القسم الأول
لا تختلف استراتيجيات الولايات المتحدة الأمريكية من حيث الجوهر منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي حتى الوقت الحاضر، رغم التنقل بين تكتيكات كثيرة ومتنوعة من جهة، ورغم تبادل قيادة الحكم بين الحزبين الحاكمين، الديمقراطي والجمهوري، ورغم انتقال الرئاسة من رئيس لهذا الحزب أو ذاك من جهة ثانية. فالاستراتيجية المعهودة كانت وستبقى حماية وتعزيز النفوذ والمصالح الأمريكية في جميع أرجاء العالم أولاً، ولو جاء ذلك على حساب الاقتصاد العالمي، أو حلفاء أمريكا الأوربيين وغيرهم، إضافة إلى الهيمنة الفعلية على السياسة والاقتصاد والعلم والتقنية والثقافة في العالم ثانياً، والسيطرة على أهم منابع المواد الأولية ذات الطبيعة الاستراتيجية في السياسة والاقتصاد، ولاسيما النفط والغاز الطبيعي ثالثاً، ومحاربة أي شكل من اشكال النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الرافضة للرأسمالية، أو نمط الحياة والثقافة و“الديمقراطية الأمريكية!” بكل السبل التي تتوفر لديها رابعاً، والسعي إلى فرض مصالحها في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، رغم وجود امتلاك حق استخدام الفيتو ضد محاولات الولايات المتحدة من جانب الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن الدولي.
أما الاختلاف في الممارسة فيكمن في عدد آخر من المسائل المهمة أيضاً، رغم إنها تقع في خانة التكتيكات السياسية اليومية والطويلة الأمد، التي ربما تستمر لأكثر من دورة رئاسية في البيت الأبيض. وقد برهنت تجارب أكثر من 70 سنة المنصرمة على صواب هذا الاستنتاج بصدد سياسات الولايات المتحدة في الاستراتيج والتكتيك على الصعيد الدولي. ويمكن ان نمرَّ على أبرزها فيما يلي:
- التغيرات الملموسة في نعومة أو قساوة أساليب المواجهة مع الدول الأخرى المعارضة أو المناهضة.
- استخدام أساليب جامحة ومدمرة من جانب وكالة المخابرات المركزية في تنظيم الانقلابات الناعمة أو العسكرية، وبالتنسيق مع القوى المحلية المدنية منها والعسكرية.
- استخدام المعونات العسكرية والمالية والغذائية مباشرة، أو من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، للوصول إلى أهدافها السياسية والاقتصادية إزاء هذه الدولة أو تلك، إضافة إلى الإفادة الكبيرة من منظمة التجارة الدولية الحرة ودور الدولار الأمريكي في التعامل الاقتصادي الدولي، ولاسيما التجاري.
-
تشكيل الأحلاف العسكرية مع الدول الأخرى في القارات المختلفة، إضافة إلى إقامة القواعد العسكرية في دول كثيرة في القارات كافة. فقد بلغ عددها وحجمها على النحو التالي في العام 2009: لقد “.. نشر الجيش الأمريكي تقريرا عن قواعده العسكرية، أشار فيه إلى وجود ما بين 600 إلى 900 موقع على أراضي أجنبية. هذا التقرير الذي يعود إلى عام 2009، والمتاح على موقع وزارة الدفاع يدرج 716 موقع عسكري في الخارج، 13 منها مصنفة “كبيرة” و19 مصنفة “متوسطة“. وتشمل القائمة الكاملة مئات من المواقع الصغير عددها 620. بالأرقام.” (أنظر: موقع اليوم السابع، القواعد العسكرية لجيشي أمريكا وروسيا فى الخارج. الإثنين، 04 يونيو 2018 ). وجاء في تقرير آخر للسيد الفريد ميللر بهذا الصدد ما يلي: ” يبلغ عدد القواعد العسكرية الأمريكية 1000 قاعدة في جميع أنحاء العالم. أما روسيا فلديها 20 قاعدة.”. (البريشت ميللر، المسؤول عن النشر: Albrecht Müller، موقع صفحات للتفكير، باللغة الألمانية بتاريخ 14 شباط/فبراير 2017).
- تشديد سباق التسلح على الصعيد العالمي على مستوى تحديث وتطوير الأسلحة التقليدية أو الأسلحة النووية أو الصواريخ العابرة للقارات وغيرها، إضافة إلى تنشيط بيع السلاح وسباق التسلح في الدول النامية في القارات الثلاث وأوروبا، وتنشيط نزاعات الشعورة بالقوة وروح المغامرة في حل المشكلات الإقليمية التي تقود إلى حروب مدمرة لشعوبها واقتصاداتها.
