.
بزيارة استغرقت يومين مهّد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان لدور جديد لبلاده في الشطر الشمالي لقبرص، وبينما أعلن تحركات بعدة اتجاهات، فتح باب هجوم وانتقاد لاذع وجهته له دول أوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة الأميركية.
تلك التحركات تم اعتبارها “خطوات استفزازية ومثيرة للقلق”، وخاصة المتعلقة بمدينة فاروشا التي تشكل رمزا لتقسيم قبرص، بعد أن غادرها سكانها القبارصة اليونانيون في أعقاب الغزو التركي عام 1974.
وخلال زيارته اللافتة و”ذات الدلالات العديدة”، أكد إردوغان على تمسكه بحلّ يقوم على دولتين في قبرص، وتحدث عن مشروع لإعادة فتح “فاروشا” التي سبق وأن كانت نقطة جذب سياحية.
وقال أيضا أمام حشد خلال عرض عسكري: “ليس لدينا خمسون عاما لنضيعها”، في إشارة إلى عقود من جولات التفاوض برعاية الأمم المتحدة باءت بالفشل في توحيد الشطرين اليوناني والتركي القبرصي من الجزيرة.
ولم تتضح أبعاد وتداعيات ما أقدم عليه إردوغان في الشطر الشمالي لقبرص حتى الآن.
وبحسب ما قال محللون وباحثون أتراك في تصريحات لموقع “الحرة” فإن الزيارة ومخرجاتها لها سياقات داخلية وخارجية.
“نقاش خلف الكواليس”
لم تكن الارتدادات الدولية الغاضبة هي الوحيدة التي أفرزتها زيارة إردوغان، بل كان هناك نقاش لافت، من وراء الكواليس، استعرضته صحف تركية، خلال اليومين الماضيين.
ومنذ الثلاثاء قدمت وسائل إعلام تركية قراءات عن الزيارة، لكن بطابع مختلف، إذ استهدفت بها الداخل التركي أكثر من الخارج.
وانطلق الإعلام بقراءاته من الشخصيات التي تضمنها وفد إردوغان، والتي كان اللافت منها عضو المجلس الاستشاري الأعلى لـ”حزب السعادة” المعارض، أوغوزهان أصللترك، وزعيم حزب الحركة القومية، دولت باهشتلي.
بالإضافة إلى رئيس “حزب الاتحاد الكبير”، مصطفى دستيجي ورئيس الحزب الديمقراطي اليساري (dsp)، أوندر آق ساقال.
وجود تلك الشخصيات، على الرغم من كونه “اعتياديا” كون “القضية القبرصية” هي قضية قومية في تركيا، إلا أنه يحمل دلالات قد تشي بــ”تغيير قد يطرأ على خريطة التحالفات الحزبية” الداخلية في البلاد.
الباحث في الشأن التركي، محمود علوش يقول: “رغم الاستقطاب الداخلي الحاد حول الكثير من القضايا الداخلية والخارجية، يحظى الموقف الرسمي من القضية القبرصية بتقدير الشارع التركي والأحزاب السياسية الصغيرة التي لم تُحدد بعد مكانها في الخريطة السياسية”.
ويرى علوش في تصريحات لموقع “الحرة” إن إردوغان يأمل في جذب تلك الأحزاب الصغيرة إلى تحالفه مع القوميين قبيل انتخابات 2023.
ويوضح الباحث: “الموقف من قبرص قد يساعده في ذلك”.
لكن الباحث والمحلل السياسي التركي، فوزي ذاكر أوغلو يشير إلى أن “موضوع جمهورية قبرص التركية تجتمع عليه كافة الأحزاب السياسية في تركيا”.
ويقول ذاكر أوغلو لموقع “الحرة”: “قد لا تجد حزبا في تركيا لديه وجهة نظر مختلفة تجاه جمهورية قبرص التركية. هذا الموضوع هو فوق السياسية الداخلية التركية”.
“الخطاب يتغير”
وتستند السياسة الانتخابية في تركيا الآن إلى المنافسة بين “تحالف الجمهور”، الذي يتألف من “حزب العدالة والتنمية” الحاكم، و”حزب الحركة القومية”، وتحالف الأمة المكون من “حزب الشعب الجمهوري”، و”الحزب الجيد” و”حزب الشعوب الديمقراطي”، و”حزب السعادة”.
وبذلك تكون الأحزاب التركية الجديدة خارج نطاق أي تحالف حتى الآن، ولم تتضح الصورة كاملة عما إذا كانت تنوي تشكيل تحالف ثالث، أو أنها قد تتجه إلى الانخراط في التحالفين القائمين حاليا، في المرحلة المقبلة.
وكان لافتا في الأشهر الماضية التقارب الكبير الذي ظهر على العلن بين إردوغان والاسم البارز في “حزب السعادة”، أوغوزهان أصللترك، في ظل مؤشرات عن نية الأخير الانضمام إلى “تحالف الجمهور”، في تغيّر قد يعود بالفائدة على الحزب الحاكم.
وفي الوقت الذي اتجهت فيه الأنظار إلى شخصيات الوفد المشارك مع إردوغان في زيارة قبرص تساءلت بعض الصحف التركية الأربعاء، بينها “t24” الإلكترونية عن أسباب غياب زعيم “حزب الشعب الجمهوري”، كمال كلشدار أوغلو.
