الجمعة, نوفمبر 29, 2024
Homeمقالاتكاظم حبيب : خلوة مع النفس بصوت مسموع

كاظم حبيب : خلوة مع النفس بصوت مسموع

كاظم حبيب

خلوة مع النفس بصوت مسموع

في اليوم العالمي 21/08/ لإحياء الذكرى السنوية 

لضحايا الإرهاب في العالم ، وكذا العراق .. 

 

حين يخلو الإنسان إلى نفسه بعد نهار مرهق سببته الأخبار الموحشة الواردة من بقاع الدنيا كافة.. فهنا حريق أتى على غابات ودور سكن حولَّها بين ليلة وضحاها إلى أرض يباب وبلا بشر ، مات بعضهم وهجول البعض الأخر بلا مأوى .. ، وهناك حريق آخر صنعته يد إنسان شرير وليس بسبب شدة الحرارة وتغير المناخ عالمياً ، بل من مضاربي العقارات ، رغم أن تغير المناخ هو الآخر من صنع البشر .. . هنا فيضان يغرق المدن والحقول ويجرف معه العربات وبيوت الفقراء والمعدمين ، وهاك زلزال يهز المدن ويحولها إلى خرائب وموتى ، كما في هايتي مثلاً .. . هنا حرب بالوكالة وأخرى أهلية تأتيان على الأخضر واليابس ، تقتلان مباشرة من ليست له ناقة ولا جمل في هذه الحرب أو تلك .. هناك معتقلون يعذبون يومياً ويموتون تحت أيدي جلادي وجلاوزة نظم استبدادية سادية مريضة ، وهناك مختطفون عذبوا وغيبوا في دهاليز النظم المستبدة والثيوقراطية ، أو قتلوا ودفنوا في قبور فردية وجماعية لا يعرف مكانها إلا من اقتنصهم وأجرم بحقهم .. هناك الملايين من الفقراء والمحرومين الجياع يموتون أيضاً بسبب تخمة شديدة يعاني منها أصحاب رؤوس الأموال من ناهبي أجور العمال والأغنياء من سارقي اللقمة من افواه الجياع .. ، هنا وهناك مرضى فقراء يموتون بسبب نقص الدواء أو عدم الحصول على لقاح ضد وباء كورونا ، وهناك فاسدون فاسقون يملؤون حساباتهم وجيوبهم بالمال الحرام ويقفون بلا حياء في طوابير المصلين  ويحمدن إلهم الدولار الأخضر .. . هنا وهناك من يشتري من العائلات الفقيرة والمعوز أعضاء من أجسادهم لقاء لقمة العيش لهم أو لعائلاتهم ، أو حتى قطع أعضاء من أجسام من يُختطفون من صبيان وصبابا ثم يُقتلون ويُدفنون دون أن يسأل عنهم سائل .. وهناك تجار المخدرات وتجار السلاح وتجار العهر النسائي والذكوري الفاحشين .. وهنا وهناك قبل هذا وذاك ذلك الاستغلال البشع والمتفاقم الذي تسلطه الدول الرأسمالية الأكثر تقدماً وجشعاً وعدوانية ضد شعوب البلدان النامية .. وهناك من يسعى إلى نشر “الفوضى الخلاقة!” في منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا ، تماماً كما وعدت به كونداليزا رايس ، وزيرة خارجية المهووس جورج دبليو بوش ، ليفرض إرادته واستراتيجيه الاستعمارية على شعوب هذه البلدان . وقد ارتسمت نتائج هذه الفوضى الخلاقة بالحروب المشتعلة في المنطقة وتلك التي يمكن أن تشتعل أيضاً في دول أخرى ما تزال أحداثها وصراعاتها تتفاعل على ساحاتها السياسية !! نحن نعيش اليوم أحداث أفغانستان التي بدأت بحرب قذرة في عام 2001 ، كان يمكن تجنبها ومعاقبة مجرمي القاعدة بطريقة أخرى ، أولئك الذين هاجموا الولايات المتحدة في 11 سبتمبر/أيلول 2001. بعد عشرن عاماً من حرب مدمرة وخسائر بشرية هائلة عقد اتفاق انسحاب القوات الأمريكية مستسلمة أمام قوى دينية سياسية متطرفة وتكفيرية لا تعود لهذا القرن والعصر ، بل هي قادمة من ماضٍ سحيق ، من أهل اللحى والكهوف والخرافات ! عادت لتمارس ذات السياسات بحق الإنسان ، لاسيما ضد المرأة في أفغانستان وتنشر الإرهاب عبر جماعات مماثلة في مناطق أخرى من العالم .. إنها الكارثة المحدقة التي ينبغي على العالم إنقاذ الشعب الأفغاني وحمايته من قسوة ورجس وفساد عصابات طالبان التي تجد الدعم والتأييد من نظم سياسية أشد كراهية للإنسان وأكثر قسوة عليه ، من دولة تركية تتطلع لأن تكون امبراطورية عثمانية جديدة ، ودولة قطر الصغيرة المالكة للنفط والغاز والمال ، وكلاهما تعملان بوحي وأيديولوجية الإخوان المسلمين ، وكلاهما تجدان الدعم والإسناد من الولايات المتحدة الأمريكية ودول حلف شمال الأطلسي !   