- اتخاذ شعار محاربة الشيوعية واجهة لمحاربة كل ما هو ديمقراطي وتقدمي في العالم، والمساعدة على ترسيخ كل ما هو استغلالي ورجعي ومحافظ في العالم، وتشكيل تحالفات سياسية مع قوى إسلامية سياسية متطرفة ومن ديانات أخرى لمكافحة الشيوعية.
- وقد نجم عن ذلك ما أطلق عليه بالحرب الباردة التي تجنبت الحرب الساخنة، كما في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولكنها تسببت في حروب إقليمية كثيرة جداً أدت إلى خسائر هائلة في الأرواح والاقتصادات والتخلف وزيادة التلوث وتدهور البيئة، ولاسيما في الدول المتحاربة والمتجاورة ولأسباب كثيرة. وكان التأثير السلبي لكل ذلك كبيراً على شعوب الدول النامية، إذ إنها أصبحت جزءاً من الحرب الباردة وتوزعت على المعسكرين الشرقي الاشتراكي والغربي الرأسمالي، وعانت الأمرين من جراء ذلك، وآثارها لا تزال سارية حتى الآن.
هذه السياسات الاستعمارية الاستغلالية والعدوانية وغيرها حققت للولايات المتحدة والدول الرأسمالية المتقدمة الأعضاء في حلف الأطلسي الكثير من المكاسب على حساب مجموعتين من الدول هما الدول الاشتراكية التي انهارت تحت ثقل سياساته وأوضاعها الداخلية غير السليمة والمتعددة الأوجه من جهة، وتحت ضغط الخارج، ولاسيما سباق التسلح على الصعيد العالمي من جهة ثانية، كما عانت منها شعوب الدول النامية جميعها، ولاسيما الأكثر فقراً وتخلفاً في العالم.
هذه السياسات جلبت للدولة الأمريكية كراهية شديدة من جانب غالبية شعب الدول النامية، ولكنها جلبت في الوقت ذاته تعاوناً أوثق وأكثر عدوانية مع حكومات أغلب الدول النامية، ولاسيما ف منطقة الشرق الأوسط التي حمت النظم الرجعية ومونتها وساعدتها في مواجهة شعوبها.
منذ ثمانينيات القرن العشرين بدأت في العالم الرأسمالي المتقدم ممارسة سياسات اللبرالية الجديدة وتبلورت بشكل صارخ في فترة حكم رونالد ريگن في الولايات المتحدة، ومارغريت تاتشر في المملكة المتحدة، وهلموت كول في ألمانيا الاتحادية، وفي الاتحاد الأوروبي يعد تشكيله في فترة گاستون ثورن من لكسمبورغ، … وهي السياسات التي ماتزال مستمرة حتى الآن، ولكنها توحشت بأضعاف المرات بعد انهيار دول المنظمة الشرقية الاشتراكية بغض النظر عن الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية، والتي تبلورت بشكل خاص منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، وأن بدأت مخففة قليلاً ، في جوانب منها في فترة حكم الرئيس باراك أوباما، ولكنها لم تغير من جوهر الاستراتيجية الأمريكية بشيء، إلِّا في بعض تكتيكاتها، التي كانت رغم ذلك مفيدة نسبياً للعالم.
ولكن ما هو الجديد في التكتيكات الأمريكية منذ التسعينيات، والتي تفاقمت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 حتى الآن؟ يبدو لي كمتتبع إمكانية الإشارة إلى النقاط التالية:
- التفرد في الساحة الدولية بعد انهيار القطب الثاني الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية واعتبر العالم عندها بقطبية واحدة هي الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها بدأت بوضوح علامات السعي الأكثر جموحاً وصراحة في الهيمنة على العالم والاستفادة القصوى من ثورة الانفوميديا والعولمة والقدرات العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة وعموم الدول الرأسمالية المتحالفة في حلف شمال الأطلسي.
- الإيغال بسياسات الاستغلال الرأسمالي المتوحشة من جانب الشركات الاحتكارية العابرة للقارات للطبقة العاملة في الدول الرأسمالية المتقدمة والدول النامية وتراجعت عن الكثير من الإيجابيات التي تحققت للطبقة العاملة والكادحين في تلك الدول بسبب نضالات الطبقة العاملة والمنافسة الحادة بين المعسكرين لكسب الشعوب إلى جانبها، وتخلت بوضوح عن الكثير من استعدادها على المساومة مع الطبقة العاملة على الأجور وأوقات العمل ومكاسب كثيرة أخرى، مما شدد من التوتر والصراعات الطبقي داخل الدول الرأسمالية، ولاسيما حين تفاقمت البطالة وبدأت الأزمات الاقتصادية الدورية والمالية تعصر بالكادحين وترمي بهم على قارعة الطريق والفقر والإفلاس.
