حكايات العراقيين مع الهجرة والمنافي تطول لدرجة لا يمكن حصرها، وهي ظاهرة ظلت مرتبطة بالتاريخ العراقي الحديث منذ ثلاثينيات القرن الماضي، تتزايد وتخبو مع الحروب والغزوات والانقلابات، والقمع السياسي والعرقي والديني. لكن ان تحدث الآن، ويحتل العراقيون مشهد الصدارة في الأزمة المتفاقمة في ليتوانيا بسبب تدفق المهاجرين إليها، فهذه مسألة يجب التوقف عندها مطولا.
ولطالما خرج العراقيون الى المنافي فيما كانت السياسات والحروب تفرض تحولاتها على حياتهم منذ القرن الماضي، او يلاحق الاضطهاد اقلياته ومكوناته كالكورد والمسيحيين والشيعة واليهود، وقد انتشروا في أنحاء العالم، وصارت لهم حياتهم وعائلاتهم واحفادهم، بل وصارت لهم ثقافتهم الخاصة، وازدهر أدب المنافي العراقي من شعر وفن وصحافة واعلام.
ولا تختلف محاولات العبور الى ليتوانيا على أمل الوصول من خلالها الى بقية الدول الأوروبية، عن موجات الهجرة غير الشرعية التي انخرط فيها عشرات آلاف العراقيين على مر العقود الماضية، مثلما فعلوا في العام 2015 مستغلين الخلاف بين تركيا واليونان، للتدفق باتجاه أوروبا، ولا حتى عن الهجرة التي تتم بطريقة شرعية، اذ ان هدفهما واحد وهو الخروج من العراق -مهما تعددت الاسباب واختلفت- على امل الوصول الى عالم جديد افضل.
ولهذا، فإن في ظاهرة موجة الهجرة الحالية باتجاه ليتوانيا، تتم الآن فيما يفترض ان يكون العراق وطنا طبيعيا وآمنا للبقاء والحياة، وهو ما يبدو انه غير متاح بالنسبة لهم.
وربما بسبب ذلك، تحولت ليتوانيا بالنسبة إليهم فجأة الى نافذة عبور للخروج من العراق. وبدا ان هذه “النافذة” فتحت أمامهم منذ العام الماضي، لكن ظاهرة الهجرة اليها تفاقمت في الاسابيع والشهور الاخيرة لدرجة ان ليتوانيا استنجدت فعليا بالاتحاد الاوروبي لمؤازتها.
فماذا يجري؟
توترت العلاقات بيلاروسيا مع ليتوانيا بسبب موقف الاتحاد الاوروبي من الانتخابات التي شهدتها بيلاروسيا في صيف العام 2020، حيث اعتبر انها لم تكن نزيهة وشكك في شرعية فوز الرئيس الكسندر لوكاشينكو بولاية سادسة بعد حصوله على 80% من الاصوات.
وتتهم ليتوانيا، التي تشترك مع بيلاروسيا في حدود يبلغ طولها نحو 680 كيلومترا، مينسك “بتعمد” السماح للمهاجرين بعبور حدودها. وتشير تقارير الى ان معظم المهاجرين الذي وصلوا الى ليتوانيا قد طلبوا بالفعل اللجوء، بينهم مواطنون من العراق وأفغانستان والكاميرون وسوريا. ويبدو ان المشكلة الاضافية القائمة ان هؤلاء المهاجرين يتخلصون من جوازات سفرهم واوراقهم الثبوتية من هويات وغيرها، لمنع السلطات الليتوانية من اعادة تسفيرهم الى بلادهم الاصلية.
وبطبيعة الحال، ترفض بيلاروسيا اعادة استقبال هؤلاء المهاجرين الذي انطلقوا من اراضيها، ويبدو ان بيلاروسيا تتحرك بدافع انتقامي بعد العقوبات التي فرضها الاتحاد الاوروبي على بلاده. ولهذا، فان التهمة الليتوانية-الاوروبية الموجهة الان الى الرئيس لوكاشينكو انه يستخدم المهاجرين كسلاح بسبب اعلانه انه لن يمنع المهاجرين من عبور الحدود مع الاتحاد الاوروبي، لأن مينسك لم تعد تملك المال ولا القوة لذلك بسبب العقوبات الغربية، على حد قوله.
ويبدو ان العراقيين هم الشريحة الاكبر من المستفيدين من هذه الثغرة الخلافية بين بيلاروسيا وليتوانيا، والعديد منهم لا يحملون جوازات سفر بحسب ما يؤكد مسؤولون ليتوانيون اشتكوا قبل ايام على سبيل المثال من انهم احتجزوا 171 شخصا، جميعهم من العراق، أثناء محاولتهم العبور بشكل غير قانوني من بيلاروسيا، وهو أكبر عدد يتم احتجازه على الحدود خلال يوم واحد في العام 2021. وفي يوم آخر اعلن الليتوانيون احتجاز 287 مهاجرا في يوم واحد وهو ما رفع العدد الاجمالي للمهاجرين المحتجزين حتى الان هذا العام الى نحو 3832 شخصا.
