الشعر إحساس وشعور يتم التعبير عنه بالحرف والكلمة.. هكذا يعرفه الغالبية وأنا منهم، لكن حين بدأت اقرأ في كتاب: “مهرة الحكاية” شعرت أن الحالة انتقلت من مجرد الشعور الى مرحلة من الغياب والإنفصال عن الواقع المحيط والتحليق في سر الأصابع والقوافي العنيدة، فالشاعرة والناقدة هدلا القصار بحروفها وصورها ولوحات الكتاب والفكرة كانت مهرة برية متمردة عصية على الترويض والتدجين، نشرت الشاعرة المجموعة عام 2015 في غزة والتي احتوت على 124 صفحة من القطع المتوسط وتسعة وأربعين نصا، والهدلاء لبنانية الجنسية وفلسطينية الهوية بحكم الزواج، مقدما للكتاب الشاعر والكاتب الناقد كريم القاسم من العراق، مع لوحة غلاف أمامية لفارسة تمتطي الخيل فوق الغيوم رأيتها ترمز للشاعرة، سادها اللون الأزرق وتدرجاته بلوحة جميلة، والغلاف الخلفي بلون أزرق علت جانبه صورة الشاعرة وكلمات نقشتها على الغلاف الخلفي، وهي كما اللوحة مريحة للنفس والعين جاذبة للقارئ، ليبحث عن سر الأصابع المتمردة في مهرة الحكاية، وقد صَنفت الكتاب تحت بند “نصوص” لاحتواء الكتاب على نصوص نثرية وسردية وليس شعر فقط.
من البدايات يلفت الاهداء النظر ويثير التساؤل، فهو اهداء من ثلاث فقرات فقرته الأولى خرجت عن المألوف بعد الجملة الأولى حين قالت فيه: “إلى الأصدقاء الذين تناوبوا على قتل أحلام “مهرة الحكاية” وابتزاز انكسارها، إلى الذين حاصروها وحاولوا دفنها بين الأحياء الأموات، والى الصديق الذي سرق نصوصها وما ملكته من قريحة الشعر”، بينما الفقرات الأخرى فهي اهداء تقليدي لأصدقاء لهم دور بالدعم والمساندة، ولكن الفقرة الملفتة للنظر تشير لخيبات أمل بأشخاص كانوا يبنون علاقتهم تحت يافطة أصدقاء ولكن الصداقة منهم براء.
منذ أن قرأت الكتاب في قراءة أولية حين وصلني من الشاعرة قبل فترة همست لنفسي: هذا الكتاب كُتبت حروفه بأصابع تمسك قلم بالخيال، تحلق في فضاءات خاصة، مهرة تروي حكايتها من فوق الغيوم، ولكنها تمازج الواقع في نصوصها، تستمد من كل حدث أو حكاية رواية شٍعرها فبدأت الديوان بمخاطبة الشعر بالنص الأول بالقول: “ أيها الشعرُ القابعُ خلف رياحِ الغسقِ”، وكلما تجولنا في الكتاب وجدنا مجموعة من المسائل التي تثيرها وتتحدث عنها، وقد اخترت بعضها للحديث عنها من خلال ما قرأت من نصوص محلقة، فروحها تجول بين الأنا، الحلم، الرغبة.
الأنا تظهر في العديد من النصوص، ففي نصها: “بين المقعد والنبض” تقول: فلْيبْقَ زهدُكَ ملاذاً، لتفاصيلِ الأصابعِ المغمسةِ، بريشةِ أناي المرصوفةِ في قبضةِ الحروفِ”، والأنا تبرز في عنوان النص الذي يحصر الحديث بين مقعد الجلوس والنبض في مساحة محدودة، والحروف حروفها، والأنا ذاتها، أما في قصيدتها المتميزة بالجمال والصياغة “ابتكار انثى” فقد تجلت الأنا والافتخار بالنفس والاعتزاز بها، فتقول في مقطع منها: “لألملمَ ريشاً رطبا، وأنطقَ حجراً أبيضَ في ليلٍ يلدُ كلَّ الأصواتِ، ليفيضَ نبضاً عارياً من سيلانِ الحياةِ، من هديلِ صمتِ الجفونِ المترامي، فوق جسورِ الشفتينِ”، وواضح انها تخاطب شخص ما في هذا النص من خلال هذا المقطع: “أَيُّها المبتكرُ مِنْ أنوثتي، فلتنْسَ حـاضرَك الآن، وتقفزْ من تقليمِ أظافري.. وعطرِ صدري، من بحرِي…”، وفي قصيدتها “رغبات النبوءة” وهي قصيدة تستحق قراءة مستفيضة تظهر الأنا بشكل آخر ورمزية جميلة استمدتها من مناسك الحج والطواف واخترت منها هذا المقطع: “ورَبَّمَا كَانَ يَجِبُ أنْ أَعُوُدَ إِلَيّ، وَأنْفَضَ بَكَارَةَ الوَقْتِ، أهْمِسَ، وَأَطُوْفَ، فَوْقَ سَبْع كَلِمَاتٍ، قَبْلَ بُزُوغِ الفَجْرِ، لتَكْتَمِلَ النُّبُوءَةُ.. كَمَا أُرِيْدُ، اِكْتَمَلَتْ عُذْرِيَّتِي وَلَمْ تكتملِ النُّبُوْءَةُ، فِي عتمَةِ وُضُوْحِ غَيْمَةِ“، وعبارة:”فَوْقَ سَبْع كَلِمَاتٍ” ذكرتني بعبارة أم المؤمنين زينب بنت جحش حين قالت: (وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات).
