في تركيا تتصاعد ألسنة اللهب من الغابات التي وصلت إلى اليونان المجاورة، وفي ألمانيا حيث تسبب الفيضانات بدمار كبير، والولايات المتحدة تتحضر لأعاصير مدارية في الوقت الذي تسببت فيه الحرائق في ولايات مثل كاليفورنيا بخسارات غير مسبوقة، وإلى موجات الحر التي تضرب الشرق الأوسط، تبدو الصورة قاتمة، لكن هذا ليس كل شيء.
يقول الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش إن “تقرير مجموعة العمل رقم واحد، للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ يعد بمثابة “إنذار أحمر للبشرية”.
“وضع خطير”
يقول الخبير الدولي في الكوارث الطبيعية وآثار تغير المناخ، بدوي رهبان، إن الوضع خطير إلى درجة أن من يولد في هذا العام على سبيل المثال، ستكون حياته مهددة بالخطر في عام 2050 بشكل أكبر بكثير من الناس الذين يعيشون الآن”.
ويضيف الخبير رهبان، وهو المدير السابق للحد من الكوارث في اليونسكو، لموقع “الحرة” إن “الوضع قاتم للغاية”.
“فات الأوان”
يحذر التقرير الذي صدر في 42 صفحة واستند إلى 14 ألف دراسة علمية، بحسب الخبير رهبان، من أن “الأوان قد فات فعلا” لعكس التأثيرات المناخية، على الأقل في المستقبل القريب، ويقول – باختصار – إن هدف مؤتمر باريس للمناخ، بالسيطرة على الاحترار لن يتحقق، وأن العالم سيصل إلى ارتفاع في درجات الحرارة يصل إلى 1.5 مئوية فوق مستويات العصر الصناعي بحلول عام 2030 -2052 في حال استمرت معدلات الاحترار الحالية، التي تسببت بزيادة الحرارة درجة مئوية واحدة.
ويقول الخبير رهبان إن “الرسائل المهمة في التقرير هي أن الارتفاع في حرارة الكوكب ناتج بشكل أساسي من النشاط البشري، وإن هذا الارتفاع لا سابق له منذ آلاف السنين”.
ومع أن درجة مئوية واحدة ونصف الدرجة قد لا تبدو شيئا كبيرا لغير المتخصصين، إلا أن الوصول إلى هذه المعدلات سيعني، بحسب التقرير “ضياع بعض النظم البيئية”، وفقدان 6 بالمئة من الحشرات، وثمانية بالمئة من النباتات و4 بالمئة من الفقاريات، أما في حال وصل الاحترار إلى درجتين مئويتين، فستكون الخسائر مضاعفة تقريبا.
“أجراس الإنذار”
وتقول خبيرة البيئة والتلوث، ومستشارة الاتحاد الأوربي لبرنامج الأمن الغذائي والتغير المناخي، شادن دياب، إن ” هذه نقطة خطر”، مضيفة لموقع “الحرة” إن “أجراس الإنذار تدق الآن، وأن هذا الارتفاع سيؤدي إلى عواقب وخيمة جدا بيئيا ومناخيا وعالميا، نراها بشكل واضح الآن”.
وأضافت أن “انخفاض درجات الحرارة في أوروبا الآن، في باريس مثلا لا يوجد صيف (هذا العام) مقابل ارتفاع درجات الحرارة في مناطق أخرى مثل الوطن العربي”.
ويقول التقرير إن ارتفاع درجات الحرارة سيؤدي أيضا إلى فيضانات تهدد البشر في المناطق الساحلية، وضياع الصفائح الجليدية في غرينلاند وتأثرها في القطب الجنوبي وبتغييرات مناخية متطرفة تؤدي -بشكل شبه حتمي- إلى كوارث مثل الحرائق وموجات الحرارة الشديدة.
ويلقي التقرير اللوم بشكل لا لبس فيه على النشاطات البشرية الصناعية والزراعية بالتسبب في زيادة الاحترار العالمي عن طريق انبعاثات الغازات الدفيئة، مثل ثاني أوكسيد الكاربون المنتج في الأنشطة الصناعية، والميثان الذي تنتجه الأنشطة الزراعية ونشاطات تربية الحيوانات.
