادًا كبيرًا على الصناعة والتكنولوجيا الغربية. لقد لعبت روسيا ذات مرة مع إيران ضد الغرب والولايات المتحدة، لكنها لم تحقق نجاحاً كبيراً في المنطقة بعد. وتتنافس الولايات المتحدة اقتصادياً مع الصينيين في المنطقة وتسعى بشدة لمنع روسيا من استغلال الثغرات الأمنية في المنطقة. لقد خلق ترامب ذات مرة مثل هذه الفرص لبوتين، لكن الديمقراطيين وبايدن يسعون إلى تحدي روسيا وفرض المزيد من العقوبات عليها.
إيران والولايات المتحدة:أصبحت الولايات المتحدة قوة بلا منازع في الشرق الأوسط بعد الحرب مع العراق في 1990-1991. وكان السبب الرئيسي هو الإجماع العالمي الذي شكله بوش الأب لإخراج صدام حسين من الكويت. إنه على عكس ابنه، الذي أخذ سكان نيويورك سياساته كرهائن، سعى إلى بناء إجماع عالمي بعد سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة. وعلى مر السنين، طورت الحكومة الأمريكية علاقات أوثق مع دول مجلس التعاون الخليجي، وأنشأت أكبر قاعدة بحرية لها في البحرين، وقاعدة عسكرية في معسكر عريفجان في الكويت وأحد أكبر قواعدها الجوية في العويد – قطر. وبالنسبة للأسلحة العسكرية، أنشأت قواعد عسكرية في دول أخرى مثل الكويت وعمان والإمارات. وفي عام 1993، سعت إدارة كلينتون للتفاوض مع بلدنا إيران. وقامت بطرح مبادرة لتشجيع إيران على التفاوض في أيار من العام نفسه ، ضمن خطة “الاحتواء المزدوج” (Dual Containment) في مواجهة إيران والعراق. في عهد كلينتون، اعترفت الولايات المتحدة بالثورة الإيرانية على أنها ثورة شرعية، وأعلنت أنها لا تكن العداء لإيران ولا للإسلام. لكنه عارض بشدة النفوذ العسكري الايراني في المنطقة. وأتاح انتخاب خاتمي عام 1997 فرصة للحكومة الأمريكية للنظر بجدية في حل الأزمة الأمريكية الإيرانية. في حزيران 1998، اقترحت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت، التي كانت تحظى بتقدير كبير في الأوساط الدبلوماسية، خطة للمصالحة بين البلدين. وفي آذار2000 ، أدانت الإدارة الأمريكية الانقلاب العسكري الأمريكي ضد الحكومة الشرعية للدكتور محمد مصدق عام 1953. لكن خطته لم تستقبل من قبل القادة السياسيين في بلادنا وضاعت فرصة التفاوض مع هذه الإدارة. وعلى الرغم من أن تهديد صدام حسين للولايات المتحدة قد تم أخذه على محمل الجد خلال سنوات كلينتون وبوش، لكنها لم تعتبر الولايات المتحدة أن إيران تشكل تهديداً خطيراً لمصالح الولايات المتحدة. وتدخلت إدارة بوش عسكرياً في العراق بعد 11 أيلول ، ووضعت إيران على محور الشر، وعلى الرغم من أن إيران كانت أكثر استعداداً للتفاوض مع الولايات المتحدة في ذلك الوقت، إلا أن الإدارة الأمريكية لم توافق على مثل هذه المفاوضات. وضاعت فرصة حقبة كلينتون وخاتمي، وفي عهد بوش، كان سكان نيويورك المناهضون لإيران والمناهضون للإسلام غير مستعدين للتصالح مع إيران.