والأنا تظهر في قصيدتها: “سيد اللا شيء” وهي تتحدث عن شخص ما فتقول: “خائفةٍ من صراحةِ البوحْ، نسيَ أنه ما زال كعصفورٍ ينحني لأجنحتي، قبل أن يتكاثرَ عليه غبارُ الزمنِ..، أو يموتُ في ملاذِ مقعدهِ، بعد أن يدخلَ مدرسةَ النقدِ، ويأكلَ من موائد نقدي”، وفي نصها عراف الذاكرة تتحدث عن ذاتها فتقول: “تبحث عن قصيدةٍ فقدت برعمَها، في عزلةِ الذاتِ، على ترابِ الفجرِ”، وعن ذلك العاشق الذي: “بصمتٍ يترنحُ إليَّ، بخيولِ شوقهِ الجامحِ، ليمارسَ نشاطَ الحواسِ، بنباتِ حُلمٍ نام على حافةِ صخرةِ، لعل النسيمَ يجمعُ، قصدَه..، وقصيدتي..“، والأنا والذات تبرز في قصيدتها المختلفة عن كل القصائد والنصوص والتي منحت الكتاب اسمه “مهرة الحكاية” والتي شعرت أنها حكاية الشاعرة/ المهرة كما هي بكل ما مرت به من أزمات في حياتها وصمودها في وجه الريح والعواصف، فتقول: “من خطواتِ ضيوف الليلِ، ودسائسِهم المتناوبةِ على همسِ أساطيرِهم، خلسةً فوق السطورِ، لترويضِ مهرةٍ … تصارعُ ثيرانَ الجهلِ”، وتظهر الأنا في العديد من القصائد ومنها: “إمرأة تشرين” والتي كتبتها في ذكرى ميلادها.
الحلم: الأحلام لم تفارق النصوص، فهي تقول عن حروفها: “تلملمُ قصصَ الإناءِ، المتنقلةَ من حلمٍ إلى شاطئِ الأرحامِ”، وفي نصها “علبة الأصابع” تقول” أن نزرعَ أحلامَنا في الوسائدِ”، بينما تتجلى الأحلام في نصها “بحر الأبدية” وهي تخاطب لوركا أقتطف من هذه الأحلام إحداها: “لـــوركــــا ..هل تهبني شغفاً آخرَ ،وليلةً بأربعين جنونا؟“، والحلم لدى الشاعرة لا يقتصر على الحلم الشخصي فهي تحلم مع الوطن أيضا وهذا ما يتجسد في قصيدتها: “كي لا تحبل القصيدة” وهو عنوان رمزي كبير فالوطن هو القصيدة والخشية عليه من الاحتلال، فنراها تحلق من قلب موجوع: “وربما مازال هناكَ رصيفٌ يضيء!، ليرفعَنا على رفِّ الأنواءِ، هكذا هي الأوطانُ“، وهذا الحلم يأتي من قلب الوجع فهي تقول أيضا: “لم يعدْ لنا ما نعبرُ به الحياةَ، سوى الاختصارِ بالموتِ المرشحِ للجميع، أو ننامُ مع الظلِ، مادام السريرُ سداسيَ المنحنى، كي لا تحبلَ القصيدةُ من الأنينِ الأبيض”، وتتساءل: “كيف لنا أن نحتفظَ بعذريةِ الروحِ، وهويةِ الميلادِ؟“.
ويستمر الحلم في قصيدة “ظل منقار” بالقول: “لذكرى تضيفُ خطوة، باتجاهِ دفترِ الهمسِ”، وأيضا في نصها “إنتصاب الرؤية” بقولها: ” أتوقُ إلى من يمسكُ يد الحلمِ، أو يُدخلُني رغبة الحياة، يُرشدُني إلى الدرب المجهول”، وفي نفس النص تقول: “أيها اللامرئي، خُذْ بيدي لأنهي ابتكارَ الحلم، بلغة اليقين وترطيبِ الوريد، حين أتركُ رأسي بين الكتفِين، لتهدأَ الأروحُ في مكانِها”، وفي نصها: “مهرة الحكاية” يبرز الحلم أيضا بقولها: “تزرعُ المدينةَ شرودَها، تنتظرُ مَنْ يَسْكنُ دربِها، الهاربَ إلى سلالةِ الفينيقِ”، والكلمة الأخيرة تؤكد ما قلته عن هذه القصيدة أعلاه فهي تعيد نفسها الى سلالة الفينيق الذين حكموا لبنان كلبنانية الجنسية والتاريخ والإنتماء، ويبقى الحلم يجول القصائد ومنها: “إشارة العودة”، “هزار الشجن”، وفي نصها “في لغة المواسم” تتحدث كثيرا عن الحلم وبعض مما تقوله: ” الحلمُ وحدَه الحقيقةُ، ولعبةُ الفكرِ المترفعِ”.
الرغبة: في نصها “علبة الأصابع” تشير لرغباتها فتهمس: ““ليس سراً!، لو وضعنا ركنَ العشقِ في بردهِ المحمومِ، ليس سراً أن نعشقَ دون نزواتٍ” وفي نفس النص تقول: “وخيباتِ شهوةِ العبورِ”، وأيضا تهمس: “أو نعري الأسرارَ،وخريطةَ الرغبةِ حتى آآآآآخر الطريقِ”، وبتقديري ان علبة الأصابع رمزية لأحاديث التواصل الاجتماعي، حيث الاحاديث عبر الأصابع وهذا ما نراه بآخر النص بقولها: “وليس سراً، أن نرتشفَ من علبةِ الأصابعِ، سرَّ معنى الكلماتْ”، وفي شطرة سابقة بقولها: “ليس سراً أن نخبئ سرَّنا في علبةِ الأصابعِ، أو نجرحَ دون شظايا”، وفي قصيدتها “رغبات النبوءة” تتألق الرغبة بقولها: “قَيْد اللَّحْظَةِ!! ثِمَةَ رَغْبَةٌ مُوْجِعَةٌ“، وفي نصها “نشوة الرهبان” تتجلى الرغبة بالقول: “إليكَ أُصوبُ نهدَ الشَّوقِ، وسفناً تفكُ أحلامَ الغيمِ، على بساطِ حنينٍ تجاوزَ حدودَ الخوفِ، يدعوننا لنكملَ الفجرَ معاً، نهذي بشفاهٍ ترسمُ بقايا الأمنياتِ”.
والرغبة تظهر بين حروف النصوص بأشكال مختلفة بين التصريح الواضح وبين الإشارات الرمزية مما يمنحها جمال آخر وهذا ما نراه في قصيدة “غيمة صيف” وهي رمزية بالعنوان وبما قالته مثل: “حيثُ توهجُ زهرةِ الأغنياتِ، تزلزلُ كأساً عاريةً إلا من العين الثالثةِ، المخمورةِ برعشةٍ مملوءة بالقبلاتِ”، وتبرز الرغبة كفكرة لها معانيها من خلال الرمزية في نصها “محض احتمال” بقولها: “ربما كان الغيابُ فكرةً، تحتكرُ الموقفَ عنوةً، أو ترسمَ خارطةَ جيوشِ المللِ، في غنجِ العتمةِ”، وكذلك في نصها: “أوتار التيقن” بقولها: “وذات ليـلــــةٍ!، سألملم ريشَا لأصحو على نسرٍ عارٍ”، وفي القصيدة الأخيرة بالكتاب “ليلة بكحل القصيدة” كان للرغبة وجودها في أكثر من مقطع اخترت منها: “لك أن ترتب فصول اشتهائي، فالشتاء عندي صياما، وصيفي عصفورا برونق الاشتهاء، وربيعي ألفة مكورة، وخريفي مخطط للعود“، وتظهر الرغبة في نصها: “مهرة الحكاية” بقولها: “لا لالا أحـــدَ، يرطّبُ سهولَها المجففةَ، لا أحـــــدَ !يدرك قطاف الحلم من قلبِ الحياةِ، قبل أن تقتحم خطواتُها غنجَ الفراغِ، المنذرَ بحريق كنوزِها الخرساءَ، المتحدية مواء الوجع وهبوبَ المأساةِ”، ونجد الرغبة تتكرر في العديد من النصوص ومنها: “موعد الغواية”، “حرارة وهم”، “إشارة العودة”، وكذلك في نص: “غناء المسافة” حيث تقول: “لا احدَ مثـلـك، يملكُ تلك الكلماتِ الشقيةَ، وحدك المسافةُ بين الشيءِ و الشيءِ، تأتي من شبقِ النعاس، تحملُ أسدَ الشهواتْ، كهلوسةِ الشعرِ للشعراءْ”، وفي نفس النص تقول: “وحدكَ من أشتهي ثـلـجَه، وجنونَ خمرِ من يداه، وحـــدك..، ينامُ الليلُ بك عاشقاً”، وفي نصها “لغة المواسم” تتبدى الرغبة بهذا المقطع من ضمن عدة مقاطع تحمل نفس الفكرة: “هل سأجوعك من جديدْ؟، بعد أن مرروا الأحصنةَ في الليالي الستون، حيث رقد نهارٌ مجنونٌ، وليلٌ فرشَ قصائدَه، فوق سريرٍ حنون، حين خرجُت كنجمةٍ ترتعشُ، لقمرٍ يرسلُ صلاةَ الخلاصِ!“.
ولم تخلُ نصوص الكتاب من أفكار وفضاءات أخرى غير التي بحثت فيها، وهذه الأفكار تتجلى في نصها “أوتار التيقن” حيث تطرح في كل فقرة من النص فكرة وكلها تدور حول الحياة ونهايتها، والرثاء الحزين المعبر عن وفاء لصديق رحل في قصيدة: “الرحيل والدمع”، والتساؤلات في نص: “نرد الغياب”، وفلسفة حياتية في نص “دم حزيران” وفي نص: “عرس المحاكمة”، وفي نص:”على وتر اللحظة”، ونص: “أقنعة السيرك”، وفي نص: “قبل الصلاة”، كما في نص: رفات” ايضا، وفي نص:”ليست قصيدة” وهي تهمس:”لذكرٍ لم تلمسْه الرجولةُ ” وفي نص: “شظايا قلم” وهو فلسفة للعلاقات المجتمعية، وكذلك أفكار جميلة في نص: “بلا موائد”، وفي نص: “مزاج أسود”، ونص: “إستياء الخواطر”، وهناك في نصها المطول “أوراق سريالية” فلسفة في الحياة عبر مراحلها عبر ثلاثة نصوص، وكذلك يبرز الرفض في نصها: “رضاب” حين تقول: “تسافرُ في أسلحةِ الكلامِ، كي لا تنحني عند ركبةِ فرعونْ”، وهناك نصوص أخرى كان الوطن فضائها مثل: “وسائد الشياطين”، ونص: “هللويا”.
والخلاصة بعدما حلقت روحي في هذه النصوص التي تراوحت مستويات الشعر فيها، إلا أني تمتعت بجولتي فالشعر الجميل هو وجه آخر للإنسان وواقعه، وكلما حلقت الروح من الواقع الى خيال الشاعر كلما ازداد الجمال، فالشعر يختلف عن الأصناف الأدبية الأخرى مثل الرواية والقصة بأنه حالة من التحليق الروحي، وهنا نجد أنفسنا أمام عمل متقن وشاعرة متمكنة بالإمساك بالحروف والكلمات، تصيغها عبر رمزية مقبولة ومعبرة كما لوحات شعرية، أجادت فيها العزف على الجرس الموسيقي وعلى التعبير عن الفكرة والأحاسيس التي كانت تشعر بها في كل نص، ونستطيع أن نشعر بحجم التأثيرات النفسية على النصوص المصاغة، كما نشعر بمساحة من الدلالات النفسية فيها أيضا، فقد كانت تجول بما يعتري النفس والروح من عاطفة، فحلقت في فضاء من الأنا والحلم والرغبة والقلق والوطن والحياة والحنين والواقع والعلاقات الاجتماعية والوجوه المتناقضة فيها، فنجد النصوص مركبة من هذه المشاعر والأحاسيس، عبرت عنها بعفوية بدون الابتعاد عن الخصائص الشعرية من كلمات ومفردات لغوية وتعابير ورمزية وبنية شعرية ووحدة الفكرة في كل نص، هذه الوحدة التي تركت نفسها على الكتاب بأكمله فظهر كأنه رواية للخاص والعام والأنا والآخر، فلم يكن بين النصوص فراغ بل كانت ممتلئة بالحركة، سلطت الضوء على خبايا المجتمع فأبرزت الألوان بشكل متوازن، وأحب أن أشير لآخر ثلاثة نصوص في الكتاب تحت عناوين: “لا بد من ضوء”، “جنون يشبه الذكرى”، “رسالة خاصة”، وهي نصوص نثرية جميلة وكان الأجدر أن لا ترفق بالكتاب كي يحمل صفة ديوان شعر، وأعتقد ان الكاتبة لو سارت بجوار الشعر والأبحاث في مسار الوجدانيات لأبدعت فيها، وفي النهاية أعود الى نصها “محض احتمال”، وأهمس للشاعرة إلى متى: “تظل كنجمةٍ تاهت عن حليبِ الفكرِ، تغني ما تبقى من ساعاتِ الليل”.
“عمَّان 21/9/2021”
.