ألم أسمع يوماً في تاريخ الدولة العراقية منذ عام 1921 حتى يوم الجمعة المصادف 06/08/2021 بأن أيا من كبار قضاة العراق قد قام بزيارة لتهنئة ملك أو رئيس جمهورية أو أمير في أي من دول العالم لتسلم منصبه الجديد. ولم أسمع بأن أي من رؤساء أجهزة القضاء في جميع دول العالم قد قام بمثل هذه الزيارة والتهنئة بتسلم ملكٍ أو أميرٍ أو رئيس جمهوريةٍ منصبه الجديد . ولكن ، من الممكن أن يقوم رؤساء ومسؤولو القضاء في أي من دول العالم بزيارة أقرانهم في الدول الأخرى للتباحث في قضايا القضاء وتبادل الخبر والتجارب او حتى التهنئة ، كما يمكن أن يتبادل القضاة التهاني عند تسلمهم مهماتهم الجددة ، ولكن كمن غير المعتاد أن يرسل رؤساء أجهزة القضاء التهاني لرئيس دولة أو ملٍ أو أمير قد تسلم منصبه الجديد .
بسبب معرفتي بهذا البروتوكول الدولي المعمول به، فوجئت حقاً بالصورة التي نشرت في الصحافة العراقية ونقلتها وسائل الإعلام التي تظهر رئيس مجلس القضاء الأعلى السيد فائق زيدان يجلس قبالة إبراهيم رئيسي ليهنئه بتسنمه رئاسة الجمهورية باعتباره رئيساً لوفد عراقي يشارك في احتفال إداء اليمين الدستوري لإبراهيم رئيسي.
لم يكن اختيار رئيس مجلس القضاء الأعلى ليترأس الوفد العراقي قراراً خاطئاً ومضراً ، إذ كان الأجدر أن يقوم رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس النواب أو أي وزير في وزارة الكاظمي بهذه المهمة بدلاً من أن يقوم القاضي الأول في العراق بهذه المهمة ، في وقت يحتم عليه منصبه أن يكون بعيداً عن أي من هذه الأدوار التي تمارسها السلطة التنفيذية . لقد ضاعت ، كما يبدو لي ،المعايير والقيم وقواعد العمل الدبلوماسية الدولية في العراق ، حتى أدى بالمسؤولين إلى السعي لمزيد من الإساءة للقضاء العراقي بالموافقة على ترأس رئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي الوفد العراقي المكلف بتهنئة شخصية سياسية إيرانية متهمة من دول كثيرة في المجتمع الدولي ،ومن منظمات دولية عاملة في مجال حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية ، وكذلك من المعارضة الإيرانية ، بإصداره أحكاماً بالموت على المئات من المناضلين الإيرانيين اليساريين والديمقراطيين ، وبالسجن لآماد طويلة على الآلاف من الإيرانيين المناضلين في سبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في إيران والقابعين في سجن أيفين وسجون كثيرة أخرى ، حين كان يتنقل إبراهيم رئيسي بين مهمات تسند إليه من علي خامنئي مباشرة على وفق ما جاء في تقرير لموقع دويتشة فيله وعشرات المواقع الأخرى والمجلات والصحف العالمية ، إذ ورد ما يلي: “أمضى رجل الدين الشيعي ذو العمامة السوداء، قرابة ثلاثة عقود في هيكلية السلطة القضائية للجمهورية الإسلامية، متنقلا بين مناصب عدة منها مدعي عام طهران بين 1989 و1994، ومعاون رئيس السلطة القضائية اعتبارا من 2004 حتى 2014 حين تم تعيينه مدعيا عاما للبلاد...” ، وأخيراً : “في 2016 ، أوكل إليه المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي مهمة سادن “العتبة الرضوية المقدسة” في مدينة مشهد، وعيّنه بعد ثلاثة أعوام على رأس السلطة القضائية، أحد الأركان الأساسية للنظام السياسي.”. (أنظر: من يكون الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي؟ رجل دين محافظ ومتشدد، قاض متهم بالتورط في إعدامات ليساريين، دويتشة فيلة ، 19/06/2021) . وجاء في تقرير أخر عن السلوك الجائر في أحكام إبراهيم رئيسي ما يلي:
“وطوال عقود ظل إبراهيم رئيسي عنصرا أساسيا في النظام القضائي الإيراني، وتولى منصب المدعي العام في العاصمة في الثمانينيات ولم يكن عمره يتجاوز 29 عاما. وكان جزءا مما يعرف بـ”لجنة الموت” التي اضطلع بمهمة إعدام آلاف المعتقلين من اليساريين والماركسيين في عام 1988، بتهمة الانتماء إلى تنظيم “مجاهدي خلق”.. (أنظر: إبراهيم رئيسي .. من هو رئيس إيران الجديد؟ ، سكاي نيوز ، 19/06/2021). ويشار إلى أن عدد الذين تم إعدامهم على أيدي نائب المدعي العام حينذاك إبراهيم رئيسي بلغ 30 ألف مناضل من فدائيي خلق وحزب تود ويساريين آخرين . وتجدر الإشارة إلى أن محاكمة تجري اليوم الاثنين 09/08/2021 في ستوكهولم/ السويد “للإيرانيّ حميد نوري، المتّهم بالتورّط في مجازر لتصفية آلاف السجناء السياسيّين في صيف 1988 من أعضاء منظمة “مجاهدي خلق” في إيران . ويقول المدعون ومحاموهم إنّ حميد نوري تمّ تحديده كمساعد للمدعي العام لسجن جوهردشت في كرج، وكان أحد أعضاء “لجنة الإعدام” الثمانية في هذا السجن أثناء الإعدامات الجماعيّة.”. (أنظر: بدء محاكمة قاضٍ إيرانيّ سابق في السويد لتورّطه بـ “مجازر 1988“، موقع اللواء ، 09/08/2021). لا بد من تأكيد حقيقة أن القضاة والمدعين العامين في العراق ممن لا يلاحقون قتلة المتظاهرين والفاسدين الكبار يمكن أن تلاحقهم التهم التي سيوجهها العراقيون العراقيات ضدهم أمام المحكمة الدولية الخاصة بحقوق الإنسان أو محاكم في دول أخرى ، كما في السويد ، في وقت مناسب أمام المحاكم العراقية لمحاسبتهم على عدم التزامهم بالقسم الذي أدوه لصالح الدفاع عن العدالة والدستور في العراق.