- سياسات الضربات الاستباقية في مواجهة ما يبدو للولايات المتحدة مخاطر على مصالحها في أي مكان من العالم، ولاسيما في الدول النامية، إضافة إلى تقسيم الدول إلى عدوة وشريرة حين لا تكون معها وصديقة حين تكون معها. وقد تبلور هذا الموقف في أعقاب حرب الخليج الثانية ضد الكويت وتفاقم في أعقاب تفجيرات 11 أيلول/سبتمبر 2001، وتميز بذلك جورج دبلو بوش.
- فرض العقوبات الاقتصادية على كل الدول التي لا تخضع لإرادة وشروط الولايات المتحدة، حتى على الدول المتحالفة معها، كاليابان وألمانيا الاتحادية والدول النامية، كما مع العراق وإيران.
- استخدام الصراعات الأثنية والدينية والمذهبية بشكل مكثف واستغلالها لفرض هيمنتها وسياساتها في مختلف المناطق التي فيها مشكلات أثنية أو دينية، وقد برز في هذا المجال بعض المفكرين الأيديولوجيين الأمريكيين المدافعين عن الرأسمالية المتوحشة من أجل تقديم تفسير فلسفي متهافت لهذه السياسات وترويجها في العالم، وكان على رأسهم صموئيل هنتنگتون منذ العام 1991 أو فرانسيس فوکویاما عن الرأسمالية والديمقراطية البرجوازية باعتبارها تشكل نهاية التاريخ.
- الاستعداد لممارسة شتى الأكاذيب على الصعيدين المحلي والعالمي وتجنيد الإعلام الرسمي وغير الرسمي لهذا الغرض لتبرير تدخلهم السياسي أو شن العدوان والحروب على الدول الأخرى. وأبرز مثال على ذلك أكذوبة تملك العراق لأسلحة الدمار الشامل وشن الحرب “لتطهيره منها“، بهدف إقناع شعب الولايات المتحدة بأهمنية وضرورة تلك الحرب.
- المبادرة باستخدام وكالة المخابرات المركزية والبنتاگون لتكوين تشكيلات شبه عسكرية من قوى إسلامية سياسية متطرفة من الدول ذات الأكثرية المسلمة، أو ممن هم في خارجها، كما في أوروبا وأمريكا مثلاً، لمواجهة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ومن ثم امتدادها إلى دول أخرى في العالم، ومنها التنظيم الإرهابي “القاعدة” ومن ثم “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) وعشرات أخرى موزعة في الكثير من البلدان النامية. وقد شاركت كل من السعودية وباكستان وبعض دول الخليج في تبني هذا المشروع والمساهمة فيه بشرياً ومالياً وسلاحاً وتدريبات عسكرية وأمنية ومعلومات تجسسية وتقنية.
- البدء بالحديث عن إن منطقة الشرق الأوسط بحاجة إلى “فوضى خلاقة” تعيد تشكيل هذه المنطقة، على وفق الرؤية الأمريكية للدول الصديقة لها. وقد بادرت وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش (الأبن) كوندوليزا رايس إلى طرح هذا النهج السياسي، فكانت الحرب بين إسرائيل ولبنان، وبين فلسطين وإسرائيل، ولاسيما غزة، والحرب في سوريا، وكانت الحرب في العراق وأفغانستان، ثم كان اجتياح العراق من الموصل، وكانت الحرب في اليمن، وكلها ما تزال مستمرة بطريقة وأخرى لتشعل المنطقة وتعيد ترتيب الأوراق لصالح إسرائيل.
ومنذ أن وصل باراك أوباما إلى البيت الأبيض حاول استخدام التكتيكات الناعمة لتحقيق جوهر الاستراتيجية الأمريكية في العالم. فعلى سبيل المثال محاولته تقليص نسبي لسباق التسلح، أو عقد الاتفاقية النووية بين الدول الخمس +1 مع إيران، أو محاولة التخفيف من غلواء تأييد سياسات إسرائيل إزاء الشعب الفلسطيني والتركيز في الإعلام على حل الدولتين… الخ. ويمكن اعتبار فترة حكم باراك أوباما فترة استراحة دولية قصيرة ونسبية في تكتيكاتها الدولية والإقليمية بين جورج دبليو بوش وبين من أتى بعد باراك أوباما، دونالد ترامپ.
في عام 2016 نجح ترامپ على هنري كلنتون في الوصول إلى البيت الأبيض، وأصبح في كانون الثاني/يناير 2017 رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. وبذلك انتصر النيوليبراليون الأكثر تطرفاً والمحافظون الأكثر تشدداً في الحزب الجمهوري والمجتمع الأمريكي بنجاح دونالد ترامپ. فما هو الجديد في السياسات التكتيكية الأكثر تشدداً وتطرفاً وقسوة لدونالد ترامپ؟
انتهى القسم الأول ويليه القسم الثاني.