دار ويدور جدل واختلاف حول الموقف الأخير للمرجعية الدينية من الانتخابات العراقية التي لم يتبق سوى أيام على اجرائها ..
القراءة الموضوعية للموقف توصلنا إلى نتيجة أن تشجيع الناس على المشاركة في الانتخابات لا يعني على أي حال تخطئة الموقف من عدم المشاركة فيها، سواء من قبل الأفراد أو الأحزاب والمنظمات، أو من كل من اختار موقفا آخر بعدم المشاركة ..
إن القول في ( إن المرجعية الدينية العليا تشجّع الجميع على المشاركة الواعية
الانتخابات القادمة )، فهذا يعني بوضوح أن الموضوع تشجيعي وليس أوامري .
وإذا كانت قد اعتبرتها بأنها الطريق الأسلم ( هي الطريق الأسلم للعبور بالبلد الى مستقبل يرجى أن يكون أفضل مما مضى )، فهذا يعني أيضا أن هناك طرقا أخرى غير المشاركة، ولكن طريق المشاركة هو الأسلم، وهي قراءة وموقف يندرج ضمن مواقف أخرى لأطراف سياسية مختلقة، قريبة من هذا الموقف أو متقاطعة، مع إقرار بيان المرجعية الدينية الضمني والصريح بوجود النواقص في هذه الانتخابات ..
لا يختلف اثنان على أن الضغط الشعبي الجماهيري الواسع يمكنه أحداث التغيير إذا أحسنت أدوات إستخدامه وتوظيفه، وقد أثمر هذا المد والضغط الجماهيري في انتفاضة تشرين الباسلة عن نتائج واضحة في واقع العملية السياسية وأطرها المختلفة.
وكانت المرجعية الدينية قد ساندت هذا الضغط الشعبي في المواقف والخطب المختلفة، وتضامنت صراحة مع انتفاضة تشرين ومطالب منتفضيها، وأيدت مطلب تغيير الحكومة والقوانين والانتخابات المبكرة.
ولكنها تظهر اليوم خشيتها من (حالة الانسداد السياسي والوقوع في مهاوي الفوضى). ويبدو القصد هنا بمهاوي الفوضى لا يخص بأي حال من الأحوال أشكال الاحتجاجات والمطالب السلمية والتظاهرات. وهنا لا يمكن لأحد أن يستبعد إمكانية حدوث هذه الفوضى في ظل الصراعات المحتدمة بين القوى السياسية المتسيدة للشارع السياسي والمشاركة في الانتخابات وبنفس الاستحواذ والفوز والسباق وقيادة المرحلة وتحجيم الآخرين .
إن الدعوة لأخذ العبر والدروس من التجارب الماضية، فيها إشارة واضحة إلى أن تجارب الانتخابات السابقة كانت قاسية ومريرة ولم توصل البلد إلى شاطئ الأمان.
في الدعوة لإحداث التغيير الحقيقي بالارتباط مع أبعاد الأيادي الفاسدة والغير كفوءة، صورة واضحة وناطقة بوجود هذه الأيادي الفاسدة والغير كفوءة ضمن المرشحين لهذه الانتخابات، والتي يجب ابعادها وعدم منحها الفرصة لإعادة ثيابها القديمة الغالية ..
التأكيد على ضرورة التغيير الحقيقي حسب ما تراه المرجعية، يعني عملياً أن العراق قد حرم ولسنوات طويلة من فرصة التغيير الحقيقي، وأن فرصة الانتخابات هذه يمكنها احداث التغيير الحقيقي والذي يرتبط حسب بيان مرجعية النجف الدينية بأن يستغل الناخبين هذه الفرصة المهمة لإحداث تغيير حقيقي في ادارة الدولة، واشتراط تحقق ذلك بتكاتف الواعين ومشاركتهم في التصويت بصورة فعالة وإحسانهم الاختيار..