تولى أوباما منصبه في كانون الثاني عام 2009 كرئيس للولايات المتحدة. وأشار في خطاب ألقاه في القاهرة – مصر ، في الرابع من كانون الثاني من ذلك العام: “أن الولايات المتحدة لن تخوض حرباً مع الإسلام الآن أو في المستقبل. وتسعى الولايات المتحدة إلى بناء علاقة احترام متبادل مع جميع المسلمين في جميع أنحاء العالم. لكننا نتعامل بجدية مع الجماعات المتطرفة “. في هذا الوقت، ولأول مرة في إيران ، تم الإعلان عن القدرة على تخصيب منشآت فوردو النووية. في صيف عام 2010 ، تم فرض المجموعة الرابعة من عقوبات الأمم المتحدة على إيران. وتسبب فيروس Stuxnet ، الذي أنشأته إسرائيل والولايات المتحدة ، في إلحاق أضرار جسيمة بأجهزة الكمبيوتر في المنشأة الإيرانية بين حزيران 2009 وآب 2010. لقد انتهجت إدارة أوباما سياسة دعم حركات الربيع العربي إلى جانب تأمين أمن أنظمة الدول العربية الحليفة لها في المنطقة. ووافق أوباما على سقوط حكومة مبارك في مصر، وأثار هذا الموقف مشاعر الإنزعاج في السعودية التي عارضت رحيل مبارك. في آب عام2012، تعرض أوباما لانتقادات من قبل المحافظين داخل الولايات المتحدة ومن الدول العربية في المنطقة بسبب الهجوم الكيماوي في سوريا وتقاعسه في السماح لانتهاك الخط الأحمر لواشنطن. وبدأ جون كيري في الولاية الثانية لإدارة أوباما مفاوضات حول برنامج إيران النووي مع مجموعة 5 + 1، وتم توقيع الاتفاقية النووية مع إيران في تموز عام 2015. وعارضت الدول العربية في المنطقة وإسرائيل بشدة هذه الإتفاقية. وعندما سافر أوباما إلى الرياض في نيسان عام 2016 للقاء الملك سلمان، سأله أحد المراسلين في جو ودي بين البلدين عما إذا كان يعتبر السعودية صديقة، فأجاب: “الإجابة معقدة للغاية”. وانتقد أوباما سياسات المملكة العربية السعودية في اليمن، قائلاً إن السعودية والدول العربية في المنطقة يجب أن تعتمد بدرجة أقل على المظلة الأمنية الأمريكية في المستقبل.
وقامت إدارة ترامب بأول رحلة خارجية لها إلى المملكة العربية السعودية ولاحقًا إلى إسرائيل في أيار عام 2017. وخلال هذه الرحلة، تم إقامة علاقة وثيقة للغاية بين ترامب والعائلة المالكة السعودية. لقد كان ترامب قليل الدراية في السياسة الخارجية وغير قادر على فهم السياسة في الشرق الأوسط. وتم الاستعانة بأطراف خارجية في صياغة السياسة الخارجية الإقليمية للولايات المتحدة في عهد ترامب. ولأول مرة في تاريخ إسرائيل، بلغ تأثيرها في صياغة السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط ذروته. إن ركيزتي السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط بالنسبة لترامب هما إسرائيل والمملكة العربية السعودية. عندما اغتيل قاشقجي بوحشية من قبل المملكة العربية السعودية في اسطنبول في تشرين الأول عام 2018 ، صرح ترامب علناً وتكراراً أنه لن يتهم محمد بن سلمان بهذا العمل الشنيع. في الموقف من إيران، سعى ترامب إلى انهيار الاقتصاد الإيراني وتغيير النظام في نهاية المطاف في بلدنا ، ولهذا السبب تخلى عن الإتفاقية النووية مع إيران في أيار عام 2018. ولكنه فشل في جلب إيران إلى طاولة المفاوضات مع اقتراب نهاية ولايته، وتعرض إلى الإنتقاد تدريجياً من قبل الدول الأوروبية لسياساته القاسية. ووجه ترامب أجهزته الأمنية بإغتيال قاسم سليماني في الثالث من كانون الثاني عام 2020 ، وفي الثاني من تموز من ذلك العام ، نفذت إسرائيل، بدعم من إدارة ترامب، تفجيراً في منشأة نطنز النووية. وأضحت العلاقات بين إيران والولايات المتحدة في أدنى مستوياتها على الإطلاق في عهد ترامب ومع توترات متفاوتة.
