انتصرت تركيا دبلوماسيا وسياسيا وعسكرياً، في السنوات الماضية، مقارنة بما حصلت عليها روسيا وأمريكا في جغرافية الشرق الأوسط، وتمكنت من احتلال جزء واسع من سوريا، كما ودخلت الساحة العسكرية العالمية من أبوابها الواسعة، وقد أصبحت إحدى الدول المصدرة للسلاح، عقدت صفقات تجارية لبيع (دروناتها- بيرقدار) بعدما جربتها وشهرتها في حرب أذربيجان وأرمينيا، وفي غرب كوردستان، وليبيا، إلى جانب مجموعة من الأسلحة الدفاعية. علما أن قرابة 80% من أسلحتها الهجومية والثقيلة هي من دول حلف الناتو، أمريكا على رأسهم، تشارك تركيا في تصنيع بعضها، كطائرات بيرقدار والتي أصبحت ذات شهرة عالمية، هي بالأصل طائرة إسرائيلية، لا زالوا يشاركون في تصنيع معظم أجزائها. ما بين عامي 2014-2018 أمريكا كانت تمول قرابة 60% من سلاحها، وقد كانت حتى عام 2018 من بين الدول الخمس الأوائل عالميا، في استيراد الأسلحة، والسادسة عشرة في التصدير، جميع ما أصدرته بعد التطور الذي تحدث عنه أردوغان السنة الماضية، بلغت قرابة 3 مليار دولار في عام 2020م علما أنها لم تتجاوز المليار والنصف في عام 2019م حسب جريدة ديلي صباح التركية، و صرفت قرابة 2 مليار دولار للشراء، إلى جانب مليارين ونصف لشراء صواريخ س-400 الروسية، وقرابة هذا المبلغ لم يتم صرفه كان مخصصا لشراء الطائرات ف 35 الأمريكية أو سوخوي 75 الروسية.
أعتمد أردوغان وحزبه على هذه المسيرة الطويلة والشاقة ليكون طرفا رئيسا في القضية السورية إلى جانب غيرها من البؤر الساخنة في المنطقة، حقق الكثير مما خطط له، دفعت المعارضة العربية السورية ثمنها، لكن رغم ذلك وكمقارنة؛ فإن نجاحه هنا لا تعادل جزء بسيط مما كسبته سلطة بشار الأسد، بل في الواقع مقابل احتلاله للمناطق السورية، قدم لمجرم سوريا الأول، خدمات لا تقل ما قدمتها إيران وروسيا، ساهم مع الدولتين في إنقاذ سلطته من الموت المحتم، بعدم مواجهته يوماً لإيران وروسيا أو حتى اعتراضه على جرائمهم، على خلفية مصالح تركيا، بل في مؤتمرات أستانة وسوتشي لم يحاول منع الدولتين عندما كانوا يعملون على فتح أبواب الساحات الدولية لنظام بشار الأسد، وجميعنا نعلم الصفقات التي تمت لتجميع المنظمات التكفيرية في منطقة إدلب، إلى أن بلغت اليوم سلطة بشار الأسد التحدث وبعنجهية عن التطبيع مع الدول العربية والعالمية، وقد روج بعض الإعلام على أن الأقنية الدبلوماسية لم تغلق بينهما طوال العقد الماضي عن طريق إيران أو روسيا.
تركيا اليوم، تطمح إلى الأكثر، وشرق الفرات من أهم الجغرافيات الساخنة التي تهمها، وأحد أهم أهدافها كدولة؛ القضاء على الإدارة الذاتية، والحزب الحاكم عليها، فإلى جانب عداوة القضية الكوردية، يراها مفتح التخلص من المعارضة السورية، مع جزء من المهاجرين السوريين لتسكينهم في شرق الفرات كما يتم في عفرين. إلى جانب أسباب سياسية حديثة انبثقت في السنتين الماضيتين، تجاوزت الطموح نحن المد الإمبراطوري، والهيمنة على المنطقة، إلى البحث عن عوامل الحد من صعود معارضته، وإيقاف تراجع شعبية العدالة والتنمية، وعدم الخسارة في الانتخابات القادمة بعد سنتين.
لن يهدأ أردوغان، لأن سلطته على المحك، فمن خلال تصريحات ممثلي الولايات المتحدة، إن كانوا التابعين لوزارة الخارجية، ومن بينهم ممثليها في سوريا والشرق الأوسط، إلى التهديد الدبلوماسي من الرئيس (جو بايدن) ذاته، حول ما تقوم به تركيا في شرق الفرات على أنها تعرقل مسار محاربة أمريكا للإرهاب، وبنبرة قوية خرجت كرسالة، تحمل وجهين، الأول على أن تركيا هي التي تعتدي على المنطقة. والثانية تبرأ قوات قسد من التهم التركية على أنها تقصف المناطق المحتلة، عفرين والباب وجرابلس وغيرها، تتبين من كل هذا إلى جانب غيرها، على أن تركيا تلاقي صعوبة في إقناع بوتين وإدارة بايدن، للحصول على محاولة أخرى مشابهة لعملياتها العسكرية الثلاث السابقة.
