منذ إعلان رئيس مجلس الوزراء السيد مصطفى الكاظمي عن موعد إجراء انتخابات مبكرة (في 10/10/2021)، على أمل انبثاق برلمان جديد فيه وجوه جديدة، ومن قوى سياسية جديدة غير الوجوه والقوى التي تمسكت بالسلطة منذ سقوط حكم البعث وإلى الآن، وكمحاولة لحل الأزمات العراقية المتراكمة المزمنة، والخروج من شرنقة المحاصصة التي راح كثيرون يعتبرونها السبب الرئيسي في تفشي الفساد والبطالة والفقر ونقص الخدمات…الخ.. أقول، منذ الاعلان عن موعد هذه الانتخابات، انقسم العراقيون إلى فريقين: فريق يدعو إلى مقاطعة الانتخابات، وآخر يدعو إلى المشاركة فيها. وكلما اقترب موعدها اشتدت الحملة ضراوة من الفريقين. وإزاء هذه الدعوات التبس الأمر على المواطن وازداد حيرة هل يدلي بصوته أم يقاطع؟
والدعوة لمقاطعة الانتخابات ليست جديدة، إذ اعتدنا عليها في جميع الدورات الانتخابية البرلمانية السابقة منذ سقوط النظام الدكتاتوري وإلى الآن. فقد كتبتُ في عام 2018 مقالاً بهذا الخصوص بعنوان:
(لماذا المشاركة في الانتخابات واجب وطني؟)(1) أرد فيه على دعاة المقاطعة. واليوم وللأسف أضطر للرد على نفس هذه الجماعات التي تحاول إفشال العملية السياسية سواءً بنوايا حسنة أو غيرها.
دعاة المقاطعة يبررون موقفهم أن الأحزاب الدينية قد ثبتت أقدامها، وتمرست في الحكم وشراء أصوات الناخبين بالترغيب والترهيب، والتلاعب بهذه الانتخابات ونتائجها، و بالتالي فإن الانتخابات ستأتي بنفس الوجوه الفاسدة التي كرست الطائفية والأثنية والمناطقية لصالحها… الخ، وأن المشاركة الواسعة ستضفي الشرعية على هذه الكيانات التي اثبتت فشلها خلال ما يقارب العقدين من الزمن. لذلك فبمقاطعة الانتخابات نجردهم من الشرعية، خاصة إذا بلغت نسبة المشاركة نحو 20%، أو دونها، وهذا يعني أن 80% من الشعب لن يشارك وغير معني بمن يحكم. ويكرر هؤلاء مقولة مفادها أنه لا يمكن اختزال الديمقراطية بالانتخابات ..!
أما الفريق الآخر وأنا منهم، يدعون إلى المشاركة الواسعة، و مبرراتهم أن الانتخابات هي الفرصة الحضارية السلمية الوحيدة أمام الشعب لاختيار حكامه. فالانتخابات العراقية منذ 2003 ، ومهما قيل عنها من تدخلات وإثارة الشكوك بنزاهتها، هي الوسيلة الوحيدة لتدريب جماهير الشعب على الديمقراطية وإنضاجها، و تداول السلطة بالوسائل السلمية. فكما قيل عن الانتخابات أنها ثورة سلمية لتبديل الحكومات بقصاصة ورقة بدلاً من الرصاص. (ballot instead of bullet).
