كانت الحرب العراقية – الايرانية قد دخلت عامها الرابع وأنين الثكالى والمعدومين يطفو على بحر من الشجن. الجو العام كان مشحونا بين ان يسقط النظام لإنهاء هذا الوضع المعقد وبين ان تقف الى جانب النظام وحمايته بذريعة الدفاع عن الوطن.
لم يتيسر لحاذق وهو في الثانية والعشرين من عمره ان يرى في ذلك اليوم من شهر أبريل بزوغ فجر الصباح، ليسمع اناشيد العصافير، الممزوجة بموسيقى الفيروزي الساحرة، وإتمام لوحته الزيتية التي حملت عنوان “الحرية” كانت قد أشرفت على نهاية لمساتها الأخيرة، والأمل المشرق في رؤية الابتسامة على شفاه الامهات.
لقد اقتيد حاذق عنوة أمام ذهول وحيرة أمه التي وقفت كالطائر مهيض الجناح، في غارة مفاجئة قامت بها أزلام النظام الفاشي بعد منتصف الليل مقتحمة منزلهم وساحبةً إياه إلى أقبية الأمن المعتمة. فخلف الفجر وراءه ضوءً خافتاً باهتاً حزيناً.
اخذت امه تُعوِّل وتنوح على سلب ولدها من أحضانها وهو في السنة الأخيرة في كلية الطب البيطري بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي. امه لم تكف عن لطم وجهها الناصع البياض بيديها، حتى تحولت بشرتها الى احمر قانٍ.
دموع كثيرة انهمرت على خديها. طفحت من عينيها دموع الحزن والتوتر، امه لم ترد ان تصدق كلمات ابنها الاخيرة قبل سحبه إلى خارج الغرفة عندما التفت اليها وقال:
- لا تفكري بيَّ بعد الان يا أمي.
حاذق هذا الشاب اليافع، منذ نعومة أظفاره، كان مفعم بالحيوية والنشاط الدائمين، يمتلك مواهب فطرية عديدة قلما تتوفر في انسان في مثل سنه. كان مرح جدا وله القدرة الهائلة على التعلم واكتساب المهارات وتطويرها.
أتقن العزف على الجيتار بإمكانياته الذاتية. كان عذب الروح ومرهف الإحساس بالرغم أن الحياة السياسية استغرقت افكاره أكثر من اي شيء اخر.
مارس فن الصحافة وأسس جريدة داخلية، أعتمد في طباعتها على قدراته الخطية، حيث كان خطاطاً بارعاً ورساما موهوبا، ولاعب شطرنج باهر. كان يقوم بطبع المنشورات بواسطة رونية يدوية التي صنعها له ابوه. كان حاذق على قدر كبير من الذكاء، وحاضر البديهة في كل المواد العلمية في الجامعة. هذا التفوق الذهني كان تفسيرا واضحا كي يستمع فقط الى المحاضرات وتبقى المعلومات راسخة في رأسه.
في ظلمة الممر العابر الى ضفة الموت وعلى مسمع صراخ المغيبين في الغرف المعزولة عن العالم جرت له طقوس التعذيب الجسدي اليومي باستخدام أحدث الأدوات الممكنة في إلحاق الأذى والضرر بالإنسان، من اقتلاع أظافر الأصابع والصعقات الكهربائية مع فولتية عالية تمرر على الأجزاء الحساسة من الجسد، إحداث كسور أو تشويه ملامح الوجه، وقطع صيوان الاذن لانتزاع الاعترافات وتدمير الانسان وتجريده من قيمه ومبادئه. بعد انتهاء من حفل التعذيب اليومي، كان يلقى بعدها في زنزانته الرطبة مضرج بالدماء ومتورم في أجزاء متفرقة من جسمه. كان يعاني طوال الليل من الجروح المؤلمة، ولكن عزيمته لم تتضعضع، بل ذلك التحدي جعله أكثر قوة وصلابة.
الدعوة الى تلك الحفلة المهينة كانت تجري وقائعها في أوقات مختلفة. قد تكون في وقت متأخر من الليل حين يغط المرء في النوم أو مع آذان الصباح الباكر.
تلك الأساليب البربرية كانت تعبر عن أيديولوجية فاشية مدمرة تهدف الى افراغ الانسان من إنسانيته وتجعله آلة جامدة غير قادرة على التفكير سوى ترديد نغمة واحدة يحيا قائد الضرورة. ومن هذا المنطلق ناضل حاذق حتى الموت في سبيل اجتثاث حالة الاضطهاد والظلم الجاثمة على صدور الناس.
نما لدى حاذق الوعي الفكري والسياسي مبكراً، دخل إلى هذا المعترك بإيمان راسخ واعتقاد اصيل. بسبب تلك النشاطات صار محط أنظار أزلام السلطة وعيون طلبة الاتحاد الوطني التابع للنظام التي كانت تلعب دور الامن الخاص. حتى خطيبته التي كانت تمارس دور الحب مع حاذق كُلفتْ خصيصاً للتجسس عليه.
