.
أهمل قانون الانتخابات العراقية وضع سقف للإنفاق على الدعاية الانتخابية، ما جعل الباب مفتوحا للمال السياسي لترجيح كفة بعض الكتل المتنفذة وصاحبة السلطة على أخرى، بحسب مراقبين.
وكان من المقرر إجراء هذه الانتخابات، عام 2022، لكن تم تقديم الموعد كأحد التنازلات القليلة التي قدمتها السلطات لمواجهة الانتفاضة الشعبية غير المسبوقة، التي اندلعت نهاية عام 2019، تنديدا بالفساد المستشري وسوء إدارة المؤسسات العامة، ونقص الخدمات العامة في العراق.
وفي العاشر من أكتوبر، سيدعى نحو 25 مليون ناخب عراقي للاختيار من بين حوالي 3249 مرشحاً يتنافسون على 329 مقعداً في البرلمان.
القانون لم يحدد
وقالت المتحدثة باسم المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، جمانة الغلاي، لموقع “الحرة” إنه “لم يرد في أي قانون متعلق بالعملية الانتخابية نص حول تحديد سقف للدعاية الانتخابية، لكي تلزم المفوضية المرشح بذلك”.
وأفاد رئيس الإدارة الانتخابية في المفوضية سابقا، مقداد الشريفي، في حديثه مع موقع “الحرة”، أنه “كان هناك مشروع قانون ينص على ذلك سابقا لكنه لم يمرر”.
وأكد المسؤول الحالي في المفوضية، عماد جميل، أن نظام الدعاية الانتخابية لا يحدد سقفا للإنفاق عليها بالفعل، لكنه أشار إلى أن “قانون الانتخابات به سبع فقرات، بدءا من المادة 32 وحتى 37، كلها عقوبات تحد من هذه العمليات”، مضيفا أن “قانون الأحزاب يتابع أيضا موارد الأموال والتمويل”.
وقال لموقع “الحرة”: “نحن لا نعتمد فقط في عملنا على قانون الدعاية الانتخابية، ولكن هناك تسعة أنظمة تنظم عملية الاقتراع والانتخابات بشكل عام، بدءا بالمراقبين والمرشحين والوكلاء إلى الدعاية الانتخابية”.
“رصد التمويل عند البذخ”
وأوضح جميل أن “معظم المرشحين تابعون لأحزاب، ويبلغ عددهم 2300 مرشحين أحزاب والمستقلين 900 تقريبا”.
وأكد أن “قانون الأحزاب يخضع لضوابط وموارد الأموال والتمويل واستخدام موارد الدولة ونفوذها، كل هذه الأمور يتم متابعتها”، مشيرا إلى أن المفوضية لديها “فرق رصد منتشرة بعموم العراق، تصل إلى 1079 فريقا بالإضافة إلى فنيين في المحافظات المختلفة”.
وقال: “هذه الفرق ترفع تقاريرها حول الأموال المصروفة والدعاية الانتخابية المنتشرة بالعراق وكل الدوائر الانتخابية يوميا”.
يشير جميل إلى أنه “لم يتم رصد إنفاق أموال ضخمة في الدعاية الانتخابية إلى حد البذخ حتى يتم متابعة ورصد مصادر الأموال، لأنها عبارة عن بوسترات (ملصقات دعائية) وهي مسألة طبيعية”.
لكن رئيس جمعية الحريات الصحفية في العراق، مصطفى ناصر، يقول لموقع “الحرة”، إن هناك بالفعل قوانين أخرى مثل قانون النزاهة، “لكنها لا تطبق على أرض الواقع، فنحن لم نر استدعاء لسياسيين أو أحزاب لسؤالهم عن مصادر تمويلهم”.
وأضاف “معظم السياسيين في العراق الآن أثرياء بشكل فاحش رغم أنهم لم يكونوا أثرياء قبل عدة سنوات فقط، والقانون لا يحاسبهم، كيف يلزمهم القانون في الدعاية الانتخابية”.
تؤكد الغلاي أيضا أن المفوضية تتابع مصادر تمويل الأحزاب بالفعل، لكننا “ليس لنا دخل بالسقف الانتخابي، هذا عادة المفروض يقر بقانون والمفوضية فقط تطبق القانون”.
وعند سؤال الغلاي إن كان عدم وجود سقف للدعاية، يضع الانتخابات العراقية أمام إشكالية دور المال السياسي وترجيح كفة أطراف على أخرى، قالت: “بالتأكيد”.