وماذا يجري في بلادي ، بلاد ما بين النهرين ، بلاد الرافدين دجلة والفرات ، دار السلام ، العراق ؟ ماذا يحدث في هذا البلد المستباح الذي لم يعيد آمناً ؟ العراق الراهن يعيش المأساة والمهزلة في آن واحد ، يعاني الإنسان ، رجلاً وامرأة ، من كل تلك الجرائم والكوارث المذكورة في أعلاه ، ومن كل الموبقات التي يمكن أن يمارسها جزء من بني البشر .. بل حتى أسماك الأنهار لم تنج من عمل الإرهابيين والولائيين الراغبين في استمرار استيراد الأسماك من إيران على حساب قوت الشعب ورزق الصيادين !! في بلادي يموت الناس بالمفرد والجملة على أيدي الإرهابيين الداعشيين والميليشيات الطائفية المسلحة ، كما يموت آخرون بسبب انتشار وباء كورونا ، بسبب التخلف والجهل والتجهيل الذي ينشره كثرة من أصحاب العمائم الذين قال عنهم محمد صالح بحر العلوم قبل ثمانية عقود:

ليتني أسطيع بعث الوعي في بعض الجماجم     لأريح البشر المخدوع من شر البهائم    وأصون الدين عما ينطوي تحت العمائم    من مآسي تقتل الحق وتبكي     أين حق ؟   

يا ذئاباً فتكت بالناس ألاف القرون    أتركيني أنا والدين فما أنت وديني     أمن الله قد استحصلت صكاً في شؤوني      وكتاب الله في الجامع يشكو     أين حقي ؟ 

وفتاة ما لها غير غبار الريح سترا     تخدم الحي ولا تملك من دنياها شبرا    وتود الموت كي تملك بعد الموت قبرا  وإذا الحفار فوق القبر يدعو    أين حقي ؟      

أئمة جوامع وحسينيات ، سحرة ودجالون ، خرافيون وأفاكون وفاسقون قادمون من قرون بعيدة شبيهة بالقرون الوسطى الأوروبية ، بعثيون “توابون!” كذابون يعيثون فساداً وإفساداً في صفوف الأحزاب الإسلامية السياسية ويعملون في قيادات الميليشيات الطائفية المسلحة ويمارسون السرقة والقتل باسم الدين ، فصحت عليهم أهزوجة الشارع العراقي “باسم الدين باگونة الحرامية”!! في بلادي يُقتل المفكرون والمثقفون والعلماء والمهندسون والأدباء والوطنيون … يُقتل الأطباء لأن الدولة أو أصحاب التوظيفات المالية في المستشفيات الخاصة لا يوفرون ما ينبغي أن يتوفر في المستشفيات من تجهيزات وصيانة وحماية وأدوية … إلخ ، فيُغضِب ذلك عائلات المرضى من موت ذويهم ويكون الثأر المتعسف والأحمق والأجهل ضد الأطباء .. . في بلادي مات الملايين من البشر خلال الستين سنة المنصرمة بسبب رثاثة الفكر القومي الشوفيني والديني الطائفي الرجعي والسياسة والثقافة المتخلفة ، بسبب الاستبداد والحروب والحصار والفساد والدجل ، بسبب الفقر والتخلف والوعي الزائف .. 

