عابر قارات في معارض الكتب..
بغداد – أوراسيا للنشر
نصف قرن ونيف بين روايتيه الأولى والأخيرة
رواية برهان الخطيب الصادرة في التو (عابر قارات) تتصدر حديقة دار الشؤون الثقافية الغناء بمعرض بغداد الدولي للكتاب المفتوح للجمهور أياما مضت، أيضا في معرض الرياض مؤخرا، رواية تواصل كشف بل سبر ما يخفى في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية تحت سطح، منظور غير منظور، في حضور باهر يتكامل مع حضور روايته السابقة (نجوم الظهر) جوارها، الصادرة أيضا عن دار الشؤون، رواية تتناول بالتشويق والتحليل أول انتخابات ديمقراطية في العراق (عام 1954) على خلفية حياة القهوجي جسار، سليل العز المتدهور إلى هوان، حياة مزحومة بالكثير من المآسي والتقلبات..
(الجنائن المغلقة) الصادرة قبل عقد عن الشؤون أيضا غائبة هذه المرة عن العرض، لنفاد جميع نسخها كما يشير مسئول الخزن..
الرواية الحالية (عابر قارات) عن فترة ما بعد سقوط السوفييت، فيها شخصية صلاح الشيوعي، الذي يتعرف القارئ عليه في روايات سابقة للخطيب، لكن صلاح هنا ليس صلاح ذاك هناك، الأوقات تتغير. ويشكل تراجع وظهور هذه الشخصية في (عابر قارات) تلخيصا عميقا لمرحلة تاريخية تتسم بالكثير من التعقيدات فيها يتغلب العامل الإنساني على الفكري خلال بلورة مواقف صلاح الأخيرة.. كما عند غيره..
بين الرواية الأولى لبرهان الخطيب (ضباب في الظهيرة 1967) والصادرة مؤخرا (عابر قارات 2021) هناك العديد من الروايات له، شكلا غالبيتها كلاسيكية المبنى، حدث متنام، شخصيات متصارعة، خاص داخل عام، عام داخل أبدي، تبدأ قراءة واحدة منها لا فكاك من قراءتها حتى نهايتها، انتقالا إلى أخرى، حتى تأتي عليها جميعا مستكملا صورة حية للماضي. في المحتوى تجدها حداثية، مستقبلية المنحى، بمعنى ساعية عبر الماضي إلى كشف عن ملامح مستقبل غير منظور، إلى مشاركة ثقافيا في تأسيس عالم جديد، ذلك اعتمادا على بنية سردية مرنة، متفاعلة مع ما هو موجود راسخ في المجتمع، أي الجوهر الديني والطبقي والتحرري له، في حذر متحسبة من سطوة القديم على السرد، تحليلي أو تصويري، مثلما من غدر من عربدة الجديد، خاصة في موقف حسي، ساعية نحو خلق هامش فكري خاص لها، مساعد على مخاض، محرك إلى أمام بروية، متوجس من داينمو أو محفز حركة خفي سائد متعنت معتاد، النتيجة رواية متفهمة لا مستفزة لما يحدث في المجتمع، ذلك التناغم يتجلى في (عابر قارات) الحالية جليا خلاف بنية روايته الأولى (ضباب..) النضالية القائمة انطلاقا حينه من رؤية كاتب شاب محدود تجربة، إلى عالم واحد محدد حوله تهيمن عليه نظريات ثقافية تتآكل أمام نظره الفتي، تحليله الصارم، ما يجعل السارد في خاتمة ضباب (يبصق على عالمه) يعتزله.. خروجا اليوم عند خاتمة تجربته الروحية والمادية إلى اكتمال رؤية، بنية سردية، محتضنة عوالم متعددة متجاورة، متعايشة، متصارعة، ذلك بيّن في بنية بل قلعة سرد روايته الكبيرة (عابر قارات) الأخيرة القائمة على تكامل تأريخ معرفي واسع عريق بعد أكثر من نصف قرن في التأليف والترجمة والتنقل في الزمكان..