شراء الأصوات ومقاطعة الانتخابات
يشير المراقبون إلى أن بعض المرشحين للانتخابات العراقية يستغلون كثيرا من الثغرات ويلتفون حول القوانين، وأن هناك طرقا أخرى لاستخدام المال السياسي في الانتخابات.
يقول مدير المركز العراقي الأسترالي للدراسات، أحمد الياسري، لموقع “الحرة” إن “كل الكتل الموجودة المرتبطة بالبرلمان الحالي تستخدم حضورها في الوزارات والدوائر الحكومية وسيارات الدولة للدعاية الانتخابية وهذا واضح للعيان”.
ويقول ناصر: “على مستوى مناطق شمال وغرب بغداد، هناك استخدام للمال السياسي واستغلال للإمكانات الحكومية من قبل بعض المرشحين”.
ويوضح: “على سبيل المثال ‘الدائرة 12’ (المنصور والعامرية) صار بها نوع تعبيد طرق وإنارة شوارع، وإصلاح كابينات الكهرباء، بجهد حكومي مفترض، لكن بعض المرشحين يقولون ‘إننا من أصلحنا هذا’، بحكم وجودهم في السلطة أو البرلمان وعلاقتهم بوزراء معينين يوجهون بدورهم المهندسين والفنيين بإصلاح مثل هذه الأشياء، وفي بعض الأحيان يدعون أنهم كانوا وسطاء”.
أما على مستوى جنوب العراق، فيقول ناصر: “هناك ترغيب مادي مثل شراء بطاقات انتخابية، أو تمكين الناخبين من الحصول على قروض من المصارف، ووعود بضمهم في الرعاية الاجتماعية وغيرها”.
يوضح ناصر كيفية “شراء” بطاقات انتخابية، قائلا إن “بعض المرشحين أو العاملين معهم، يتفقون مع مواطنين يكونون غير مكترثين بالانتخابات، بأن يذهبوا.. ويعطوا أصواتهم لكتلة معينة مقابل مبلغ مالي يبدأ من 50 ألف دينار (30 دولار) حتى ٢٠٠ دولار”، مشيرا إلى أن “هذا يحدث في مناطق كثيرة، ما جعل الكثير يرى عدم وجود فائدة من الانتخابات ويؤيد مقاطعتها”.
وتشير وكالة فرانس برس، إلى أن حماسة الناخبين الـ25 مليونا تجاه المشاركة تبدو ضعيفة في بلد يقبع نحو ثلث سكانه في الفقر، وفق الأمم المتحدة.
وأذاع برنامج تليفزيوني على قناة الشرقية العراقية، تسجيلا صوتيا مسربا قال إنه لمرشحة في الانتخابات العراقية الحالية وهي تطلب تجميع أكبر عدد من صور البطاقات الانتخابية، وأن السعر يرتفع كلما أحضر الشخص صور بطاقات أسرته وأقاربه.
ويعاقب القانون من أعطى أو عرض على ناخب أو حمله للتصويت على وجه معين لنفسه أو لغيره.
من جانبها قالت الغلاي إن مفوضية الانتخابات، بالفعل استبعدت أحد المرشحين “بسبب ضلوعه في شراء بطاقات الناخبين، لأنه خالف شروط الحملات الانتخابية”، مشيرة إلى أن “المفوضية تستقبل الشكاوى سواء كانت من اللجان أو المرشحين أو المواطنين أو من أي جهة، لكن لابد أن تقدم بدلائل ثبوتية، وبالتالي ستتخذ الإجراءات بحق كل المخالفين”.
آلية استبعاد المرشحين
وأكدت أن “مفوضية الانتخابات تتخذ الإجراءات سواء كان بغرامة أو حبس، ووصل إلى إلغاء المصادقة على عدد من المرشحين بسبب مخالفتهم لنظام الحملات الانتخابية ونصوص القانون وعلى مرشحين خالفوا وثيقة السلوك الانتخابي”.
ومن ضمن الأحكام الجزائية على المخالفات الانتخابية “يعاقب بالحبس لمدة لا تقل عن شهر أو بغرامة لا تتجاوز المليون كل من علق لافتات انتخابية خارج الأماكن المخصصة لها، فضلا عن جزاءات أخرى لمن تعدى على حملات انتخابية لمرشحين آخرين، أو استعمال القوة في حق أحد المرشحين”.
