سوريا في وضعها الحالي، بواقعها الديمغرافي والسياسي والعسكري المعقد، مقسمة أو تتجه نحو التقسيم، وليست فقط نحو الكونفدرالية، وكل القوى الإقليمية قبل الدولية ترفض الاتجاهين، وبالمقابل يعيقون الحلول المناسبة للمجتمع السوري، لتضارب مصالحهم، علما أن أغلبهم بدأوا يطمحون إلى الأسلوب السلمي المخالف لطريقة روسيا والسلطة، والقائمة على الحسم العسكري، خاصة بعدما هدأت الأوضاع نسبيا، وقل القتل الجماعي للمدنيين، وأصبحت أمريكا تحذر السلطة السورية مباشرة، وبلهجة التهديد في حال استخدامها الأسلحة الكيميائية، والتي هي في الواقع رسائل مبطنة لروسيا، لجرها إلى حوار من أجل تثبيت حضورها في شرقي الفرات (الجزء الشرقي من جنوب غربي كردستان) إلى جانب الرفض الأوروبي لأساليب التعامل الروسية-السلطة مع المنظمات المسلحة في منطقة إدلب بشكل خاص، خوفا من موجات الهجرة. وفي الطرف الأخر حيث القوى الإقليمية المرتعبة، وخاصة المقتسمة لكردستان، من أن تنتقل عدوى التقسيم أو الكونفدرالية أو حتى الفيدرالية إلى أراضيها.
لتلك ولغيرها من الأسباب الداخلية تتحرك كل القوى المذكورة سابقا، لإيجاد حل لإشكالية إدلب، وخلال الفترة القريبة القادمة قبل أن تنتهي المهلة المحددة، أي قبل أن تعود روسيا إلى استخدام أساليبها المفضلة في التعامل مع المعارضة الإسلامية المسلحة، وإخراج التكفيريين من منطقة إدلب وشمال حماة وغربي حلب وغيرها من المناطق، حتى تلك التي تقبع تحت الحماية التركية، بشكل أو أخر، وأغلبهم يبحثون في حلها بالطرق السلمية، ليس عطفا على المجتمع السوري في منطقة إدلب، بقدر ما هو حفاظ على أمنها ومصالحها.
فالمنظمات المسلحة المدرجة على قائمة الإرهاب الروسي، والتي خرجت من إطار المعارضة السورية وتحولت إلى قوى مرتزقة بكل ما تحتوي الكلمة من معاني، والتي تقدم خدماتها لتركيا أو لغيرها من القوى والأنظمة الإقليمية، ولعمق انحرافاتها عن أهدافها، ولكثرة ما تم التلاعب بها وبقياداتها، لم تعد تهمها أماكن وجودها، ستقاتل حسب رغبات أسيادها من القوى الإقليمية، في إي مكان يحلون فيه أو يرسلون إليه، وضد أي مجتمع أو قوة أو هدف يحدد لهم، وقد شاهدنا ولا زلنا نرى وهي تقاتل بعضها البعض، منتحلة أسم الشعب السوري، والشعب براء منهم. ولقدرة القوى الدولية في تحريفهم حسب متطلباتها، تستخدمهم بالتكتيك الذي سيرضي مصالح الكل في سوريا، وخاصة الأوروبية في الآونة الأخيرة، إلا مصلحة الشعوب السورية.
ومخطط إخراجهم وبرفقة الجيش التركي من إدلب خطير بالنسبة للكرد عامة، ولأهلنا في عفرين بشكل خاص، فأعداد المنظمات المسلحة وانتماءاتهم، تتجاوز قدرة المنطقة جغرافيا، كما وأنها لن تستوعبهم حتى مع المحيطة بها، وفي حال تم حشرهم ضمنها سيخلقون في المستقبل القريب مشاكل كارثية لتركيا، وعلى المدى البعيد سيصبحون عالة مستدامة، فكثرة المسلحين غير النظامين ودون قيود ومبادئ مستندين عليها، سيتحولون إلى أدوات بيد ملوك وتجار الحروب، خاصة عندما ستضطر تركيا في مراحل تطبيع المنطقة مع جغرافيتها، وتحت غطاء تقديم المساعدات، على فتح حدودها أمامهم ولقادتهم الذين جلهم أصبحوا يعيشون على الارتزاق والإجرام، وهي المرحلة الأخطر لتركيا.
لا بد من البديل عن إدلب، وعن منطقة عفرين، وإبعاد الحلول العسكرية هناك، لذلك، واستنادا على تصريحات أردوغان المتتالية حول الهجوم على الجزء الشرقي من جنوب غربي كردستان (المدرجة ضمن حملات الدعاية الذاتية للانتخابات المحلية التركية القادمة) يتم التداول والحوار حول جزء من منطقة شرقي الفرات، كمرحلة أولية، للتخلص منهم ليس فقط في إدلب، بل ولاحقا حتى فيما إذا تم نقلهم إلى عفرين وشرقي الفرات. وعلى الأغلب تم إدراج مخطط توجيههم إلى المنطقة الكردية من قبل تركيا، في القمة الرباعية الأخيرة بين روسيا وفرنسا وألمانيا وتركيا في إستانبول، لغايتين: الأول التخلص من القوى الكردية وبعدها سيتم تناول قضيتهم بما تتلاءم ومصالح تركيا. والثانية التخلص من الفصائل الإرهابية التكفيرية الرئيسة، ولا يستبعد أن تدفع تركيا بالمعارضة المسلحة الموجودة في جرابلس والباب نحو شرقي الفرات وتحل القادمة من إدلب مكانهم، كهيئة تحرير الشام وغيرها، لخلط الأوراق، وتصعيد الخلافات بينهم لإنهاء بعضهم، إلى جانب إجرام السلطة وروسيا التي ستظل تراقبهم بشكل دائم، وإذا تم الحفاظ على بعضها ستكون تحت رحمة تركيا وستقبل شروط التفاوض مع السلطة، لتحل نفسها.