وتاريخيا كان التدخل التركي في قبرص لـ”حماية القبارصة الأتراك” في عهد ائتلاف حكومي بين حزب “الشعب الجمهوري”، برئاسة بولند أجاويد و”حزب السلامة، بقيادة نجم الدين أربكان.
ومع غياب أي ممثل عن الحزب العلماني الأول (الشعب الجمهوري) الذي كان حاضرا في سبعينيات القرن الماضي، سُجل وجود أصللترك الذي لم يفارق إردوغان في زيارته، وكانت صوره لافتة بجواز زعيم “الحركة القومية”، دولت باهشتلي.
“تغيّر تدريجي”
وخلال حكم حزب “العدالة والتنمية كان ملاحظا “تشدد أكبر” في دعم القبارصة الأتراك.
وعلى سبيل المثال كانت هناك العديد من المشاريع الكبيرة التي ساعدت القبارصة الأتراك في فرض جمهوريتهم بحكم الأمر الواقع.
ويوضح الباحث التركي، محمود علوش أن الخطاب الرسمي التركي تطور على المستوى السياسي أيضا، “من دعم تسوية فيدرالية للجزيرة إلى طرح حل الدولتين كخيار لإنهاء النزاع”.
ويقول علوش: “حزب العدالة والتنمية يحاول إثبات أنه من بين الأحزاب التي تتبنى أجندة قوية وواضحة إزراء القبارصة الأتراك، وهو ما يعطيه شعبيه في المجتمعات القومية والمحافظة”.
ويحاول أيضا “إبراز أن تركيا لم تقدم أي تنازلات للغربيين”، في خطوة أخرى لكسب الأمر داخليا.
من جهته، يرى المحلل السياسي التركي، فوزي ذاكر أوغلو أن تركيا حاولت كثيرا إعادة توحيد الجزيرة “تحت كونفدرالية تضم جمهوريتي قبرص اليونانية والتركية”.
ويضيف: “لكن لم توفق لذلك، ولهذا بدأ الخطاب السياسي التركي يتغير نحو عدم قبول الكونفدرالية والإصرار على جمهوريتين مستقلتين تماما”.
3 زوايا لـ”قراءة الموقف”
في غضون ذلك، يصف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة “جمهورية شمال قبرص” بأنها “غير شرعية”.
ولم تفضِ محاولات الأمم المتحدة في السنوات الماضية إلى أي نتيجة على صعيد طي صفحة النزاع القبرصي.
وتدلل المواقف الأوروبية والأميركية حيال تحركات إردوغان في الشطر الشمالي للجزيرة على أن حقبة جديدة من التوتر قد تلقي بظلالها على المشهد في المرحلة المقبلة.
فبعد إعلان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والزعيم القبرصي التركي، إرسين تتار، بنقل السيطرة عليها إلى القبارصة الأتراك، لوحت الولايات المتحدة بإحالة الوضع المقلق في مدينة فاروشا القبرصية، إلى مجلس الأمن الدولي.
ودان وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في بيان مساء الثلاثاء، الخطة التوسعية بنقل السيطرة على مدينة تشكل رمزا لتقسيم قبرص، إلى القبارصة الأتراك، مؤكدة أنها مخالِفة لقرارات مجلس الأمن الدولي.
وكانت عدة تغيرات قد طرأت على السياسة الخارجية لأنقرة في الأشهر الماضية، في سبيل تخفيف حدة التوترات مع دول المنطقة، إلا أن تحركاتها الحالية في قبرص قد تعيد جزءا من المشهد السابق.
وبحسب الباحث التركي، محمود علوش: “يجب قراءة الموقف التركي من القضية القبرصية من ثلاث زوايا”.
أولى الزوايا “هي المقاربة القومية الثابتة والقائمة على الدعم المُطلق لحقوق القبارصة الأتراك وهي مبدأ لم يتغيّر بمرور الزمن”.
أما الزاوية الثانية فتتعلق بمقاربة القضية “من منظور النزاع مع اليونانيين والقبارصة الجنوبيين الذين لم يُبدوا جدّية تُذكر في المفاوضات، ويُريدون إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه لأنّهم يعتقدون أنه يُناسبهم”.
واعتبر الباحث أن “ما تفعله تركيا هو تغيير لقواعد أي مفاوضات جديدة في المستقبل”.
وتحدث عن زاوية ثالثة في قراءة الموقف التركي من القضية القبرصية، وتتعلق بمقاربة العلاقة مع الأوروبيين.
“وسيلة ضغط”
وفي مطلع الألفية الثالثة ساهم إطلاق مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي في دعم أنقرة لمساعي إعادة توحيد الجزيرة على “أساس فيدرالي”.
لكن هذا الدعم بدأ يتلاشى تدريجيا، مع تعثّر مفاوضات الانضمام وما سبّبه من تردٍ في العلاقات التركية الأوروبية.
ويشير علوش إلى أنه ” كلّما تصاعد الضغط على هذه العلاقات، كلّما تزايدت التعقيدات التي تواجه القضية القبرصية. الأتراك يجدون في القضية القبرصية وسيلة لمواجهة هذه الضغوط”.