ذوبان الجليد
ويقول الخبير رهبان إن “ذوبان الجليد سيتسبب بانبعاث كميات إضافية من غاز الميثان، الذي يعد أصلا سببا من أسباب الاحتباس الحراري”، ما يعني أن احترار الجو بسبب النشاطات البشرية سيتفاقم، حتى لو توقفت تلك النشاطات.
وينص التقرير الذي حمل عنوان “ملخص لصانعي السياسات” على أن “من الواضح أن التأثير البشري أدى إلى زيادة حرارة الغلاف الجوي والمحيطات والأرض”.
ويقول التقرير إن “احتمالية خلو المحيط القطبي الشمالي من الجليد خلال الصيف ترتفع من مرة واحدة كل 100 عام في حال ارتفعت درجة الحرارة بمقدار 1.5 درجة، إلى مرة كل 10 أعوام في حال ارتفعت إلى درجتين مئويتين”.
وستتقلص الشعاب المرجانية بنسبة 70-90 في المئة في حالة ارتفاع درجات الحرارة درجة ونصف، و99 في المئة في حال ارتفاعها درجتين.
باختصار، يشير التقرير بوضوح كبير إلى أن “مستقبل كوكب الأرض يعتمد، إلى حد كبير، على الخيارات التي تتخذها البشرية اليوم”.
الوقود الأحفوري
وبشكل كبير، يلقي العلماء اللوم على اعتماد المجتمع الحديث على الوقود الأحفوري (النفط والفحم) للحصول على الطاقة إذ يتسبب هذا الاعتماد بـتدفئة العالم بوتيرة لم يسبق لها مثيل “في الأعوام الألفين الماضية”.
ويقول، شيويبين زانغ، عالم المناخ في وزارة البيئة الكندية في تورونتو، أونتاريو، والمؤلف الرئيسي المنسق للتقرير، لموقع Nature “إذا لم نتصرف، فإن الوضع سيسوء حقا بشكل كبير”.
جمع التقرير من أكثر من 200 عالم على مدى عدة سنوات، ووافقت عليه 195 حكومة خلال اجتماع افتراضي الأسبوع الماضي، وقد نشر قبل ثلاثة أشهر من انعقاد القمة العالمية المقبلة للمناخ في المملكة المتحدة.
ويقول الخبير رهبان إن “الدول الصناعية تتحمل المسؤولية الأكبر في هذا الوضع بسبب نشاطاتها الباعثة للغازات الدفيئة”، ويضيف إن هذه الدول كان يفترض أن تتمكن من خفض انبعاثاتها من تلك الغازات بعد قمة باريس للمناخ عام 2015، لكن هذا لم يحصل.
وبحسب رهبان فقد أقر الاتحاد الأوربي قبل فترة سياسة لخفض الانبعاثات من الغازات الدفيئة بمقدار 55 بالمئة حتى عام 2030 مؤكدا “هذه خطوة جيدة، لكنها غير كافية، كنا نتمنى أن يكون الخفض بمقدار 60- 66 بالمئة”.
ويضيف أن “الهند والصين مثلا تستخدمان الوقود الأحفوري والفحم بشكل كبير أيضا، ورغم أنهما اعترفتا بتأثير هذا الوقود على البيئة، لكنهما قالا إنهما غير قادرتين على الاستغناء عنه”.
الحلول
يقول التقرير الذي جمعه أكثر من 200 عالم على مدى عدة سنوات ووافقت عليه 195 حكومة خلال اجتماع افتراضي الأسبوع الماضي إنه يلزم أن تصل الانبعاثات العالمية إلى الصفر بحلول عام 2050 حتى يمكن للعالم أن يحقق الهدف المنصوص عليه في اتفاق باريس لعام 2015 ويحد من الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.
ويعني إيصال الانبعاثات إلى صفر، بحسب الخبير رهبان، أن تتوقف كل الأنشطة الباعثة للغازات الدفيئة، مثل الأنشطة المعتمدة على الوقود الأحفوري والاستعاضة عنها بمصادر بديلة توفر الطاقة النظيفة، وأن يتم سحب تلك الغازات من الجو بواسطة زراعة مزيد من الأشجار، لسحب غازات ثاني أوكسيد الكاربون المنتجة طبيعيا، والاعتماد على التكنولوجيا “المكلفة، ولكن الممكنة” لسحب الغازات الأخرى من الجو.
