شكلت الأحداث الأخيرة في أفغانستان منعطفًا سيعيد تشكيل بعض معالم السياسة في المنطقة كنتيجة أولية، من ثم يمتد للتأثير في جوهر الصراع العالمي، نظرًا لموقع هذا البلد الحيوي بوصفه نقطة التقاء للشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشبه القارة الهندية.
شكل الصراع
صار من البديهيات إن يتعرض أي بلد محتل لخلل بنيوي في هويته الوطنية الجامعة للإثنيات المختلفة، لأن اللعب على حبل الاختلاف بات إستراتيجية مُسلم بها في بسط سيطرة الاحتلال، وهذا واضح وجلي في عديد الدول ومنها أفغانستان الذي اتخذ فيها الصراع الشكل القومي ولا يمكن إن يعد بأي حال من الأحوال صراعًا دينيًا, فالمتصارعون ينتمون لديانة واحدة ومذهب واحد, لكن الاختلاف يكمن في تعدد القوميات بالإضافة لعدم وجود أغلبية ساحقة بين القوميتين الرئيستين في أفغانستان فالبشتون يشكلون ما نسبته 42% يليهم الطاجيك ب 32%, مع وجود أقليات أخرى بنسب متفاوتة مثل الهزار ونسبتهم 8% والأوزبك ب 7%, من ثم التركمان 4% والبلوش 2%, وقوميات أخرى من العرب والغوجار والباميري والبراهوي والباشاي ونورستان وهؤلاء جميعا يشكلون نسبة 4%.
ومما يساهم في تعميق الفجوة أيضا هو المحيط الإقليمي للبلد واللعب على ورقة التعدد هذه من خلال الروابط الثنائية التي تجمع الكثير من هذه القوميات بالبلدان المجاورة فالبشتون مرتبطون بشكل وبأخر بباكستان من ثم صلة الطاجيك بطاجيكستان وهذا ماينطبق على الأوزبك وسواهم…..,
وهنا ورغم اتخاذ الجماعات المتصارعة الغطاء الديني في جذب الأتباع لكن تبقى العادات القبلية هي المتسيدة كما أنها الأقوى تأثيرًا، وهذا يعود من وجهة نظرنا لكون هذه الأخيرة متفوقة على الأول بعامل الزمن مما يفضي لرسوخها في نفسية المجتمع، وكذلك لكونها جزء من الهوية الخاصة به، بل وفي كثير من الأحيان يتم خلطها مع الدين بصورة تضليلية مما يفضي لإعطائها المزيد من الثبات والتأثير لكونها اصطبغت بعامل آخر قوي يضيف لها القداسة،
ولذلك نرى إن الخلافات حادة بين البشتون والطاجيك في عملية الاستئثار بالسلطة خصوصًا وإن البشتون يحكمون الأفغان منذ القرن الثامن عشر، مما تولد شعور لديهم بالتفوق العرقي وبأنهم الأحق بالحكم من غيرهم وهذه الجزئية الخاصة بالتفوق العرقي والديني لها أمثلة كثيرة في معظم انحاء العالم لكونه متولد من حقب تاريخية قديمة.
أسباب انهيار الحكومة والجيش
الاعتماد الكلي للحكومة الأفغانية على المساعدات الأمريكية بكافة المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، مما جعلها رهينة ومجرد أداة للسياسة الأمريكية أكثر من كونها جهاز تنفيذي للدولة، مما خلق حالة من الفجوة بين الحكومة والمجتمع، وانتشار الفساد في مختلف الأصعدة الحكومية.
