ملّتي التي أحبّها، تجرّ أذيال الخيبة والخسران، وتصطّف دائما في أواخر الملل والنحل. ملتي التي لا ترضى بالحرية، وتعبد الخضوع، وتسير وراء الآخرين، تبني في أحلامها قصورا فخمة على أنقاض أكواخها، قصور لن تسكنها حتى في تلك الأحلام.
أيها الأخوة:
لماذا لا تهدمون ما بناه في مخيلتكم أولئك الكاذبون من رؤساء العشائر، والجبناء من الأمراء، والدجالون من رجال الدين؟ لا يرضيكم صمتُ البلبل وهو سجين في قفصه حزين على حريته، وتستطيب أسماعكم أناشيد الحجل وهو يدعو أقرانه ليقعوا مثله في فخ العبودية.
يا ملة ترى أنهار العلوم والآداب تجري أمامها، وتبقي على أدرانها دون أن تزيلها من فكرها. إلى متى سيطول رقادكم على جبلكم، وفي القرى القريبة يتجوّل عدوّكم بصحبة بناتكم ونساءكم؟
أبكي قناعتكم ولكنكم تسخرون من بكائي، هكذا أنتم فمن يحبكم تمنحونه الكراهية، ومن يكرهكم علنا ويتمنى فناؤكم تتبعونه.
أشفق عليكم من جهلكم، وترمونني بسهام غدركم. واحدكم يريد عدّ حبّات رمال سيباى، والآخر يريد نقل حجارة السكينية، وثالث يريد معرفة عدد ثمار التين في الجبل هذا الصيّف، وآخر يريد عدّ نجوم الفضاء عندما تكون الشمس في كبد السماء.
عندما كنتم أحياءً لم تطلبوا الحياة، والآن أنتم موتى، وتتمنون الحياة. مللت عجزكم، وصدعّني صرّير الريح في جماجمكم الخاوية.
أحبكم، ولكنكم لا تحبون أنفسكم. لست بعدوكم، فكفاكم عداوتكم لبعضكم.
تسكنون الكآبة، ونفوسكم حزينة تبكي عندما الأمر يتطلب الضحك، وتضحك وقت البكاء، وكان الأجدر بكم الابتسام في كلا الوقتين.
لا تعرفون أنفسكم. تسيرون بسرعة، وتتراجعون أسرع، أما من نبيه فيكم يدلكم على قاعدة التقدم كلّ يوم بخطوة.
صوتكم صراخ، وصمتكم سكون مقابر. فليكن صوتكم دندنة طنبورة، وسكوتكم لحن شبابه.
تجلسون في الظلام، وتتمنون النور. لماذا لا تجلسون في النور، ولماذا لا ترفضون الظلام؟
يا ملتي كلانا نتألم، أنتم لجهلكم وأنا لمعرفتي بجهلكم. تتنهدّون على ماض توّلى، في حين عليكم أن تهمسوا لمستقبل آت.
لا تبتسمون للأرملة؛ لتقلب حيرتها إلى قوّة. ولا تربتون على ظهر اليتيم، ليشرق وجهه للغد.
فليبن كلّ واحد فيكم بداخله لالشا للتبرك.
هربتم من بابل وأضعتم طريق العودة. وأنا أقول لكم أينما حللتم أبنوا أبراجا أعلى من برج بابل داخل نفوسكم.
تبكون على نينوى، وعندي كلّ المدن نينوى.
إن كنتم لا تجدون قبورا لأجسادكم الفانية، ماذا ستفعل أرواحكم الهائمة بالقصور الفخمة؟
أتنم ألعوبة في أيادي غيركم، فلا أريد أن أكون ألعوبة في أيديكم؟
تقدمّون النذور وينحرونكم كضحايا، ولكن عليكم أن تحرقوا البخور لذواتكم أولا.
تخضعون لمن يجيد التكلم، والتلوّن وحريّ بكم أن تتبعوا المحبّة الخرساء.
لستم سوى قطيع تبحثون عن قطعان مثلكم لتمثلوا دور الرعاة.
أوصيكم أن تبحثوا عن الإنسان لتسيروا معه يا ملتي، فلن تخطوا خطوة واحدة إلى الأمام ما لم تتعرفوا على الإنسان في دواخلكم.
الكسل والخمول والقناعة والتوّكل قيود تعيق مسيرتكم، ولن تسيروا ما لم تكسروا تلك القيود أولا، فمن يهوى الصباح تستقبله الشمس ضاحكة، ولكن من يقلّد البلبل كالببغاء لن ترقص في حضرته وعلى أنغامه الشقائق.
إن كنتم ترغبون برؤية الزنابق في غير مواسمها عليكم بإزاحة أكوام الثلج عليها.
تعلمتم النوح في المقابر ولا تعلمون بأن الأشباح نفسها باتت تهرب من نواحكم اللامجدي.
تطالبون المجتمعات بدوركم في الرقص ولا تتمنون الصلب، أما عرفتم بأن الرقص والفرح يأتي بعد الصلب يا ملتي.
تضحكون في الربيع وتهربون في الصيف، تسكرون بنبيذ الخريف وتختبئون في الشتاء، وكان لزاما عليكم أن تعانقوا كلّ شيء في جميع الأوقات.
لا تزرعون وتريدون أن يأتي وقت الحصاد.
لا تركبون الأمواج وتقولون بأن البحار غدّارة.
تحبّون اللون الأصفر، ولا تخرجون إلى الشمس.
تحبّون اللون الأخضر، ولا تخرجون إلى الربيع.
تحبّون اللون الأزرق، ولا تركبون البحار.
تحبون اللون الأحمر، ولا تحتفلون مع الشقائق.
تحبّون اللون الأبيض، ولا ترتدونه.
تتكلمون عن الهدايا، وأيديكم خاوية.
تتكلمون عن الذهب والدنانير، وجيوبكم فارغة.
تتكلمون عن الحبّ، وقلوبكم غليظة.
وتحلمون بالحرية، وأنتم عبيد للعبيد.
أنتم معتادون على التصفيق بعد انتهاء الحروب، فلماذا لا تقرعون طبول معركة صغيرة مرّة؟
أنتم معتادون على الانحناء وتقبيل الأيادي، فلماذا لا تتعلمون أنتصاب القامة وتقبيل الجبين؟
تميلون إلى من يمدحكم، وتغضّون الطرف عمن يسيء إليكم، وأنا فقول لكم:
“قابلوا الإحسان بأحسن منه، وردّوا الإساءة بأسوأ منها”.
تميلون إلى من يهنئكم بمناسباتكم التي لا تحصى، أما أنا فأقول لكم قد حان وقت سؤالكم لأنفسكم: لما الاحتفالات؟ والطبيعة تقوم بعملها على أتمّ وجه.
تميلون إلى الوعظ الساذج، والأقوال الجاهزة، وتبتعدون عمن يحثكم على التفكير.
ترحبون من يعالج آلامكم وقتيا ويعطيكم مخدرا مؤقتا، وتخشون الجراحة واستئصال الداء أبدا.
تتبنون فلسفة القضاء والقدر كنتيجة لمصائبكم، ولا تبحثون عن أسباب تلك المصائب.
أنتم صوت صارخ كالجليد بمقدور أحقر شرطي أن يخرسه. وأنا صمت هادم سأدخل كلّ الزوايا كالماء الذي يتحول سيلا ويجرف كلّ شيء. قد أكون خياليا، ولكنكم لستم بواقعيين. وقد تكون هذه الكلمات قاسية ولكنني لست خائنا، فابحثوا عن الخيانة في دواخلكم واجتثوها أولا.