الشهادة سمو لا يبلغه أي كان إلا إذا تحلى بعقيدة الفداء من أجل فكرة أو هدف أو نصرة حق، وهي تتسامى على الإبداع في تأثيراتها المباشرة على النفس البشرية، رغم ما للإبداع من ديمومة البقاء وعمق تأثير في الوجود الإنساني الفكري والمادي.
التسمية بمقدساتها المادية والمعنوية موجودة منذ القدم، ولكنها تجسدت لدينا بشكلها الحالي، عندما انتشرت المسيحية كديانة عالمية، والإسلامية فيما بعد. فكلمة شهيد (Martyr) من اليونانية (Martus) وتعنى شاهد (witness) للإيمان المسيحي أو الذي يقدم شهادة عن المسيح عليه السلام. وكانت كلمة شهيد تطلق، في بداية العصر المسيحي، على الرسل الاثني عشر. ثم أطلقت على كل من يُسفك دمه في سبيله. ومن ثم اتخذها المسلمون.
الشهادة:
لا شك أن لشهداء الوطن مرتبة عالية لدى أبناء أمته، ولكن بالرغم من تضحيته بحياته في سبيل عزتها وكرامتها، يبقى ذكراه محصورا ضمن حيز مكاني وزماني محدود، وفي ذاكرة مجموعة معينة من البشر هم أبناء وطنه. ومع مرور الزمن لا يبقى من ذكر غالبيتهم سوى أنهم شهداء. والسبب بسيط، لا يحتاج الاستشهاد في سبيل الوطن براعة ذهنية، فكل ما عليه أن يتبرع بحياته لوطنه مدافعا عنه حتى الشهادة. ولأجل هذه الغاية النبيلة أريقت دماء كردية غزيرة على أرض كردستان، وعلى مدى قرون طويلة، إلى درجة القول إنه لا توجد صخرة أو منبع ولم ترتوي بدماء الشهداء، وإذا أردنا أن نوفيهم حقهم، علينا أن ننصب تماثيل على طول جبال كردستان وفي أعماق أوديتها، وعلى امتداد ضفاف أنهارها العديدة، وللأسف الألاف أن لم يكن الملايين من أسماء أولئك العظماء انتست مع التاريخ، وجريان الزمن، وأغلقت على معظمهم ضمن ديمومة سنن النضال والصراع الأبدي مع الأعداء، وحيث جدلية الحياة والبقاء.
الإبداع:
يعرف الإبداع على أنّه القدرة على الإتيان بأمر جديد في أي مجال من مجالات العلوم أو الفنون أو الحياة بصفة عامة.
والمبدع علاوة على تخليده في ذاكرة أبناء أمته وافتخارهم به، يتجاوز ذكره حدود وطنه، ليصل إلى العديد من الشعوب والأوطان إن لم يكن مجمل الكرة الأرضية، وعلى مر القرون.
فسقراط، وأرسطو، وأفلاطون وغيرهم من عظماء الفكر، لم يقف ذكرهم عند محيط وطنهم، بل تجاوز إلى أصقاع الدنيا برمتها، وكذلك لم ينتهِ هذا الذكر بموتهم أو احتلال وطنهم، لقد بقي وإلى الآن، وسيستمر. لقد جاهدوا لاكتساب المعرفة وتراكمها ليجسدوها على أرض الواقع نتاجا يستفيد منه البشر.
هنا، المبدعون ليسوا كالشهداء عددا، إلا أنهم أخلد منهم، ليس في ذاكرة أبناء وطنهم؛ وإنما في خلد البشرية. فنتاجهم لم يقتصر على بني جلدتهم، بل هو ملك بشري خالص. حينما نتذكر فلاسفة اليونان ورياضييهم وفيزيائييهم، لا يتبادر إلى أذهاننا شهداء هذا الشعب في سبيل استقلال دولتهم وتضحيتهم من أجل صونها وحريتها. ما نتذكره هو عظمة هذا الشعب في عطاء هؤلاء العظماء.