وقالت الغلاي إن “مفوضية الانتخابات شكلت لجنة رئيسة ولجاناً فرعية في كل مكاتب المحافظات الانتخابية، فضلا عن أن المفوضية نسقت عملها مع أمانة بغداد والدوائر البلدية من خلال مذكرة تفاهم بغرض دعم وإسناد اللجان في متابعة الحملات الانتخابية، والدوائر الانتخابية للمتابعة في عموم العراق، كما نسقنا عملنا مع هيئة الإعلام والاتصالات لمساندة المفوضية في متابعة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي”.
وأضافت أن “هذه اللجان رصدت أكثر من 160 مخالفة، تم رفعها من قبل اللجان الفرعية إلى اللجنة الرئيسة في المكتب الوطني، والتي ترفعها بدورها إلى قسم الاستشارات والقانونيين المختصين في هذا الجانب”.
وأشارت إلى أن بعض المخالفين تم إبلاغهم بإزالة هذه المخالفة وبالفعل قاموا بذلك.
وفي حال استمرار بعض المرشحين في ارتكاب المخالفات قالت الغلاي إن “قسم الاستشارات سيرفع تقريره والتوصيات لمجلس المفوضين لغرض اتخاذ الإجراءات اللازمة بحق المخالفين”.
وأكدت أن المفوضية استبعدت “ستة مرشحين حتى الآن، اثنان منهم بسبب الوثائق المزورة واثنان لمخالفة شروط الحملات الانتخابية واثنان لمخالفة قواعد السلوك الانتخابية”.
وأضافت “مفوضية الانتخابات قامت باستبعاد أحد المرشحين لمخالفته لشروط وثيقة السلوك الانتخابي وهي مبادرة من رئيس الجمهورية وضعت بنودها مفوضية الانتخابات بالتعاون مع الأمم المتحدة، والتي تنظم مسارات العملية الانتخابية وتمنح تكافؤ الفرص وتمنع السب والقذف والتشهير”.
واستبعدت المفوضية بالفعل، الاثنين، المرشح وعضو مجلس النواب السابق، شعلان الكريم، من الانتخابات، “لأنه خالف المادتين 10 و11 من نظام الانتخابات المتعلقتين باستخدام السلطة وموارد الدولة في دعايته الانتخابية”، بحسب جميل، رغم أنه “عنده نفوذ وثقل في البرلمان، وأثبتنا مخالفته للنظام الانتخابي”.
لكن القضاء أعاد الكريم إلى الانتخابات، الأربعاء، بعد أن طعن على قرار المفوضية، بحسب ناصر، “بالرغم أن هناك دلائل وتصوير فيديو على استخدامه للمال العام في دعايته الانتخابية”، مشيرا إلى أنه مقرب من رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي.
لكن الغلاي نفت في حوار عبر موقع “أن آر تي” الأنباء التي ذكرت أن الحلبوسي “ضغط على مجلس المفوضية للعدول عن قرارها”، مشيرة إلى أن “قرار الاستبعاد (الصادر عن المفوضية) غير بات وقابل للطعن أمام الهيئة القضائية”.
تكافؤ الفرص.. الدعاية ليست العائق الوحيد
ويطالب المسؤول السابق بالمفوضية، مقداد الشريفي، وضع حد للإنفاق على الدعاية الانتخابية، مشيرا إلى أن “بعض المرشحين يستند على حزب متنفذ ولديه سلطة أو إعلام منتشر، وبعض المرشحين الآخرين ليس لديهم هذه الأدوات”.
بالتالي يرى الشريفي أن “تحديد السقف يعطي مسطرة واحدة وتكافؤ فرص، ويسمح للشباب والنساء بالمنافسة”.
لكن جميل يرى أن الانتخابات يمثل فيها الجميع، ويقول: “نسبة النساء المرشحات في هذه الانتخابات 950 امرأة وهو ما يعني الثلث وأكثر من الثلث الآخر من الشباب، فلذلك الكل مشمول بالانتخابات”.
في المقابل، يرد ناصر بأن فكرة وجود ثلث المرشحين من النساء لأن هناك كوتة الكل ملزم بها.
أما الشباب، فيؤكد ناصر أن “إشكالنا مع القانون أنه لا يسمح للشباب بالترشح أساسا، فالقانون حدد العمر بألا يقل عن 35 سنة، في حين أن كل البرلمانات في العالم من 25 سنة وما فوق، لذا أنا أرى أن القانون يحرم الشباب أصلا من الترشح خاصة وأن الغالبية العظمى ممن ثار على النظام والسلطة الحالية منذ أكتوبر 2019 كانوا دون الثلاثين عاما”.