مع ذلك لا تزال الشكوك تدور حول ما تم في أخر مؤتمر بين بوتين وأردوغان في سوتشي. إما أنهما:
1- اتفقا على صفقة تبادل ما بين الانسحاب التركي من جنوب إدلب لصالح النظام، درستها لجانهما العسكرية، مقابل توسيع الرقعة الجغرافية المحتلة من شرق الفرات، وهذه على الأرجح لن تتم بدون مواجهة أمريكية، لربما لن تكون عسكرية، لكنها ستكون سياسية واقتصادية وعلى مستويات عالية.
2- أو أنهما اتفقتا على أن تقصف روسيا مناطق عفرين وإدلب، مقابل قصف تركي مماثل لشرق الفرات، والتغاضي عن التصريحات الاستفزازية، لروسيا وأمريكا، لأنها في الواقع موجهة لإدارة جو بايدن، ليس لإخراجها من شرق الفرات، بل كمحاولة لتقليص دعمها اللوجستي لقوات قسد، لتغيير مساراتها، ولا يستبعد غاية أخرى، كحضها على قبول الحوار مع المجلس الوطني الكوردي، وهذا سيكون مكسبا غير مباشر للمعارضة السورية، أي الائتلاف والتي تحمل الأجندات التركية.
3- لم يتفقا على القضية السورية، وهو ما أدى إلى تصاعد حدة التهم، تناولها الإعلام الروسي الرسمي من جريدة برافدا إلى القناة الرسمية، وتصريح ديمتري بيسكوف المتحدث باسم كرملين، قبل الاجتماع بإيام، وخاصة بعد كلمة أردوغان في هيئة الأمم المتحدة، على أن تركيا لم تفي بوعدها في التخلص من المنظمات الإرهابية التكفيرية في إدلب كما تم الاتفاق عليه في مؤتمر سوتشي الذي جمع بينهما وإيران، وقد رد على ذلك أردوغان فيما بعد، بذاته، متهما روسيا وأمريكا على أنهما لم يتمسكا بما اتفقا عليه على أنهما سيحدان من الإرهاب المتعرض له تركيا، وعني بها كالعادة، قوات قسد، والـ ي ب ك، أي الإدارة الذاتية.
على الأرجح أن كل هذا الحراك، له علاقة مباشرة، أولاً، بالوضع الاقتصادي التركي، والذي أصبح أكثر مما يمكن التغاضي عنه، حيث التضخم، مثلما هي في معظم دول العالم، إلى جانب التراجع الحاد في سعر العملة أمام الدولار، والمتوقع أن تهبط أكثر. ثانيا، التراجع السريع والواضح في مكانة العدالة والتنمية أمام المعارضة، وهو ما يدفع بحكومة أردوغان الترويج لتجارته العسكرية والتحدث عن معدلات النمو الاقتصادي، للتغطية على الوضع، كما ويقوم بـ:
1- خلق ضجة إعلامية، حول صراعاتها الخارجية، وعلى رأسها محاربتها لـ قوات قسد، وتصعيد اتهامها بالإرهاب، وعرض احتمالات اجتياح شرق الفرات، حتى ولو عارضتها روسيا وأمريكا، أو بدون اتفاق مسبق على ما ستنفذه قواتها العسكرية. نشر كل هذا، كما نعلم، على أعلى المستويات، من وزير الدفاع، ووزير الخارجية، إلى الرئيس أردوغان ذاته ولأكثر من مرة.
2- روجت أكثر من مرة على أنها عقدت صفقات بيع طائراتها لأثيوبيا، والمغرب، ولأوكرانيا، كما وبحثت عن صفقات حول سلاحها الدفاعي.
3- صرحت متجاوزة ارتباطاتها مع الناتو، على أنها باتفاق مع قطر قد يصلان إلى احتمالية إقناع حكومة الطالبان في أفغانستان لتدير أمن مطارها، وهذه ليست فقط لن تتم بدون موافقة الناتو وأمريكا، بل أنها قد تخلق إشكالية مع إيران وروسيا والصين. والأهمية هنا هو تأليب الجماهير لصالح حكومته من منطق مساعدة حكومة إسلامية صاعدة.
4- ظهرت في الأسابيع الأخيرة على أنها بدأت، مع أذربيجان، بمرحلة الانفتاح على أرمينيا، تماشيا مع السياسية الروسية، وذلك بعقد اتفاقيات تجارية واستثمارات في مجال المواصلات.
جميع هذه الأبعاد تروج على أن تركيا خرجت من دولة تقبل الإملاءات، إلى دولة تحاول فرض شروطها، وتتعامل مع الدول الكبرى كند، ولن تستجدي من أجل مصالحها، بل ستفرضه، وبالتالي لن تقف إلى أن يتم الاتفاق، عندما تتعرض حدودها الجنوبية مع سوريا إلى الخطر، كما تروج له ونقضها الرئيس الأمريكي (جو بايدن) بذاته، وقد كان ذلك من المنطق الدبلوماسي شبه تهديدات متبادلة بين الدولتين. لكن في الواقع العملي، لن تجازف حكومة أردوغان الخوض في صراع مع الدولتين الكبريين، فاللهجة، أو النبرة، التي صدرت بها الرسائل الدبلوماسية العلنية، عكست عدم القناعة والجرأة في نقل القول إلى الفعل، وبالتالي ستستمر تركيا بالتحرك دبلوماسيا وسياسيا، لكنها على الأغلب لن تفلح كما توفقت في السابق، لأن:
1- روسيا لن تسمح لذاتها بخسارة أخرى لجغرافية سوريا والتي تعتبرها مركز استراتيجيتها في الشرق الأوسط، خاصة وهي تعاني من شبه تقسيم لسوريا، في الوقت الذي تخطط فيه الهيمنة على كل الجغرافية السورية.
2- الردود والتصريحات؛ المتكررة من إدارة البيت الأبيض، وخارجيتها ودفاعها، بينت على أن مصالحها حتى اللحظة ترفض السماح لأية دولة التعرض إلى شرق الفرات، إضافة إلى ذلك أن الإدارة الجديدة (إدارة جو بايدن) بينت ولمرات أن ما تم سابقا كان خطأ من إدارة ترمب عندما سمحت لتركيا باجتياح المنطقة، وهو ما فتحت الأبواب للقوات الروسية والنظام بمزاحمة القوات الأمريكية، وبالتالي أثرت على مصالحها، وسمحت لإيران بالتمدد في المنطقة بشكل أسهل، وبالتالي تعرضت أمن إسرائيل إلى خطر، وهو ما دفع بوزير خارجيتها أنتوني بلينكن تجديد موقفها الرافض لسلطة بشار الأسد، وتعني لن تسمح ثانية بتعرض وجودها في شرق الفرات إلى المنافسة، وهي من ضمن استراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط.
3- أي اجتياح لشرق الفرات، تعني موافقة مباشرة أو غير مباشرة من الدولتين، وتنازل لمصالحهما في المنطقة عامة، والسؤال هنا ماذا يمكن لتركيا بالمقابل أن تقدمه للطرفين معا؟ فكما نعلم في الماضي كانا يسهلان لها التلاعب كورقة ضغط لبعضهما البعض، واليوم خلافاتهما أقل مما هي بين تركيا وكليهما، إلى جانب أنه من المبكر ظهور المصالح الصينية في المنطقة، رغم ما تم عقده من اتفاقيات ضخمة مع إيران، لكن تركيا لا تزال بشكل عام ضمن الفلك الروسي الأمريكي، واقتصادها رغم كل الضجة حولها، على أنها تحتل المركز الثامن عشر عالميا، لا يزال تابعا للشركات الرأسمالية العالمية وللنقد الدولي، من السهل هدمه بحصار اقتصادي جدي، وأي انهيار له تعني سقوط الهيمنة التي حصلت عليها داخليا وخارجيا، في العقد الأخير. كما وأن صادراتها من السلاح مرتبطة بدول الناتو، فعلى سبيل المثال، توقف عقد بيعها للهيلوكوبترات تـ 129 س، لباكستان؛ المقدرة بـ واحد ونصف مليار دولار، والتي تصنعها مع شركة إيطالية-بريطانية، تسمى أوغستا ويستلاند، إلى جانب الشركة الأمريكية هني ويلل، والتي أوقفت مساهماتها بأمر من الكونغرس وعلى أثرها جمد العقد وتوقف التصنيع. أي أن صادرات تركيا من السلاح وضعها لا يختلف عن الواقع الاقتصادي، حيث الهيمنة الخارجية عليهما ترعب حكومة أردوغان، والمواجهة الظاهرة في الإعلام ليست بأكثر من رسائل للحصول على امتيازات أكثر مما هو مسموح لها كدولة ضمن الناتو.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
15/10/2021م