كان حاذق يقول:
- انا اعرف انها تعمل معهم ولكن وجودها معي عن قرب أفضل وتكتب فقط ما تراها.
وفي اروقة الجامعة تعامل معاون العميد معه بأسلوب أمني خبيث. كان يراقب حركاته باستمرار.
وفي أحد الأيام قبل اعتقاله بيومين بينما كان يقف مع خطيبته قرب خزانته لحفظ الملابس والكتب، دنا معاون العميد منهم وقال لها:
- سوف اثبت لك من يكون هذا؟
ثم غادر المكان دون اي اضافات او تعقيب.
اعتقد حاذق ان تهديده هذا كان مجرد لإبعاد الشبهات والشكوك عن خطيبته التي لعبت دورا لا اخلاقيا بحق الانسان الذي أحبها.
وفي تلك الساعة عند اعتقاله، كان معاون عميد الجامعة الحديثي يرافق رجال الأمن كأحد أفراد المفرزة.
استلقى حاذق في زنزانته على ظهره ممددًا وعيناه تحدقان بالجدار. كانت هناك كتابات منقوشة بخط رجال سطروا بطولاتهم بدمائهم الزكية. وها هنا عدنان كتب حروفه الاخيرة بدمه النازف قبل وفاته بدقائق؛ لن اخون قضية شعبي، وإن قضيتم على جسدي، سيبقى فكري حيا وسوف يقلقكم في مضاجعكم. يحيا الوطن… عدنان……
تدفقت تلك الكلمات الثورية كشلالات هادرة أيقظت في ذاته حماس متزايد. ظل أمينا لمبادئه وحريصا على الرسالة السامية التي حملها معه عهدا منه ان يصون اسرار حزبه ورفاقه وأن لا يرضخ للطغاة مهما اشتدت بربرية أجهزة النظام القمعية.
كان حاذق كبير في فكره وعظيم في رؤيته الثاقبة للحياة. كان يؤمن بأن الإنسانية لا يمكن ان تتجسد بصورها الحقيقية ما لم تتكامل مقومات الحرية في ظل نظام يوفر العدالة الاجتماعية والعيش الرغيد. كان يعتقد بأن النظرة إلى الحياة يتطلب من الانسان ان يتحرى ويسبر غورَها وأن لا يستسلم بمجرد ان تصادفه الهفوات والتصدعات الناتجة عن تغيرات فصول الطقس الاجتماعي المتنوعة والمتراكمة تحت سقيفة التخلف والتشتت.
كان يقول:
– لا نجعل من أيامنا اقنعة مرعبة توسع دائرة اليأس، ونترك قارب الأمل وسط إعصار مضطرب ونغمض عيوننا عن راسية الميناء الهادئ. فالحياة ليست سوى كتاب مفتوح للجميع، لا عليك سوى قراءة ذلك الكتاب والبحث في طياته، والحياة ايضا عبارة عن مرآة تعكس مواقفنا وتوزيع أدوارنا، علينا أن لا نفرط بأبجدياتها وركائزها، بل نسعى عن قناعة في التمسك بمضامينها، لأن التخلف عن ركابها يعني التفريط بالزمن وإزالته من قاموسنا.
ثم استطرد قائلا:
– نعم نحن البشر نسعى بقدراتنا وإدراكنا الحسي على رسم لوحة الحياة التي فيها تتجلى معاني الحب والتعاضد والقيم، حيث هناك على الرمال الساخنة ينسكب دفء الشمس، وفي الأفق يمتد الفضاء ليشكل مظلة تقي الجميع دون تمييز، ونستلذ من رؤية البحر العميق، المترعة بأنواع الأسماك، وفي الليالي الهادئة نرى من النوافذ المفتوحة القمر في السماء يتبختر بنوره وسط النجوم المتناثرة بأضوائها المتلألئة.
في تاريخ ٢٧/١/١٩٨٥ تم استدعاء والدة حاذق الى سجن ابو غريب لملاقاة ابنها الذي اعتقل منذ أكثر من تسعة أشهر ولم تلتق به منذ ذلك الحين. كانت تنتظر عند بوابة السجن وفي صدرها شيئاً حارقاً اشبه بنيران ملتهبة، وكانت نظراتها تلوح بالقلق والحيرة تكاد ان تكون مشوبة بالألم. طلب الشرطي منها الدخول.
دخلت الى حجرة خانقة ذات ألوان متنافرة تفوح منها روائح كريهة. وإذا بها أمام جثة هامدة صامتة. لقد جرى إعدام حاذق شنقاً بعد ان صُدرت حكم الاعدام بحقه في محكمة صورية سرية، سميت محكمة الثورة سيئة الصيت*.
بعد ان تم تسليم الجثة لامه، حذرت السلطات من مغبة تعرضهم الى المعاقبة الشديدة في حالة إجراء مراسيم العزاء والبكاء عليه.
……………………………………….
*محكمة الثورة كانت تدار من قبل النظام البائد ويقودها المجرم عواد البندر وقد تم محاكمته علنيا وعادلا بعد السقوط. وقد حكم عليه بالإعدام.