لم تختلف المحاكمات التي كان يجريها إبراهيم رئيسيي حين كان قاضياً ، أو مدعياً عاماً ، عن المحاكمات التي كان يجريها حكام محاكم “الثورة!” الذين نصبهم الدكتاتور صدام حسين على رأس تلك المحاكم ليصدروا أحكاماً بالموت أو السجن المديد لمجرد كونهم يحملون فكراً أو رأياً آخر ، كما لم تختلف عن بعض المحاكمات العراقية في العهد الملكي حين كانت تصدر أحكاماً قرقوشية بالجملة ضد المنتفضين والمناضلين في سبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الشعب المغتصبة. لقد كان الرئيس الجديد جزاراً كبيراً ، على وفق ما جاء في الاتهامات الموجهة له منظمات حقوقية وقوى سياسية معارضة في إيران.
لقد وجه حكام العراق إساءة جديدة للقضاء العراقي إضافة إلى الإساءات المستمرة التي يتعرض لها القضاء العراقي أو يمارسها القضاء ذاته ، بابتعاده عن ملاحقة قضايا الفساد الكبرى الموجودة في أدراج مجلس الوزراء ، على حد تعبير نوري المالكي حين كان ما يزال على رأس السلطة التنفيذية ، إذ قال : ” لديّ ملفات للفساد لو كشفتها لأنقلب عاليها سافلها.” .(أنظر: أ. د. قاسم يبن صالح، الفساد السياسي في العراق، جريدة المدى ، العدد 4017، في 14/09/2017). لقد كان على مجلس القضاء الأعلى والادعاء العراقيي ملاحقة نوري المالكي ومطالبته بالملفات أو محاسبته على أقواله!!!
وبسبب ابتعاد وسكوت القضاء كلية عن مثل هذه القضايا الأساسية التي ترتبط بالقيم والمعايير الأخلاقية والاجتماعية والدستور العراقي ، ولأي سبب كان ، طالب كثير من السياسيين العراقيين والقوى المناضلة بتشكيل فرق من محققين دوليين معترف لهم بالكفاءة والمهنية العالية وبدعم من الأمم المتحدة ، للكشف عن ملفات الفساد الموجودة في أدراج مجلس الوزراء أو في مواقع وهيئات أخرى . وقد وافق حيدر العبادي رئيس وزراء أسبق على هذا المطلب ، ولكنه خشى من تنفيذه الفعلي على حزبه والبيت الشيعي وعلى نفسه ايضاً ، من إمكانية الكشف عن تلك المفاسد وما ينجم عنها من اهتزاز حقيقي للنظام السياسي الطائفي المحاصصي الذي تلتقي عنده ما يطلق عليها بـ “الرئاسات الثلاث” ، رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ، ورئاسة مجلس النواب ، ورئاسة مجلس القضاء الأعلى في العراق. ليس لمجلس القضاء الأعلى موقع دستوري في هذا المكان ، إذ عليه أن يكون مستقلاً وبعيداً عن التفاعل من السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأن يبقى مستقلاً عنها ومراقباً عليها وعلى القوانين والإجراءات التي تتخذها السلطتين التنفيذية والتشريعية.
لقد أخطأ مجدداً رئيس مجلس القضاء الأعلى ، على وفق تقديري ، بقبوله هذا التكليف بترأس وفد العراق لتهنئة إبراهيم رئيسي المتهم بقضايا جنائية حين كان مسؤولاً عن القضاء وعن الادعاء العام في إيران ، بعد أن أخطأ قبل ذاك بالموافقة على إطلاق سراح قاسم المصلح المتهم باغتيال ، أو يقف وراء اغتيالات وقعت في كربلاء وبغداد وفي مناطق أخرى من العراق . لو كان القضاء العراقي يتمتع بالاستقلالي التي ي فرضها الدستورية لما طالب المنتفضون بتغيير بنية مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية ، ولما طالبوا بإلحاح باستقلال القضاء العراقي..