وعلى الأغلب أنه تم إعلام الإدارة الأمريكية بها، رغم صمتها دبلوماسيا وإعلاميا، وهذا ما يستشف من خلال بيان المركز الإعلامي للرئاسة التركية المنشورة حول المخابرة التي جرت بين ترمب وأردوغان في الأول من هذا الشهر، علما أن نص البيان لا يتطرق إلى قضية شرق الفرات، ويحصرها في قضيتي إدلب ومنبج، ولكن ومن خلال مراقبة ما يجري من حوارات، نستطيع أن نرجح أنه تم الحديث عن شرقي الفرات، ولربما، لتضارب في المواقف لم يتم ذكرها في البيان، مع ذلك ورغم الاعتداءات التركية العسكرية على المنطقة المحمية من قبل قواتهم، لا يزال الموقف الأمريكي غامضا، وأننا، واستنتاجا لمجريات الأحداث، لا نستبعد الاحتمالين من قبل الإدارة الأمريكية مع حليف استراتيجي لها في الناتو رغم الخلافات:
الأول، التغاضي عن دخول الجيش التركي لمسافة محددة، وبرفقة الفصائل المرتزقة، وعلى رأسهم هيئة تحرير الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، أو المسماة بالجيش الحر المتواجد في جرابلس والباب، والأخير هو المرجح. أو حتى الرفض المبطن بخدعة عسكرية ودبلوماسية، كأن تظهر للقوات الكردية، دون الإعلام الاعتراض على الاجتياح التركي (فيما إذا تم، لأننا لا نزال نشك في تحقيق العملية) وتدعم قوات قسد بكميات أكثر من الأسلحة وحتى الثقيلة منها، ولكن على الأرجح ستبقى نوعية السلاح دون مستوى إيقاف الاجتياح التركي. وفي كلتا الحالتين سنصبح نحن الكرد ضحية مؤامرة دولية، والتي ستسندها جهالة حراكنا السياسي وعدم توافقهم.
والثاني، تلغي التوقعات السابقة، وسيكون موقفا مهما لصالح القوة الكردية، وذلك فيما إذا وجد الأمريكيون مصالحهم، ومصالح دول حليفة لها في المنطقة، كإسرائيل، متوافقة مع الحفاظ على شرقي الفرات كجغرافية متكاملة، وتحت حمايتهم، كمخطط للحد من التحركات الإيرانية في المنطقة، وستتوضح هذا فيما إذا أظهر الأمريكيون موقفهم بتهديد دبلوماسي، علني أو سري، لتركيا، مثلما فعلتها أثناء تقدم السلطة نحو منطقة إدلب.
الخطة في طرحها المبدئي بسيطة وسلمية بالنسبة للمدنيين في منطقة إدلب، رغم عودة السلطة الإجرامية، لكنها كارثية بالنسبة للشعب الكردي والعربي معا في عفرين وشرقي الفرات. وهي، وعلى الأغلب، بالنسبة للمنظمات المرتزقة والمعارضة السورية المسلحة، المشهد الأخير في مسلسل القضاء عليها، وبالتالي، فيما إذا طبق المخطط، ستصبح جنوب غربي كردستان مقبرة للقوى المعارضة المسلحة العربية، وربما للقوة الكردية أيضا، وهي معقدة وخطيرة، وتدرس ضمن الأروقة الدبلوماسية الدولية وبتحفيز تركي، تحتاج إلى توافقات بين القوى المتنافسة على سوريا، والتي تتعارض ومصالح بعض الدول، وعلى أثرها تنطلق منها رسائل نحو كل الأطراف، وباتجاهات متعاكسة، ولكل من له علاقة بشرق الفرات، المدافعون عنها والمهاجمون عليها، وعلى رأسهم أمريكا وروسيا.
فمثلما القضية السورية استنزفت طاقات العديد من الحكومات والأنظمة والمنظمات العالمية، وخلقت بدايات انهيار دول إقليمية، حتى تلك المبدية على الإعلام انتصاراتها، كتركيا وإيران، كذلك جنوب غربي كردستان بشقيها، شرق الفرات، ومنطقة عفرين، أصبحا أو سيتحولان إلى منصة للعديد من القرابين، كهيئة تحرير الشام، والمنظمات التكفيرية الأخرى والتي تدرجها روسيا ضمن قائمة الإرهاب، ولن تقف على هؤلاء، بل المتوقع أن تكون منطقة عفرين وكارثتها مع إشكاليات شرقي الفرات ساحة لمحاكمات دولية لحكومة أردوغان، وتجاوزاته العسكرية، ربما تحت بند الاعتداء على حرمة الدول المجاورة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
2/11/2018م