فالديمقراطية لا تولد متكاملة إذ كتبت مقالاً قبل سنوات في هذا الخصوص بعنوان (الديمقراطية لا تولد متكاملة، ولن تكتمل)(2)، بمعنى أنه كلما تمرس الشعب على الديمقراطية، وتعمق وعيه واتسعت ثقافته في ممارسة الحرية وشعوره بالمسؤولية، ازداد دور الجماهير في إدارة شؤونها وترسخت الديمقراطية في وعيها أكثر فأكثر. فقد بات معروفاً لدى أغلب المفكرين والمثقفين في العالم أن النظام الديمقراطي هو النظام الأفضل للحكم رغم ما يرافقه من مشاكل في أول الأمر، ولكن مع الزمن تنضج. نعم، لا يمكن اختزال الديمقراطية بالانتخابات وحدها، ولكن في نفس الوقت لا ديمقراطية بدون انتخابات، فرغم مرور 18 سنة على الديمقراطية العراقية إلا إنها مازالت في طور التكوين خاصة وبعد ما عاناه الشعب العراقي من مظالم خلال عشرات السنين من عهود الدكتاتورية المقيتة، فهي مازالت تشوبها الكثير من المشاكل، مثل الفساد والبطالة ونقص الخدمات وغيرها كثير، إلا إن العلاج ليس بالمقاطعة، بل بالنضال من أجل إنضاج الديمقراطية، وإلا فالبديل هو العودة إلى عهود الانقلابات العسكرية بالدبابة والرصاص لفرض حكم الأقلية بالقوة الغاشمة.
وأما الانتفاضة التشرينية لعام 2019، فالمشكلة أن المنتفضين أنفسهم غير متحدين في تنظيم سياسي، ويفتقرون إلى قيادة موحدة. لذلك نقول لدعاة المقاطعة: بدلاً من تبديد جهودكم الثمينة للمقاطعة، من الأفضل لكم وللشعب أن تبذلوها لرفع وعي الجماهير وإقناع الناخبين بالمشاركة في هذه الانتخابات، واختيار العناصر النظيفة من المرشحين، وإلا فإن المستفيد من المقاطعة هم خصومكم من الكيانات التي تحاولون إزاحتها، كما يستفيد منها أعداء الديمقراطية الذين يحلمون بعودة أنظمتهم الدكتاتورية التي أوصلت العراق إلى هذا الوضع المزري. فبالمقاطعة تحرمون أنفسكم والجماهير من حقوقكم الديمقراطية التي كفلها الدستور.
ومن المفرح أن أصدر قبل أيام مكتب المرجع الديني السيد على السيستاني بياناً حث فيه الجماهير للمشاركة في هذه الانتخابات. وهذا نصر كبير للديمقراطية وأنصارها. فقد جاء فيه: إن “المرجعية الدينية العليا تشجّع الجميع على المشاركة الواعية والمسؤولة في الانتخابات القادمة، فإنها وإن كانت لا تخلو من بعض النواقص، ولكنها تبقى هي الطريق الأسلم للعبور بالبلد الى مستقبل يرجى أن يكون أفضل مما مضى، وبها يتفادى خطر الوقوع في مهاوي الفوضى والانسداد السياسي”.(3)
وهذا البيان الصائب يذكرني بقول مأثور لعالم الاجتماع العراقي العلامة علي الوردي الذي قال: “لو كنت من أرباب العمائم لأفتيتُ باعتبار التصويت واجباً دينياً و لجعلت التقاعس عنه ذنباً لا يغتفر… أنا أعرض هذا الرأي على رجال الدين، وأتحداهم أن يقبلوه أو يتحققوه.” (علي الوردي، وعاظ السلاطين، ص 108).
وهاهو الإمام السيستاني يحقق للراحل علي الوردي حلمه، كما في بيانه أعلاه.
لذلك أهيب بالأخوة الكتاب من المؤمنين بالديمقراطية الذين يحرضون الناخبين على مقاطعة التصويت بنوايا حسنة، أن يعيدوا النظر في موقفهم. فمقاطعة الانتخابات ليست حلاً بل هي مشكلة بحد ذاتها، معناها جلب الأشرار لحكم البلاد والعباد. إذ كما قال سقراط الحكيم: “إذا امتنع الأخيار عن ممارسة السياسة فسيعاقَبون بتولي أشرارهم عليهم“.
ــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
1 – د.عبدالخالق حسين: لماذا المشاركة في الانتخابات واجب وطني؟
https://akhbaar.org/home/2018/1/240083.html
2- عبدالخالق حسين – الديمقراطية لا تولد متكاملة و لن تكتمل
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=6436