وهي قراءة تؤكد على التكاتف، والذي لم يتحقق بشكل واسع للأسف بين من يهمهم أصلا هذا التغيير من القوى والشخصيات الذين سعوا وعملوا بجهود جبارة من أجل التغيير وإصلاح منظومة المحاصصة والفساد. ..
المراهنة على التغيير الحقيقي الذي تنشده المرجعية عبر هذه الانتخابات المبكرة سيكون صعب المنال، ويعتمد بالأساس على تغير التوازن الذي ستفرزه الانتخابات لصالح المرشحين من افراد ومنظمات من البعيدين عن اجندات ونهج أحزاب السلطة والمحاصصة، وبالمقابل خسارات واضحة وتراجع للمرشحين من الذين عادوا بجلابيبهم القديمة البالية ومناهج أحزابهم ومنظماتهم التي خربت البلاد وأفقرت العباد.
إن الموقف بالدعوة الصريحة للتدقيق في سير المرشحين وانتخاب فقط الصالح النزيه والحريص على سيادة العراق وأمنه وازدهاره والمؤتمن على قيمه الأصيلة ومصالحه العليا، هو انحياز لنوعية مرشحين محددين بالضد من رموز الفساد والمحاصصة، خصوصاً مع التحذير بعدم تمكين الغير اكفاء والمتورطين بالفساد …
وفي الدعوة لأن تكون هذه المشاركة فعالة يمكن فهم القصد في أن تكون هذه المشاركة واسعة وشعبية، وهي ما تخشاه قوى السلطة المتحاصصة، لأن أي مشاركة واسعة ستقلل حظوظ مرشحيهم بالحصول على الأصوات، مقابل سنوح الفرصة للمرشحين المستقلين والوطنيين. كما أن احسان الاختيار يشير بوضوح إلا أن التصويت قضية ليست عابرة ويفترض احسان الاختيار فيها لمصلحة الوطن والشعب قبل أي اعتبارات أخرى..
في التأكيد ( والمرجعية الدينية العليا تؤكد اليوم ما صرّحت بمثله قبيل الانتخابات الماضية من أنها لا تساند أيّ مرشح أو قائمة انتخابية على الإطلاق وأن الأمر كله متروك لقناعة الناخبين وما تستقر عليه آرائهم)،موقف واضح وصريح في احترام رأي الناخب وخياراته والوقوف بحيادية من الجميع. التحذير من مخاطر الأجواء الغير مطمئنة وتأثيرات المال والسلاح الغير قانوني والتدخلات الخارجية، كان واضحا في صياغة البيان، مع التأكيد على نزاهة هذه الانتخابات ..
قراءة موقف المرجعية الدينية في تشجيع المشاركة في الانتخابات لا يفترض أن يقرأ بكونه انحيازا للقوى السياسية والأحزاب والمنظمات المشاركة في الانتخابات، وبالضد من المقاطعين ..
وهذا الموقف فيه دعوة صريحة للتقاطع مع الفاسدين والفاشلين والغير كفؤين، وعدم منحهم الصوت والمساندة، والسعي لعزلهم…وهذا الموقف للمرجعية الدينية يحتم عليها مسؤولية الموقف لاحقا، للنتائج التي سترتب على المشهد السياسي العراقي بعد اعلان نتائج الانتخابات، وما سيكون لاحقا من برامج وخطط وأجندات ..
المهم في المشهد السياسي أن يظل التلاحم والتنسيق بين الوطنيين والمدنيين والديمقراطيين والمستقلين وكل من تهمه مصلحة العراق بعيدا عن نظام المحاصصة والفساد، من الذين قاطعوا الانتخابات، مع الذين اشتركوا فيها لدوافع وطنية، خصوصاً وأن الفترة التي ستلي الانتخابات ستحتم عليهم التلاحم والتقارب والتنسيق، وبغض النظر عن النتائج التي ستفرزها الانتخابات..