بدأ بايدن حملته في السياسة الخارجية بشعار العودة إلى الإتفاق النووي مع إيران. لكن بعد طرح السؤال الأول هو وطاقم السياسة الخارجية، والحديث يدور حول الإتفاق النووي. وعندما إنسحب ترامب من الإتفاق النوي في الفترة بين أيار 2018 وكانون الثاني 2021 ، حققت إيران براعة علمية جديدة في برنامجها النووي، وبدأت في بناء أجهزة طرد مركزي جديدة، وزادت من تخصيبها لليورانيوم، وزادت من معدل تنقية اليورانيوم لديها من 3.8٪ إلى 60٪ في الوقت الحاضر بالفعل. وبدأت إدارة بايدن عملها في البيت الأبيض بانتقاد السعودية قائلة صراحة: “إن الولايات المتحدة ستكون متأكدة من أنها لن تنتهك قيمها عند بيع أسلحة للسعودية”. كانت هذه بالضبط السياسة المعاكسة التي انتهجها ترامب. وفي نيسان 2019 ، أصدر الكونغرس الأمريكي قراراً بعدم بيع أسلحة للسعودية بسبب الحرب في اليمن، لكن ترامب رفض مشروع القانون.
تتعرض الحكومة الأمريكية الآن إلى الضغوط من المحافظين وبعض الديمقراطيين فيما يتعلق بالعودة إلى الإتفاق النووي. وذكر أنه في حالة إلتزام إيران بجميع أحكام الإتفاق النووي، فإن الولايات المتحدة على إستعداد للعودة إلى الإتفاق النووي. لكن في الوقت نفسه، تريد الولايات المتحدة أن يجري تعريف الإتفاق النوي الذي وقع عام 2015 دون رفع بقية العقوبات غير المتعلقة بالإتفاق النووي. فهي تسعى إلى الإبقاء على العقوبات غير المتعلقة بالإتفاق النووي كأداة للضغط على إيران كي تعلن بلادنا من الموافقة على المفاوضات المقبلة. إن المشكلة هي أنه إذا لم تجر المفاوضات المقبلة، فلن تتم المصدقة على الإتفاق من قبل الكونغرس الأمريكي، ويمكن لأية حكومة في واشنطن الانسحاب منه في المستقبل. ثانياً ، ما لم يتم حل كل الخلافات بين البلدين بشكل كامل، فإن جزءاً من العقوبات المتبقية على إيران لن يسمح للمؤسسات المصرفية الدولية في العالم بالثقة وإئتمان إيران في المعاملات المالية. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال هناك العديد من العقوبات تحت عناوين مختلفة ضد مؤسسات مختلفة في الدولة والأفراد والكيانات القانونية.
مستقبل أمريكا في الشرق الأوسط: إن البحث في هذا المقال سعى حتى الآن إلى البحث عن الأرضية لمستقبل سياسة الولايات المتحدة في المنطقة. وألقت العوامل المختلفة التي نوقشت أعلاه الضوء على بعض التعقيدات السياسية في منطقة الشرق الأوسط. وهناك حالياً رأيان حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. الرأي الأول يميل إلى أنه على الرغم من أن الشرق الأوسط فقد حساسيته السابقة في السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أن مصالح واشنطن في المنطقة ستظل كما هي لعقود قادمة. ويعتقد المدير الحالي لوكالة المخابرات المركزية، وليام بيرنز، أن على الولايات المتحدة “توجيه أهدافها في الشرق الأوسط واستخدام أدوات جديدة”. وفي هذا السياق، بيّن معهد كوينسي في تحليل له أنه إذا قررت الولايات المتحدة تقليص وجودها العسكري في الشرق الأوسط، فلا ينبغي أن يعني ذلك مغادرة المنطقة. وفي السياق ذاته، يعتقد البعض أن الولايات المتحدة يجب ألا تساعد وتشجع أبداً دول المنطقة على التدخل عسكرياً في شؤون الدول الأخرى، كما هو حاصل في اليمن وليبيا والسودان. وهناك أقلية في دوائرصنع القرار الأمريكي تعتقد أن على الولايات المتحدة أن تغادر منطقة الشرق الأوسط.
