تاريخ حافل بالتضحيات
عاش حياة متجردة تماما من أي ذاتية، رافعا مصلحة الحزب فوق أي اعتبارات عائلية وشخصية وهناك من الذكريات ما يمثل فخرا لكل رفيق آثر مصلحة الحزب والشعب وتحلى بالقيم والأخلاق الرفيعة، تمسك بمقولة ان يكون الشيوعي أصدق الناسوأكثر الناس أمانة
محمد الكحط –ستوكهولم-
غادرنا اليوم في السويد المناضل الرفيق صالح الحلفي (أبو سلام)، بعد معاناة طويلة مع المرض، هذا الإنسان الأبي الذي عاصر فترة طويلة من الحياة السياسية العراقية منذ بزوغ ربيع الحركة الثورية وبالذات ضمن نشاطه النقابي وسط الطبقة العاملة العراقية، وكان في محطات عديدة من عمره قريبا من مسيرة الحزب الشيوعي العراقي، فهو من مواليد الأول من شهر كانون الثاني عام 1937م، ويملك تاريخا نضاليا غنيا بمحتوياته.
أبو سلام وليد عائلة عمالية من بناة الميناء وليس الموانئ في حينها لم يكن هناك الا ميناء المعقل، عائلة بالكامل من الأعمام وأبنائهم تعمل بالميناء عند إنشائه وتسكن بمنطقة المعقل عند بداية إنشائه حيث تتواجد الطبقة العاملة في مسفن الميناء البحري بالجبيلة، إضافة لقسم غير كبير في محطة كهرباء الجبيلة المخصصة لتوليد الطاقة الكهربائية لمنطقة الميناء والمعقل، ومن عائلته برز أبن عمه المناضل النقابي المعروف سكرتير نقابة الميناء وسكرتير اتحاد نقابات البصرة في العهد الجمهوري جاسم حسن الحلفي الذي عاصر الرفيق فهد في سجن الكوت ومن تجربته وتجربة سجنه تعرف أبو سلام على الحزب الشيوعي العراقي إضافة لتعرفه على نخبة ثورية من عمال الميناء في مسفن الميناء، حيث عين كعامل فني متدرب مع الشهيد كريم الشذر في المسفن في عام 1952 وكان عمره 15 عاما في أوج مرحلة الصبا والاندفاع، ومن خلال العلاقة الوطيدة والالتقاء اليومي مع النخبة الطيبة من عمال المسفن أمثال الشهيد الخالد صمد وادي وأحمد علي هيلك وغيره تعرف أكثر على الحزب، وعند حصول إضراب عمال الميناء في سنة 1952 في الشهر الثامن شارك برغم عمره الصغير في الإضراب الذي استمر 3 أيام، وبمشاركة ما لا يقل عن 3200 عامل في موقع تجمع العمال المضربين في مقابل المديرية العامة للميناء، ففي بداية انطلاق الإضراب تم إيقاف عمل مولدات الكهرباء التي تزود الطاقة الكهربائية لمنطقة المعقل والميناء، وفي إثناء المفاوضات مع إدارة الميناء البريطانية وبمشاركة وفد من بغداد يرأسه سعيد قزاز، لوحظ عودة الكهرباء لمبنى مديرية الميناء من خلال النوافذ مما حدا بجماهير العمال بمواجهة التحدي بالزحف نحو مبنى محطة الكهرباء لغرض إيقاف المحطة مرة أخرى وعند الوصول إلى جسر الرميلي فوق نهر صغير متفرع من شط العرب، الذي يبعد مسافة 700 متر عن المسفن ومحطة الكهرباء انهمر الرصاص الحي من قبل الشرطة بقيادة المفوض حبيب أبو سامي ومن معه، حيث سقط عدد من شهداء الحركة النقابية، كانت هذه البداية لتعرف أبو سلام على الحزب ومن خلال العائلة المرتبطة فكريا وتنظيميا بالحزب وبسبب من نشاط الحزب ومساندته للإضراب وقيامه بحشد جماهير الشعب لمساندة عمال الميناء، وتعزز أيمانه بالحزب وأفكاره بعد ذلك بمواجهة مع المسفن البريطانية أيام أحداث العدوان الثلاثي على مصر عام 56 مما حدا بهم لنقله إلى معمل إنتاج الرافعات في الأرصفة، الذي يديره المهندس صدوان ابن أخت نوري السعيد الذي أخذ بمحاربته والتضييق عليه منذ الساعة الأولى لالتحاقه بالعمل، على أمل دفعه على ترك العمل.