لقد احتل العثمانيون اليونانيين، بل قضوا على معظم ممالكهم؛ ولكنهم لم يستطيعوا أن يقضوا على علمائهم ومبدعيهم، فظلوا يونانيين، ولا زالوا. واستعربت مصر كلاوديوس بطليموس الفيلسوف اليوناني، ولم يبقَ لليونانيين أثر يذكر فيها، ولكن كلاوديوس بطليموس اليوناني المصري ظل يونانيا وليس مصريا. رغم أن هذه الجدلية نسبية في ظل غزوات القبائل العربية الجاهلة للحضارات المجاورة، والقضاء شبه التام على التاريخ الثقافي الحضاري إلا أنه ظلت هناك أسماء البعض من المبدعين على مر التاريخ.
ونظن أنه لو قمنا بتحقيق بين الجماهير الكردية بهذا الخصوص لوجدنا الغالبية إلى جانب تفضيل الشهيد على العالم المبدع، لكون التضحية بالروح في نظرها أعظم من أي شيء. في الواقع، النفس الحية تأبى الموت إلا في حالات جداً خاصة.
فالميت الذي لم يترك أثرا جاريا يُنسى، في حين من خلف وراءه آثارا مفيدة يبقى خالدا. والخالدة منها تحافظ على خلود أصحابها ومن خلالهم خلود شعبهم، وإن اندثر هذا الشعب وانمحى من على وجه الأرض.
ما ورد أعلاه يقودنا نحن الكرد إلى واجب قومي هو: ألا نهمل مبدعينا الكرد، بل علينا أن نقدرهم في حياتهم، وخاصة الذين حملوا ويحملون القضية الكردستانية كأهم القضايا، ويجعلونها في مقدمة اهتماماتهم الفكرية، والذين ستبقى ذكراهم أبدية في الحيز الكردستاني بل وربما العالمي، بينهم من سيظل اسما حيا ما دام نتاجه كمبدع أو عالم كردي متداولا بين البشر لفائدته.
من المعروف أنه كثيرا ما تقاس حضارة الشعوب بقدر تقديرهم لعظمائهم من المبدعين في كل المجالات، وما يعاب علينا نحن الكرد أننا نهمل ولا نقدر المتميزين من بين أبناء أمتنا حق قدرهم، علما كثيرا ما يتم تقديرهم لدى غيرنا من الشعوب، إن دل هذا على شيء؛ إنما يدل على قصور في تقديراتنا ومقاييسنا لمعرفتهم، وتكريمهم بما يليقون به. وما يؤسف له أننا ندرك مكانة هؤلاء بعد أن يشيد بهم غيرنا، لهذا خير برهان على جهلنا المطبق لقدراتنا الحية وتخلفنا المميت.
وهنا وفي هذا الإيجاز، يبقى أن ننوه إلى أنه على المبدع الكردي المعاني من كل الكوارث المحاطة ببيئته، ألا ينزلق إلى ما قد يؤدي به أو بأي من المثقفين الكرد المصنفين في خانة الإبداع إلى خسارتهم لمصداقيتهم، من خلال انجرارهم إلى مطبات هم بغنى عنها، من قبل أعداء الكرد، أو الانتهازيين من الكرد ذاتهم، ليبعدوا المجتمع عنهم أو يبعدهم عن مقدراتهم التنويرية، كدفعهم إلى الكتابة في قضايا لا تعكس مفاهيمهم التنويرية، ولا تؤدي إلى توعية المجتمع، ولا تعني هذا أن نتخلى عن المبدع الكردي في مطبه أو خطأ أو حتى أخطاء لا تجاري ومكانته الإبداعية والتنويرية.
وفي المقام الأخر يجب أن لا تحيل بنا الصراعات السياسية، ألا ننحني أجلالا وتكريما لشهدائنا، ونقدم كل الخدمات التي نتمكن منها لعائلاتهم، ومثلها للذين أصابوا بعاهات جسدية أو نفسية أثناء الدفاع عن الوطن وكرامة الأمة.
وما نعنيه هنا أن نمهد لمستقبل مشرق حضاري لأمتنا كما نخدم حاضرنا.
عزيزي القارئ، هل توافقني أم تخالفني الرأي أننا لا نقدّر مبدعينا؟
إن لم يكن صعبا، ولإغناء هذا الموضوع، ليتك أن تبدي لي رأيك على بريدي الإلكتروني أو على مواقع التواصل الاجتماعي:
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
1/11/2018م