في هذه الخلوة القاسية ارتفع صوت شجي لصديقي ورفيقي الفقيد فؤاد سالم يشكو دهره : “دگيت بابك يا وطن وأنا غريب ببابك .. بس گلبي يسمع دگتك.. أرضى يذلني اعتابك .. خايف لا العمر يگضی .. وخوفي ما نوصل وطنا .. ولو وصلنا هناك خايف نلگه خلصانه أهلنا ..”! حين غرَّد هذه الأغنية المرهفة والحزينة في مدينة ديترويت ، كنت حاضراً في هذا الحفل الواسع حضره ما زيد عن 700 عراقية وعراقي ، سالت فيه الدموع وهم يستمعون إلى كلمات الأغنية واللحن الحزين والصوت الشجي ، فتذكرت لقائي به في خريف عام 1978 حين اشتكى لي “هاي ليش الدنيا هيجي ويّانه رفيق أبو سامر ، “وين ما نروح بگبورنه عظام !!”. كان فؤاد سالم يستعد لمغادرة العراق إلى الغربة بموافقة حزبه الشيوعي ، لم يعد بعدها للعراق إلا في زيارة نادرة إلى أربيل بدعوة للمشاركة في واحد من مهرجانات المدى الثقافية الرائعة ، حيث التقيته هناك أيضا . في مقر الحزب المركزي ببغداد بلغته في حينها بموافقة الحزب على مغادرته للعراق قبل أن يقع في أيدي الطغاة البعثيين ، كما أخبرت أخرين من مبدعي العراق بالمغادرة قبل فوات الأوان .. 

في هذه الخلوة ، وفي عمر السادسة والثمانين “ربيعاً أو قل خريفاً” ، تختلف الأحداث والصور عن خلوات أخرى حين يكون الإنسان في عمر الثلاثين أو الأربعين ، إذ تكون أكثر عاطفية وأكثر شفافية وأكثر صراحة مع النفس والناس.. كم مرة أخطأت أثناء حياتي السياسية المديدة .. وهل هناك من لا يخطأ حين يمارس السياسة في بلد مثل العراق وأوضاعه الشاذة دوما ..  وكم سعيت للتعلم من أخطائي … من كان منكم بلا خطيئة فليرمني بحجر ! أكثر القرارات صواباً ذاك الذي اتخذته في استقالتي عام 1990 من عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ، إذ وجدت اننا ارتكبنا أخطاء كبيرة ، وأنا منهم ، ومن الأصوب أن يذهب أغلبنا وأن يأتي للموقع من هو أفضل مني ومن غيري ولم يرتكب ذات الأخطاء التي ارتكبناها معاً خلال الأعوام المنصرمة .. هذا درس مهم للجميع إذ لا يكفي الاعتذار عن تلك الأخطاء ، رغم أهميته وضرورته ، بل ينبغي أن يكون مبدئياً صارماً لاسيما من هو في مواقع المسؤولية في الحزب .. الأخطاء ممكنة ، ولكن كيف نتعامل معها ونتجنب وقوعها ثانية .. هل تعلمنا من درس التحالفات السابقة مثلاً ، وهل ساعدتنا في تجنب تحالفات غير مناسبة أخرى أصلاً ، وهل تجاوزنا مرحلة المجاملات السياسية مع من ينتهك حرمة الشعب والوطن ويسمح باستباحتهما ونبقى نناديه بـ”كنيته المحببة!” ؟ فهل هذا معقول مثلاً .. . هذا الدرس الثقيل الذي مررنا به يجب أن يبعدنا عن تحالفات مماثلة مع قوى مماثلة من حيث التطرف والتشدد والقسوة والاستبداد ، تلك التي تحمل بيدها “أسيافاً مرهفةً” لتقطع بها رقاب الناس!!! 

في هذه الخلوة مع النفس مرّ أمام ناظريّ وأنا مستلقٍ ، أشبه بشريط سينمائي لخص الحياة السياسية العراقية لسبعين عاماً ونيف ، منذ أن ارتبطت لأول مرة بالحركة الطلابية العراقية بعد مؤتمر السباع عام 1948 بثلاث سنوات تقريباً ، في عام 1951. لقد كانت فترة غنية بالأحداث النضالية المتسارعة .. ذاكرة ما تزال طرية والأسماء والمواقع والأشياء ، الزما والمكان حاضران ، لم تختف بعد ولم يغط الغبار خلايا الدماغ الرمادية بعد ..