أما فيما يتعلق بالجيش الأفغاني ورغم الدعم الأمريكي الهائل له سوى على مستوى التدريب والمعدات، لكنه تعرض للانهيار رغم فارق العدة والعدد بينه وبين طالبان، وهذا يعود حتمًا لشيوع ظاهرة الفساد كما أسلفنا لكونه جزء من منظومة دولة ينخرها هذا المرض، بالإضافة لتصدع الشعور الوطني بل وحتى فقدانه لصالح الانتماءات القومية المتعددة بين أفراده، خصوصًا حينما نرى بإن الحركات القتالية قد اتخذت طابعًا قوميًا في الدفاع عن مناطقها أو المشاركة بمحاربة السوفييت وهذا أدى بطبيعة الحال لشيوع إيمان مترسخ بعلو الانتماء الإثني على الهوية الوطنية ككل، وبالتالي الوصول لأن يكون الجيش مفرغًا من أي عقيدة قتالية بقبالة تنظيم قومي وعقائدي، والغلبة في معظم الأحيان تكون لمن يمتلك الأيديولجية.
طالبان بعد السيطرة
الضرورة الدولية قد تكون هي القيد الأكثر فعالية الذي قد يحجم تزمتها، خصوصًا وأنها اتخذت المسار الدبلوماسي بعد إن اقتنعت بعدم جدوى الخيار العسكري فقط وتم ذلك من خلال المفاوضات مع الحكومة الأفغانية من سنوات أو ماتخلله من اتفاق السلام مع أميركا، ناهيكم عن إرسالها وفد للصين بغية طمأنة بكين عن عدم سماح طالبان بأن تكون أرضهم مصدر تهديد أمني لأي بلد، ومع تزايد الأنباء بتولي عبد الغني بردار زمام السلطة وهو أحد الأربعة المؤسسين للحركة، كما إنه دائما ماوصف بالقائد الأكثر مرونة فيها، وعلى الرغم من غلبة الجانب العسكري على سيرته والتي توجت بتسنمه نائب وزير الدفاع في 1996 بعد استيلاء طالبان على الحكم، لكن ظهر وجهه السياسي التي كانت أولى ملامحه قيامه بمبادرة القبول بحكومة كابول الجديدة بعد سقوط الحركة، من ثم توليه رئاسة المكتب السياسي في الدوحة وقيادته للتفاوض مع الجانب الأمريكي، والملاحظ أيضًا تسويق الإعلام العالمي له بإنه الشخصية المعتدلة في صفوف المقاتلين، هذا الأمر قد يعطي مؤشرًا عن ما قد يكون اختلاف بين طالبان 1994 كتنظيم مسلح فقط وبين ما أضيف إليها الآن من وجه دبلوماسي وسياسي.
عن انتهاكات طالبان
التركيز على ما قد يحصل من انتهاكات من قبل الحركة، أمر مفرغ منه إذ إن هذه الجزئية لا وزن رئيسي لها في السياسة بقدر ما تكون ورقة ملحقة في مجال الضغط، أي تدور وجودًا وعدمًا في دائرة المصلحة، وهنا ينصرف المساس للنفوذ الدولي، وإلا عندما كان المقاتلون الأفغان يواجهون السوفييت كانوا مقاتلين من أجل الحرية كما يصفهم ريغان الرئيس الأمريكي في وقتها والذي أستقبلهم في البيت الأبيض، ناهيكم عن إرساله إليهم العقل السياسي الاستراتيجي بريجينسكي ليلقي عليهم الخطب الحماسية، وحينما برزت طالبان بموجب خطوة استخباراتية دولية، غض الإعلام العالمي التغطية عن انتهاكاتهم لأنهم ببساطة كانوا يؤمنوا خطوط نقل الطاقة، بل واستثمرت شركة نفط أونكال وحدها 40 مليون دولار في حركة طالبان مسبقًا, لذلك يعتبر الحديث عن هذه الجزئية لا معنى له, لأنها ملحق غير ثابت التأثير مالم يتعلق كما أسلفنا بمصالح القوى الفاعلة.
لا سبيل اليوم أمام الحركة إلا بتقليم أظافير متبنايتها بالسياسة، عدم التعلم يعني الحكم بالتآكل، وبأنها لن تكون حينها سوى مطب مصطنع ومؤقت في طريق الحرير،
كما يجب على الجميع إن يعي أن هذا التنظيم فقس من بيضة دولية، أي ذات منشأ برغماتي مما يرفع من خيار البدايات الطوباوية الخادعة والتي قد تنفجر بأي نغزة أيديولجية من الواقع.
—