وفي عام 1957اثناء الاحتفال بمناسبة ذكرى ثورة أكتوبر في بيت أحد الرفاق من عمال الميناء رشح للحزب، وكسب الكثير من العمال الفنيين للحزب، وكسب ثقة العمال. بعد ثورة 14 تموز، بدأت مرحلة جديدة من العمل النضالي والسياسي عبر تشكيل الهيئة المؤسسة لنقابة الموانئ، حيث ضمت القادة النقابيين محسن ملا علي، جاسم حسن عبد الحسن جبار، وغيرهم من المشهود لهم بالتاريخ النضالي الناصع وكان الفقيد أحد أعضاء تلك الهيئة، وبعد عدة جلسات تم تقديم النظام الداخلي للنقابة التي أجيزترسميا حيث تم تشكيل هيئة تحضيرية ومن ثم انعقاد المؤتمر الأول لنقابة المواني، وانتخب أبو سلام عضوا في اللجنة النقابية لمعمل إنتاج الرافعات، حيث وضع مصلحة العمال فوق كل الاعتبارات، وأستطاع الحصول على تقديم كافة منتسبي معمل إنتاج الرافعات درجة واحدة مع زيادة الراتب حسب استحقاقهم لذلك، والوحيد الذي لم يتم ترفيعه هو أبو سلام مما حدا برئيس المهندسين السيد علاء الدين البحراني إلى الاستغراب، فأبلغه أبو سلام بأنه يعمل أولا للعمال دون مصلحته الذاتية، مما حدا به لترشيحه لبعثة في بريطانيا من الموانئ العراقية، حيث تحولت تلك البعثة لمساومة كبرى لاحقا بينه وبين المدير العام للمواني اللواء الركن مزهر الشاوي، حول ترك الحزب وإعلان البراءة منه للالتحاق بتلك البعثة وذهبت ضغوطات المدير العام إلى العدم بسبب إصراره على التمسك بحزبه والمبادئ التي آمن بها، إلا انه استمر بالضغط على والده الذي كان يعمل رئيسا للعمال في مسفن الميناء على طرده من البيت وغيرها من الضغوط.
وأخيرا جاء كتاب فصله من الموانئ بالشهر الخامس من عام 1961 لأسباب سياسية صريحة وواضحة، وكان أول من يتم فصله من العمل في أرصفة الموانئ، ومما جاء بكتاب الفصل (نظرا لحزبيتك الضيقة والغير مجازة قانونا وبثك روح الشغب والفوضى بين العمال وفي إثناء الدوام الرسمي تقرر الاستغناء عن خدماتك اعتبارا من يومها)، وتم نشر كتاب الفصل هذا في حينها بجريدة اتحاد نقابات العمال في بغداد.
استطاع العمل بعدها في مشروع سايلو البصرة، مع مجموعة كبيرة من الرفاق المفصولين من الموانئ والنفط والسكك، منهم النقابي جنجون حسين، عزيز حميد وآخرين.
واستمر نشاطه الحزبي من خلال اللجنة العمالية التي يقودها الفقيد الرفيق أبو زكي حميد بخش ومن ثم اللجنة الوطنية لمنطقة المعقل والجمهورية.
ومن الذكريات التي كان الفقيد يعتز بها، عندما كان عضوا باللجنة الحزبية الوطنية لمنطقة المعقل والجمهورية عام 1961 وكان مسوؤلها الرفيق الأستاذ حامد، وعند ترحيل الرفيق حامد جاء قرار الحزب ان يكون هو مسؤول الهيئة التي كانت تضم أساتذة، بعضهم من الذين كانوا يدرسونه بالثانوية المسائية فكان ذلك القرار محرجا له الا إنهم رحبوا بذلك القرار وشجعوه على تحمل المسؤولية كونه عامل ومناضل شيوعي..
عمل الفقيد في العديد من ساحات العمل الحزبي في البصرة وبغداد والكويت وليبيا، حياة حزبية متجردة تماما من ذاتية ورافعا مصلحة الحزب فوق أي اعتبارات عائلية وشخصية وهناك من الذكريات ما يمثل فخرا لكل رفيق آثر مصلحة الحزب والشعبوتحلى بالقيم والأخلاق الرفيعة، وتمسك بمقولة ان يكون الشيوعي أصدق الناس وأكثر الناس أمانة.
– وبناءاً على تكليف الحزب له باستضافة وفد أكاديمية العلوم السوفيتية، بعد طلب الرفيق أسكندروف شخصيا من الحزب أن يتناول الطعام مع عائلة عامل عراقي، وفعلا قامت العائلة بتحضير طعام لعدد كبير من الرفاق يتقدمهم الرفيق عزيز محمد ومعظم أعضاء السكرتارية واللجنة المركزية.
تلك صفحات مضيئة من تاريخ هذا الإنسان الرائع بما تعنيه الكلمة، لقد كرمته منظمة الحزب الشيوعي العراقي بمناسبة الذكرى الثمانين لتأسيس الحزب بمدالية الذكرى، وهو شيء بسيط أمام التضحيات الجسام لهذا الشيوعي الغيور.
لأبي سلام المجد وعاطر الذكر، لترقد روحه بسلام.