في السنوات العشرين الأخيرة اقترح عدد كبير من الرفاق والأصدقاء والمعارف ، وبعض دور النشر العراقية ، أن أسجل مذكراتي عن هذه الفترة الطويلة ، وهي في الواقع أقصر من لحظة خاطفة في عمر الزمان ، وأخيراً ورد اقتراح من دارين للنشر ببغداد وأربيل. وكلما طرح عليّ مثل هذا المقترح كنت وما أزال وسأبقى أجيب عنه بالنفي ، لأن حياتي السياسية لا تختلف عن حياة الملايين من العراقيات والعراقيين ولا أجد في مجرى حياتي السياسية والشخصية ما يستوجب تسجيله أولاً ، وأن أغلب من كتب مذكراته وقع في فخ الذاتية ثانياً ، بل بعضهم سقط في نرجسية مرضية ، التي يستوجب أن يبتعد عنها المناضلون والعاملون في الشأن العراقي العام حين يكتبون مذكراتهم الشخصية . ندرة من استطاع التخلص من ذاتيته في كتابة مذكراته . الفقيد الرفيق صالح مهدي دكلة ، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي حتى مماته ، هو الشخص الوحيد الذي أعتقد أنه قد كتب مذكراته بموضوعية عالية حين كان في المستشفى وعلى فراش الموت ولم يخرج منها إلا محمولاً بتابوت ، فالذكر الطيب له والمواساة بفقدانه لعائلته وحزبه ولنا جميعاً . 

نحن اليوم أمام مهمات صعبة ومريرة ، فعراقنا يعيش اليوم استباحة إيرانية – تركية – أمريكية فعلية في آن واحد ، ولكل منهم أهدافه وأتباعه ومشاريعه الخاصة في العراق ، وصراعات هذه القوى وحلفاؤها في المنطقة تدور على أرض العراق وبالناس العراقيين والعراقيات وعلى حساب مصالح الشعب والوطن ومستقبل الأجيال القادمة . الكل يريد فرض الإسلام المتشدد والرجعي على شعب العراق ، حتى الولايات المتحدة ، الحليفة الفعلية والدائمة للإخوان المسلمين ، والساكتة عن أفعال الدكتاتور الإخواني رجب طيب أردوغان وقطر في العراق وليبيا وسوريا وعموم المنطقة ، مستعدة للمساومة مع إيران أيضاً على حساب مصالح شعب العراق، لتحقيق ما تسعى إليه وما يمكن أن تضمنه لها في المنطقة .  

نحن اليوم أمام مهمة كبيرة وأساسية بعد أن تأخرنا وجاملنا كثيراً : هل في مقدور القوى والأحزاب والشخصيات المدنية والديمقراطية تحقيق تحالف سياسي واسع فيما بينها وعقد مؤتمر وطني عام وشامل لها لمواجهة ما يراد للعراق وما يدفع به صوب الهاوية الفعلية ، صوب مستنقع التخلف والتبعية والاستغلال أكثر فأكثر، لمواجهة قوى التطرف والتكفير وولاية الفقيه ؟ هذا السؤال سيبقى يطرق بقوة على يافوخ وأبواب كل الطيبين من العراقيين والعراقيات بأمل أن يستيقظ من لم يستيقظ بعد ، وأن يسمع الطرق من لم يسمعه حتى الآن ، ليتفاعلوا معاً لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه خلال السنوات الـ 18 المنصرمة.. خلوتي مع النفس هذه المرة كانت مُنهِكة ، ولكنها فرَّغت بعض شحنات التوتر الداخلي مع التوقع بحصول ما هو أفضل للعراق وشعبه . وكان بيان المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي الموسوم “نحو وحدة رصينة وفاعلة لقوى التغيير” الصادر في 20/08/2021 تأكيد على أهمية وضرورة العمل من أجل مؤتمر وطني عام لوحدة القوى الوطنية العراقية في مواجهة ما يراد للعراق من عواقب وخيمة أكثر بكثير مما يعاني منه الشعب حالياً وعلى مرأى ومسمع المجتمع الدولي والرأي العام العالمي . فلنعمل من أجل ذلك ولنضغط على كل الذين يعنيهم الأمر للوصول إلى ما ينعش الأمل في تحقيق التغيير المنشود في العراق .

21/08/2021 

 

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular