على مدى نهار كامل في كل أوقاته ، لم تتوقف الحركة بين مقرنا وبين ذلك الوادي الواقع خلفه في منطقة وعرة والذي انتقلنا إليه منذ الصباح ، حيث انقسمت المفرزة إلى عدة مجاميع ، كل واحدة منها كلفت بمهمة معينة لاعداد مستلزمات الانسحاب والحراسة علاوة على التناوب لغرض الاستحمام وغسل الملابس وما إلى ذلك ، وعصر ذلك اليوم أي في 25-8- 1988 تجمع جميع أنصار لجنة تلكيف في ذلك الوادي ، حيث جرى الاتفاق على أن نبدأ الحركة من هناك ، (زيكو ) الذي كان يحمل على ظهره كل ما كنا نعتقد بأننا بحاجة إليه في عملية الانسحاب كان لا يستكين ويدور بين الأنصار ويشم هذا وذاك وشحيجه يملأ مكان التجمع لا يتوقف عن مد رقبته أينما وجد عشبا ليأكله والرفاق منشغلين بتعديل حمله وشده وتبديل حاجة بحاجة أهم ، وهكذا إلى أن اقتنعنا بأننا اخذنا معنا على ظهره ما هو مفيد فقط ، وقبل أن تفترش ضلال ما قبل الغروب ويحل الظلام ، تلا النصير أبو أمل القائد العسكري لأنصار لجنة تلكيف توجيهاته بخصوص وجهتنا والطرق التي يمكننا الخوض فيها لتجنب المخاطر المحتملة قدر الإمكان ، مشيرا بأن رفاقنا الاخرين قد اتخذوا طريق الانسحاب الذي سنعتمده نحن أيضا ، فيما توضحت الأمور، أكملت المفرزة شد الرحال للخوض في تلك الوجهة المجهولة العواقب وسط مخاطر شديدة ، فأعدادا كبيرة من قوات النظام أصبحت تحاصرنا وهي تدك بعنف غير مسبوق كل ما تعتقده من مصادر فيها أسباب تساهم على بقاء الأهالي مواطني تلك المناطق المحاصرين والمفارز المسلحة من الأنصار والبيشمه ركه وبه ركري ملي على قيد الحياة ، كانت أصوات الانفجارات الشديدة لاتتوقف المرة وهي تتداخل وتصل إلى مسامعنا بشكل مرعب كونها تنطلق من ألف مصدر ومصدر وألسنة النيران حسب نقاط الحراسة التي كانت تؤمن تواجدنا كانت ترتفع عاليا ودخانها أصبح يعانق السماء في كل مكان .
إذن إنها حرب شاملة ومدمرة وفتاكة تحرق كل شيء في طريقها ، لا نختار نحن طبيعة خوضها إنما ستفرضها تلك القوات التي كانت تتقدم نحو كارا وهي مدججة بأسلحة كيماوية ، إذ لم يكن بإمكان المقاتلين مقاومتها مهما كانت عزيمتهم ومهما كان اندفاعهم وإخلاصهم لقضيتهم . فالمرء عندما يحمل السلاح بدافع من الضمير والقناعة دفاعا عن قضية يؤمن بها إيمانا راسخا يمكنه أن يحقق مآثر و بطولات في أشرس المعارك مع عدوه ، ولكن الأمر يختلف في هذه المعركة إذ اصبحنا في مواجهة الأسلحة الكيماوية الفتاكة التي لم يتردد النظام استخدامها لأبسط الأسباب ، إذ أستخدمها في العديد من المعارك مع قوات الأنصار والبيشمه ركه وضد الشعب الكوردي في مناطق عديدة من كوردستان . وبالرغم من ان قوات الأنصار الأنصار والبيشمه ركه و قوات المقاومة الشعبية كانوا يدركون أن مواجهة مثل هذه الأسلحة ومقاومتها والصمود في وجهها هي مهمة مستحيلة ، فإنهم امتنعوا عن الاستسلام لها ولكنهم باتوا يشعرون أنهم بحاجة إلى أسلوب آخر من النضال للتصدي لهذه الهمجية ، وهو التطلع إلى المساندة الدولية ، وفي الواقع أصبح واضحا أن هذه المهمة لا يمكن لها أن تتحقق في ظل المعادلات الدولية التي ظلمت الشعب العراقي بشكل عام والشعب الكوردي بشكل خاص ، فالمجتمع الدولي لم يحرك ساكنا وصادقا إزاء قضيتنا ولم يتألم أو يؤنبه ضميره عندما كان يراقب معاناتنا وفجائعنا في ظل جبروت نظام صدام وجرائمه ، إلا عندما تعرضت مصالحه إلى التهديد والخطر من نفس هذا النظام الذي جرى أسقاطه دون أن تدخل في حساباته بمجملها مصلحة الشعب العراقي ، الذي لازال يعاني أشد الويلات أثر أسوأ بديل مفروض لا يستحقه الشعب العراقي .
تحركنا وكما قلت في وقت متأخر من النهار ، آخذين بنظر الاعتبار ضرورة اختيار ممر لا يجبرنا المرور عبر (سى ده را) بل المرور بجوارها وكان ذلك إجباريا ، ولم يكن بالإمكان تحقيق ذلك دون أن نسير في وديان وشعاب غير مستطرقة سابقا ومجهولة وغير معروفة بالنسبة لنا ، ولكن كونها مناطق قريبة من المقر وكذلك ضمن منطقة عملنا ، كنا نعرف كيف ندخل إليها و نخرج منها ، هكذا أنطلقنا من ذلك الوادي باتجاه قرية آطوش ، ولكننا انحرفنا يسارا إلى أن وصلنا إلى سفح سلسلة جبلية منحرفة من جبل كارة تشرف على (سى ده را* See Dara) بعد حلول الظلام مباشرة ، من الجهة التي كنا نرغب أن نصلها أي من جهة ( كاني بوتكى*Kani Botke )* التي تقع بين “سى ده را” وقمة الجبل المشرفة على (به رى كارة) وذلك على الممر الواصل إلى قرية (بهى Behe * ) . كان علينا أن نكون حذرين جدا ونحن نسير في ممر ضيق غير مستطرق يخترق سفح الجبل الذي يشرف على المقر ، إذ أنه كان يضج بحركة واسعة وأصوات كثيفة ومسموعة كانت للقوات المتقدمة على الأرجح ، والتي أحتلته على ما يبدو منذ وقت قصير ، وكانت النيران تنتشر في أماكن عديدة من المقر ، وهذا الأمر كان يدل على مغادرة قوات حدك للمقر وهذا ما جرى تأكيده من قبل رفاقنا فيما بعد ، فقد كان من المستحيل أن تعمل قوات البيشمه ركه على إشعال نيران بهذه الكثافة في ظل هذا التقدم الواسع ، وعلى أثر ذلك كنا نخشى كثيرا من ما كان حوافر زيكو تصدره من أصوات ، حيث كان يمكن أن تتظاير الحجارة من تحت أرجله وتتدحرج إلى الأسفل ، فقد كان يحمل عنا الكثير من ما كنا لا نستطيع حمله ، ومما يذكر إن المسافة بيننا وبين المقر لم تكن بعيدة ، كان يمكن أن ينكشف أمرنا بسهولة لو اصطدمت حوافره أو قدم أي واحد منا بحجارة كبيرة أو حتى صغيرة وزحزحتها من مكانها وتدحرجت إلى الأسفل . فبحبس الأنفاس وبذل جهد كبير مع زيكو أصبح مقر (سى ده را) خلفنا محاولين وعلى عجل الوصول إلى الممر الجبلي المستطرق والمعروف بالنسبة إلينا ، كل هذا و أصوات الإنفجارات من كل صوب لم تتوقف البته .
تنفسنا الصعداء بعد الوصول إلى الطريق المؤدي نحو وجهتنا رغم أجواء القصف والحرق والنيران المشتعلة ، و أصبح كل شئ يسير بشكل طبيعي كما خططنا له وأعتبرنا بأننا قطعنا شوطا مهما من عملية الانسحاب ، واصلنا السير بأتجاه (زوم)* (سه فرا)* الخربة التي لم تكن بعيدة كثيرا من المكان الذي ولجنا فيه على الطريق ، وكلما كنا نقترب منها كنا نتأكد إن النيران المشتعلة بكثافة على السلسلة الجبلية جنوب خط سيرنا هي لمجاميع من الجحوش الكثيرة التي كانت تتقدم عبر باكرمان وسهل نهلة . هناك في سه فرى توقفنا قليلا في استراحة قصيرة ومن أجل التدخين و لمراجعة حساباتنا على ضوء ما كنا نشاهده من تقدم ، ثم واصلنا المسير مرة أخرى ، بعد مسافة قصيرة من تقدمنا لم تأخذ منا أكثر من 15 دقيقة ، سمعنا أصواتا تتقدم نحونا ، أخذنا استعداداتنا القتالية تحسبا لأي طارئ ، ولكن سرعان ما تبين أن القادمين نحونا هم من المدنيين ، حيث كانوا من أهالي قرية (كانيا باسكا ) المذكورة ضمن المحطات السابقة عدة مرات وكان يتقدمهم شابا صغيرا في مقتبل العمر اسمه هاشم وهو أبن مام نجمان الذي يسكن القرية مع أخويه مام أوصمان وميرزا ، كنت على علاقة طيبة بعائلة هاشم التي استمرت إلى أيام دهوك بعد الانتفاضة ، تحدث لنا هاشم كيف أنه مع بقية عائلته وضمن أعداد كبيرة من الناس وصلوا إلى وادي قرية كافيا التي يسكنها أبناء عشيرة الزيبار وتراجعوا بعد ذلك ، عندما وصلت أخبارا تشير إلى أن الطريق الوحيد المفتوح المتبقي أمام هذه الأعداد الكبيرة سيطرت عليه قوات الجيش في قرية كافيا ، و في سياق حديثه أشار إلى معارك طاحنة خاضها بيشمه ركه قاطع أربيل للحزب الشيوعي قبل هذا الوقت على معبر (روي شين ) أنقذوا خلالها أعداد كبيرة من العوائل وكبدوا العدو خسائر فادحة.
كان قلق هاشم كبيرا وهو الرجل الوحيد من بين أفراد عائلته يتقدم ويقود عددا من النساء والأطفال وسط وضع صعب لم يفهمه ولم يكن قد خاض تجربة مشابهة لهذه من قبل، أكد هاشم بأنه يريد العودة مع من كان يرافقه إلى قريته على أمل أن يلتقي هناك مع بقية أفراد عائلته وعوائل أعمامه الذين فقدوا بعضهم بعضا أثناء التراجع وذلك لكي يقرروا مصيرهم بشكل مشترك ، ولكن هذه العملية الشرسة لم تترك لهم ولا لغيرهم من الأهالي خيارا يقررون بواسطته مصيرهم سوى خيار الأنصياع لهمجية النظام وعنفه في هذه الحملة أو الموت ، ومن جانبنا أوضحنا له خطورة الموقف و قلنا له إن مقر حدك في (سى ده را ) أصبح الآن محتلا من قبل قوات الجيش والجحوش ، ونصحناه بان الذهاب باتجاه قريته هو مغامرة نحو مصير مجهول وضياع حتمي .
وأثناء الحديث مع هاشم والأسئلة الكثيرة التي وجهناها له ، عرفنا منه أن هذه الأعداد الكبيرة من البشر النازحين أصبحت تتراجع ، بينها مفارز عديدة من قوات الحزب الديمقراطي الكوردستاني وقوات محلية نينوى لحزبنا الشيوعي العراقي وعوائل أنصارنا وذلك نحو جبل كاره للاحتماء به ، لأن القوات المتقدمة أصبحت تحاصر هذا الجبل بشكل تام ، أي إن طوق الحصار أكتمل من كل الجهات ، وهذا ما كنا نلاحظه أولاحظناه بأم أعيينا على الأقل على مستوى جهة (سوارة توكه) عن طريق (سوارى وسبيندارى) وجهة أتروش وثم باكرمان ودينارته ، وحسب تأكيد هاشم فإن أهالي القرى الذين يعدون بالآلاف ومفارزنا أصبحت تتراجع أمام تقدم قوات النظام الزاحفة من العمادية وديرالوك وغيرها من المدن إلى تلك الممرات ومنافذ الانسحاب كافة من جهة بارزان وغيرها وأخيرا كافيا ، وعرفنا كيف أن عوائل أنصارنا لم تستطع العبور عبر منفذ (آشه وا*Aashawa ) بالقرب من سرسنك ، وهذا كان يعني تماما إننا في حصار مغلق من كل الجهات .
ودعنا هاشم ومجموعته والحزن والقلق كانا يخيمان عليه وعلى كا من معه من الأطفال والنساء ، واستغلت النساء وقت الحديث مع هاشم للجلوس على جانب من الطريق للاستراحة والبكاء بسبب أنقسام عوائلهم وعدم معرفة مصير البقية وبسبب متطلبات الأطفال التي لم تكن قابلة على التحقيق ، فقد كان أقل طلب لهم هو الحصول على فرصة نوم إذ حرمو منه ربما منذ عدة أيام .
كان النهار الذي قضيناه في مرانى والوادي الذي كان يقع خلفه ، كفيلا باستعادة حيويتنا ونشاطنا الجسماني ، فقد كانت قوانا كافية لخوض انسحاب طويل رغم كل ما كان يحيط بنا من احباطات ، بدأنا مرة أخرى مسيرتنا نحو (سيان*Siyan & وأركنى* Ardene ) و كنا ننتظر مفاجآة الطريق وما تحمله لنا من الأخبار ، لعل أن يكون بينها ما يرفع الغم عنا ، أما رفع المعنويات فلم نكن ننتظرشيئا بشأنها ، أو ما يساهم على تعزيزها في ظل كل ما كان يدور حولنا وما نراه ، وببساطة فقد اعتبرنا ذلك أمرا طبيعيا كان يمكن أن نتعرض له في أي وقت ونحن نخوض كفاحا شرسا مع نظام همجي شرس ، ولكن هم عوائل أنصارنا وهم آلاف الناس من أهالي تلك القرى الذين كانت تتقاذفهم تلك الممرات الجبلية تحت ضغط التقدم الواسع ومصيرهم المجهول هو ما كان يصيبنا بأوجاع لا شفاء منها ولا طاقة لنا على تحمل المزيد منها .
أصبحت الإطلاقات التنويرية ترتفع إلى السماء من كل جهة وصوب ، تطلقها مختلف أنواع الأسلحة وغالبا ما كانت تتحول هذه الجهة أو تلك إلى ما يشبه النهار بسبب كثافتها ، وأطلاقات التنوير التي تعد بآلاف كثيرة والتي كانت تنطلق من الأسلحة الخفيفة كانت تطرز سماء المنطقة على شكل خطوط حمراء وصفراء لم تكن تتوقف أو تغادره ولو للحظة واحدة ، وأصوات الإنفجارات لم تتوقف ، ونحن لازلنا نخوض الطريق المتجه صوب “كه لي كافيا” عبر قريتي (ئه ركنى وسيانى )* ولم نكن نعرف في أي نقطة سنلتقي بجموع الناس ورفاقنا وعوائلنا المتراجعين حسب تأكيد هاشم .
بينما كنا ننوي أخذ قسط من الراحة في كه لى (سيانى ) التي وصلنا إليها فجرا بدأت مجاميع المتراجعين تظهر لنا وهي تتوجه صعودا تشق طريقها نحو كارة وبدأت قوات النظام المرابطة على قمم جبل في الجهة المقابلة واضحة لنا بالعين المجردة .
سنواصل رواية ما تبقى في المحطات القادمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-زيكو – بغل السرية قبل أن تتحول إلى لجنة تلكيف ، إذ رافقها لسنوات عدة وتحمل أعباءها من الحاجيات والأسلحة والأعتدة والمواد الغذائية .
– ( كاني بوتكى )*عين ماء تقع في منطقة عالية من جبل كارة من جهة سى ده را أي بينها وبين قرية بهى وفي ما يشبه على شكل حوض مقوس وعلى جانب منه في الجهة الجنوبية وكانت المياه التي تتدفق منها لا تزيد عن ما تدفعها أية حنفية منزلية ولكنها كانت مياه عذبة تتميز بشدة بردوتها ، في الصيف كان عدد من الرعاة يقضون عدة شهور بجوارها مع قطعانهم وخلال فترة الحصار أصبحت هذه العين المصدر الوحيد للماء ، يرتوي منها هذه الآلاف من البشر المحاصرين .
– (زوم)* مراعي صيفية في الجبال يتوفر فيها مستلزمات تربية الماشية . يذهب إليها الرعاة مع قسم من عوائلهم ، ولذا تجد لكل منطقة مراعيها الخاصة .
– (سه فرا)* كانت في السابق قرية وتحولت فيما بعد إلى أحدى هذه المراعي ومن ثم سكنتها بعض عوائل البيشمه ركه التابعة للحزب الديمقراطي الكوردستاني .
– (ئه ركنى وسيانى )*قريتان تقعان في نهايات كارة من جهة الجنوب الشرقي التي ترتبط بمنطقة الزيبار وتعتبر من المناطق الجميلة جدا وتسكنها عوائل زيبارية .