بمعنى آخر، يجب على البشر، الذين يقومون الآن بإحراق ملايين الأطنان يوميا من النفط والفحم، لا أن يوقفوا هذا الحرق فحسب، وإنما أيضا أن يفكروا بطريقة لسحب حتى ثاني أوكسيد الكاربون الذي ينتج عن تنفسهم، من الجو.
لكن في حال بقي البشر على عاداتهم هذه بدون تغيير، فإن من المتوقع أن يرتفع متوسط درجات الحرارة العالمية بمقدار 2.1 إلى 3.5 درجة مئوية.
وإذا كانت 1.5 مئوية تحمل آثارا مدمرة، فيمكن تخيل ما سيعني ارتفاع حرارة المناخ لثلاث درجات.
ويقول موقع Nature العلمي إنه “إذا كان السؤال عن ما إذا كان من الممكن الحد من الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية؟ الجواب هو نعم”، لكنه ينقل عن، مايسا روخاس، المشاركة في تأليف التقرير ومديرة مركز أبحاث المناخ والمرونة في جامعة تشيلي في سانتياغو قولها إنه “ما لم يتم إجراء تخفيضات فورية وسريعة واسعة النطاق لجميع غازات الاحتباس الحراري، فإن الحد من الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية سيكون بعيد المنال”.
وذكر التقرير ان تأثير الاحترار العالمي على أشياء مثل الأنهار الجليدية والصفائح الجليدية والمحيطات التى تتكيف ببطء مع ارتفاع درجات الحرارة سيظل محسوسا لقرون او حتى الاف السنين.
ومن المتوقع أن يرتفع مستوى سطح البحر في جميع أنحاء العالم بمقدار مترين إلى ثلاثة أمتار على مدى الأعوام القادمة، حتى لو تم كبح درجات الحرارة عند 1.5 درجة مئوية من الاحترار، وما يصل إلى 6 أمتار مع ارتفاع درجة حرارة درجتين مئويتين، مما سيغير حياة الملايين من الناس الذين يسكنون على السواحل.
ويحذر التقرير من أن بعض أشد آثار الاحترار المناخي – مثل انهيار الغطاء الجليدي، أو فقدان الغابات على نطاق واسع، أو التغير المفاجئ في دوران المحيطات – لا يمكن استبعاده، ولا سيما في السيناريوهات التي تحدث فيها انبعاثات عالية واحترار كبير قرب نهاية القرن.
هل انتهى كل شيء؟
الجواب هو لا، بحسب الخبراء، لكن على العالم أن يتصرف الآن.
كما إن خبراء مثل رهبان يقولون إن على العالم أن يبدأ بالتكيف مع الآثار الدائمة للتغير المناخي من خلال نقل السكان المهددين بالفيضانات إلى مناطق أخرى على سبيل المثال، وتدابير متنوعة أخرى.
ورغم أن الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ ظل يحذر من مخاطر الاحتباس الحراري العالمي على مدى ثلاثة عقود، فإن الحكومات لم تتخذ بعد هذا النوع من الإجراءات اللازمة للانتقال إلى مصادر الطاقة النظيفة ووقف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
وتقول الخبيرة، ومستشارة الاتحاد الأوربي، شادن دياب إن “المشكلة أن هناك الكثير من الكلام، والكثير من السياسات والوعود التي تقوم بها البلدان الكبرى، ولكن لا شيء يحصل على أرض الواقع”.
وتضيف دياب “الاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة منخفض جدا”، مؤكدة “هناك واجب أخلاقي لحماية المناخ”.
وتبدو دياب متشائمة إذ أنها تقول “حينما تحصل الحرائق والكوارث ينتبه العالم لكن حينما تنتهي ينسى العالم ماحدث”.
كما أن هناك أملا بتطور العلم إلى درجة يجعل من الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة أكثر مردودا اقتصاديا، وأملا بتطوير تكنولوجيا تساعد على سحب الغازات الضارة من الجو بكلف منخفضة.
ويقول الخبير رهبان إن “فيروس كورونا دفع العالم لكثير من التضحيات، فيما لم يضح العالم حتى الآن بأي شيء من أجل المناخ”.
بمعنى آخر، يقول كتاب التقرير إن “المستقبل بين أيدينا” بشكل حرفي.