وفي ظل هذا الواقع، أعلن ليتوانيا في 2 تموز/تموز 2021، فرض حالة الطوارئ على خلفية تدفق المهاجرين.
وبرغم اتلاف جوازات سفرهم ووثائق هوياتهم، قالت وزيرة الداخلية الليتوانية أجني بيلوتيتو خلال زيارة الى معبر حدودي “هدفنا الرئيسي وواجبنا هو إعادة هؤلاء الأشخاص إلى بلدانهم الأصلية في أسرع وقت ممكن وأن السبيل الوحيد لذلك هو بايوائهم على وجه السرعة في مراكز بحيث يمكن بدء عملية مراجعة طلبات لجوئهم”.
وكانت قناة “يورونيوز” الاوروبية ذكرت في الاسبوع الماضي ان السلطات الليتوانية تعتقد ان غالبية الذين حاولوا دخول ليتوانيا يسافرون الى العاصمة البيلاروسية مينسك، في واحدة من اربع رحلات جوية اسبوعية من العراق تقل ما يصل الى 500 راكب على طائرات “بوينغ 747”.
وفي محاولة لاحتواء الموقف، قام وزير خارجية ليتوانيا غابريليوس لاندسبيرغيس بزيارة الى بغداد الشهر الماضي، لاجراء محادثات مع المسؤولين العراقيين.
اما الرئاسة الليتوانية فقد وجهت رسالة الى الاتحاد الاوروبي طالبة المساعدة على مبدأ ان “حماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي مسؤولية مشتركة لجميع الدول الأعضاء”.
وهناك مؤشرات على ان الملف ستأخذ منحى جديدا اذ قال مسؤول في منظمة الهجرة الدولية ان السلطات الليتوانية مستعدة لعرض مبالغ مالية على المهاجرين “غير الشرعيين” من آسيا وإفريقيا القادمين عبر بيلاروسيا، لإعادتهم إلى بلدانهم.
واوضح مدير مكتب منظمة الهجرة في ليتوانيا إيتفيداس بينغياليس في حديث للإذاعة اللتوانية، إن “الحجم الدقيق للمدفوعات لم يحدد بعد، لكنها لن تقدم على شكل نقود في أي حال”، مشيرا الى ان الأموال ستخصص كتعويضات عن نفقات العودة إلى البلد الذي غادره المهاجر وترتيب أموره هناك، مضيفا أنها “قد تكون كتعويضات عن استئجار المساكن والتعليم المهني أو الدعم المالي لإطلاق مشروع عمل”.
واشار بينغياليس إلى أنه في كثير من الحالات يبيع المهاجرون المتجهون إلى الاتحاد الأوروبي مساكنهم في بلدهم الاصلي من أجل دفع مبالغ قد تصل إلى 10 آلاف يورو، للاشخاص الذين ينظمون هجرتهم غير الشرعية، ولا يمتلكون منازل يعودوا إليها.
وبكل الاحوال، فان رئاستي الجمهورية والحكومة في ليتوانيا خاطبتا الاتحاد الاوروبي للتحذير من الوضع الصعب، وطلب المساعدة على شكل معدات لحماية ومراقبة حدودها مع الجارة بيلاروسيا، واكدتا في الرسالة “هذا هجوم هجين واستخدام هجرة غير شرعية برعاية دولة كسلاح”.
واعتبرت الرسالة ان موقف بيلاروسيا هذا جاء ردا على مساندة الاتحاد الأوروبي للمعارضة الديمقراطية في بيلاروسا والعقوبات الأوروبية ضد القيادة “الديكتاتورية” في مينسك، بحسب تعبيرهما.
اما المفوضة الأوروبية للهجرة والشؤون الداخلية إيلفا يوهانسون فقالت في خطاب موجه إلى وزراء داخلية التكتل الأوروبي إن “الاستغلال غير المقبول للبشر لأغراض سياسية يجب أن يتوقف وان أولويتنا القصوى يجب أن تكون مساعدة ليتوانيا في تأمين حدودها مع بيلاروسا. أدعوكم جميعا إلى الاسهام في هذا الجهد كأولوية”.
واثار تدفق المهاجرين بهذه الاعداد اضطرابا اجتماعيا في ليتوانيا التي اضطرت قواتها الامنية الى مواجهة تظاهرات غاضبة الاسبوع الماضي، احتجاجا على اقامة مخيمات للمهاجرين لايوائهم. كما جرى تجمع احتجاجي أمام مقر الحكومة في فيلنيوس للتعبير عن للتنديد بخطط إيواء المهاجرين في إقليم ديفينيسكيس الحدودي.