مع مرور أكثر من نصف قرن على بدء مشروعه الإبداعي العريض، حسب تشخيص زميله عبد الرحمن مجيد الربيعي، يواصل الخطيب ب كما هو واضح من روايته الأخيرة تطوير بنيته السردية مقدما إلى الساحات الأدبية عراقية عربية عالمية أعمالا روائية ناجحة إلى مستوى يجعل مكتبة فرانكلين المرموقة الأميركية تصنف روايته (الجنائن المغلقة) الصادرة عام 2000 وثيقة حكومية لوفرة ومصداقية التفاصيل الواقعية فيها ونجاح مؤلفها في صياغتها فنيا روائيا، ومع بروز ملامح بنية سردية أدبية جديدة له تتمثل في صياغته نوعا أدبيا جديدا من السرد الفني (رواية سيرة ) في (عابر قارات) قبل ذلك ملمح أو صنف (قصص رواية) في عمليه السابقين (أخبار آخر الهجرات) 2015 (أخبار آخر العشاق) 2017 أيضا (ذلك الصيف في إسكندرية) 1992 كل ذلك يخبر عن تكامل واكتمال مشروعه الأدبي العريض ظاهرا بارزا في موسوعات أجنبية عديدة تضم نماذج منتقاة من الأدب العربي الواسع عبر عديد مراحله وتطوره الطويل، موسوعات معروفة منها روسية، سويدية، ألمانية، أمريكية، هنغارية..
تتجمع لدى باحث كما علمنا مؤخرا أسباب مقنعة جديدة عديدة لوضع دراسة وأخرى عن البنية السردية هذه المرة في روايات المؤلف الخطيب، تأريخها، فحواها، دراسة تعين حركة الأدب عموما، عراقية أو غيرها، على تبين واستثمار واحدة من تجارب بل مآثر النفس العراقية، قدرتها على التجدد والنماء منذ أيام بابل القديمة ونفائسها القانونية والرياضية والاستشرافية البعيدة كما في رحلة كلكامش الشهيرة إلى الأعالي، مآثر متمثلة هذه المرة في رحلات وتجارب الخطيب الأدبية الطويلة، في الخارج والداخل، المثمرة نتيجة موهبة واضحة والبقاء لصيق هموم الوطن كل العمر في إصرار على تجاوزها والإبداع حتى في أسوأ ظروف عانى المؤلف منها كثيرا، غربة مديدة نصف قرن، لم تنجح مطلقا في إبعاده عن درب الإبداع والوطن، ها هو عام 1973قبل عقود يصرح لمجلة ألف باء: (لم ابتعد عن وطني يوما لأني أحمله في قلبي دائما) وما زال يحمله في قلبه وإبداعه أنى وأيان كان..
هناك أكثر من معنى لمفهوم بنية السرد عنده، واحد يتابع تطور السرد لغويا فكريا فنيا، كيفية تشكيل الصورة، توظيفها في سياق جاهز، ذاتي أو عام، معنى آخر أبعد يتشكل ضمن فن تركيب الحقيقة، انطلاقا من المنظور، إلى تشكيل رأي خفي عنها ينافس المحظور، غير السائد صعب الاختراق، حقيقة هنا ذات عدة أوجه كما يراها روائي يجمع تناقضات مجتمع على مسرحه الأدبي يصوغ رؤية، تساهم في صنع حركة للمجتمع ذات جدوى، لا هدامة.. تلك الحقيقة أو الرؤية يركبها فنيا، تختلف طبعا من كاتب إلى آخر، أيضا من كاتب في بداياته عنها في نهاياته عند خاتمة مشروعه الروائي ونضوجه الفني والفكري بعد عمر طويل يستهلكه في مراقبة مجتمعه وغيره، إلى صياغات استنتاجاته الفكرية تجسيدها روائيا، حركة شخصيات، مدركة وغير مدركة، قبلها استنباط الشخصيات الروائية ومشاكلها وأساليب معالجاتها على طريق حلها في محصلة ضمن بنية السرد..
ليس مصادفة إذاً تصريح الروائي برهان الخطيب في جريدة (المراقب العراقي) عن ضرورة أن يكون في كل دولة كاتب يراقب حركة المجتمع، انعطافاته، ليصار إلى صياغتها فنيا روائيا في صالح تلك الحركة لا إرباكها بمزيد من ثرثرة متفشية مؤدية إلى تدمير مجتمع في النهاية مع تحيز الكاتب الروائي إلى أحد جهات الصراع الاجتماعي، إلى تأجيج نيران اجتماعية لا إطفائها أو تنظيمها لتصير منارا دفئا للناس.
بعد نصف قرن ونيف يعتلي الروائي اليوم بروايته الجديدة (عابر قارات) إلى حقائق أسطع، أوضح، مع بنية سرد لها عدة وجوه مثل الواقع ذاته، تفرز أمام القارئ العديد من الصور المتفاعلة عن المجتمع، بدل واحدة جامدة متصارعة تمزق إحداها الأخرى. الرواية يجدها المهتم بثقافة بلده ومستقبله في معارض الكتب العامة والخاصة بدار الشؤون الثقافية لوزارة الثقافة العراقية.
أخبار أورسيا للنشر