إن النهج الذي سارت عليه إدارة بايدن حتى الآن هو البقاء في الشرق الأوسط مع الاعتماد بشكل أكبر على الدبلوماسية. وفي هذا الإطار تسعى الولايات المتحدة إلى حل مشاكلها مع إيران. ولا تزال حكومة بايدن تسعى لخطة أمنية للمنطقة بمشاركة إيران والعراق. يعتقد البعض أنه إذا طُلب من الدول العربية في المنطقة أن تفكر أكثر في أمنها، فسوف يتم تشجيعها على حل مشاكلها مع جيرانها. ويعتقد الكثير أن البرود الذي يسود علاقات بايدن مع السعودية دفعت بالأخيرة إلى فتح باب المفاوضات مع إيران. وفي تموز عام 2019 ، اقترحت روسيا خطة أمنية في المنطقة بمشاركة إيران وبدون الولايات المتحدة، وهو ما رفضته الدول العربية في المنطقة. وحتى الصين كانت مترددة في دعم الخطة. كما اقترحت حكومة روحاني خطة أمنية أخرى تسمى “خطة هرمز للسلام” ، والتي تم تجاهلتها أيضاً من قبل الدول المجاورة.
ما هو واضح هو أن الاستقرار والأمن الإقليميين مهمان ليس فقط للغرب والولايات المتحدة، ولكن أيضاً للصين وروسيا. ولن يسمح الغرب والحكومة الأمريكية بأن تصبح منطقة الشرق الأوسط، وخاصة الخليج، عرضة لعدم الإستقرار. وقد ظلوا في العراق لتقديم المساعدة للحكومة العراقية والتعاون معها منذ انسحاب القوات الأمريكية من العراق. وليس هناك أدنى شك في أن الحكومة الأمريكية ليس لديها نية فورية لمغادرة المنطقة ما لم يتم وضع خطة سلام إقليمية في الشرق الأوسط.
لكن الولايات المتحدة لديها قلق آخر في المنطقة. فإسرائيل تسعى للمواجهة مع إيران ووضع خطة أمنية بدون إيران مع الدول العربية في الشرق الأوسط. ومثل هذه الخطة لن تساعد في إحلال السلام والاستقرار في المنطقة. إن اليمين المتطرف في إسرائيل مناهض لإيران، ومعاد للإسلام، ومعاد للعرب. وإن أي توتر بين إسرائيل وإيران لا بد وأن يمتد إلى دول المنطقة ويؤدي إلى تدخل الولايات المتحدة. وهناك أحتمال حدوث توتر عسكري في المنطقة في المستقبل، ولا يمكن التنبؤ به في نهاية المطاف. ويمكن أن تبدأ الحرب في هذه المنطقة في أي وقت ولأي سبب ، ولكن ليس من الواضح كيف ستنتهي.
في خطابه الأول أمام وسائل الإعلام ، عرض السيد رئيسي أفقاً مظلماً بشأن علاقات إيران مع الغرب والولايات المتحدة. ودخل بايدن في المعادلات السياسية للشرق الأوسط من منظور مختلف، وهو ما يقدم العديد من الفرص للنظام في إيران. لقد أضاعت البلاد في الماضي فرصاً كبيرة لحل صراعاتها مع الغرب. وقد تكون هذه الفرصة الحالية واحدة من آخر الفرص التي تواجهها بلادنا لحل مشاكلها مع الغرب والولايات المتحدة. يجب أن نغتنم هذه الفرصة وألاّ نستسلم لشعارات ومشاعر المحافظين المتطرفين داخل البلاد.