أقف في زاوية الشارع أستعيد في ذاكرتي دوار المنارة القديم والتي تحدثت عنه في الحلقة السابقة والذي هدمه الاحتلال، فتستعيد ذاكرتي بوح الشاعرة المغربية مليكة صراري لرام الله: “وما زال في رام الله، رسمُ الوفاءِ.. فقد صامَ حزنا عليها الشّجر.. ومازالت الريحُ، تحنو على طيرها.. تُهَدْهدُهُ، تحت وقْع الحذرْ.. ومازال يرمي الغروب، عليها خيوطا.. ترمّمُ وجه السهول”، فابتسم لمن عشقت رام الله من خلال مقالاتي وهي لم ترها ولم تعانق روحها ترابها، ويمر شريط رام الله التي غبت عنها قسرا من عام 1967م الى 1997م بحكم الاحتلال، وتستمر الحكاية؛ حكاية مدينة نبتت كزنبقة في البرية، منذ أسسها راشد الحدادين في منتصف القرن السادس عشر فأصبحت سنديانة راسخة الجذور، ولا يمتلك كل من عرف رام الله إلا أن يعشقها ويهمس لها: ((رام الله (حُلمٌ يتجددُ بالوصول إلى حافته اللامرئية). من اللحظات الأولى، أمارس مع رام الله عشقي المقدس (كموسيقيًّ؛ أهرق وقودَ فرحهِ)، أجول شوارعها وأتنشق الياسمين المتدلي على أسوارها والحيطان، أنظر لتلكَ النافذةِ وأشعر أن (ثمة لذةٌ خلف الجدران)، أجلس تحت شجرة البرَكة، أحتسي قهوتي وأجول الدروب حتى (تغور اللحظاتُ في ضجيج فوضى)، وفي كل زاوية وشجرة ياسمين تلامسني روحك (وكل ملامسة مخاضُ تراتيل تتسربُ بين الآم الشقوق)، وتلامس روحي (لتصل ينابيعَ عطشةِ المنال)، فأجول دروب المدينة كلها، ففي رام الله (وجودي يؤكدُ أنني حتى الآن أعيش الحُلمَ)).
وأقارن بين المنارة الجميلة والبسيطة التي عرفتها طفولتنا وبين المنارة الجديدة بضخامتها وضخامة أسودها، فأتذكر مقال لطيف للكاتب زكريا محمد تحدث فيه عن أحد الأسود وهو يرتدي ساعة على يده منقوشة على التمثال الرخامي، وما زلت استغرب ممن صمم وأنجز هذا العمل الفني لماذا وضع الساعة على يد تمثال الأسد، وهذه الأسود الحديثة نُحتت في الصين حسبما أذكر، علما أن هناك فنانين مبدعين بالنحت في فلسطين وكان الأولى أن يقوموا بهذا العمل الفني كما المنارة القديمة التي صممها فنان من رام الله، والمنارة الحالية في وسطها عامود يشبه عامود المنارة القديمة يعلوه تاج منقوش، لكن قاعدته خلت من رؤوس الأسود التي تحولت لأربعة أسود مع بعض الأشبال بدلا من خمسة تربض على أطراف القاعدة المرتفعة عن الأرض، وقد قام جنود الاحتلال في اجتياح 29/3/2002م بتحطيم ذيول هذه الأسود، وكان يعلو المنارة قضبان معدنية تشابه القبعة وتشوه منظرها، وقد كتبت ضد هذا المشهد عدة مرات وكنت أسميه بمقالاتي “خازوق المنارة”، حتى كان صبيحة يوم سبت وهو عطلة رسمية حين اتصل بي د. سعيد أبو علي وكان محافظ محافظة رام الله والبيرة وطلب مني الاتجاه مع عدساتي لدوار المنارة، واتصل بي العزيز كامل ابو جبيل وكان مسؤول العلاقات العامة والاعلام في مجلس البلدية وطلب مني نفس الطلب، فحملت عدساتي وسارعت للمنارة لأفاجأ بقيام البلدية والمحافظة بإزالة هذا “الخازوق” البشع، ومازحني د. سعيد بالقول: إن رأيتك تذكر عبارة “خازورق المنارة” في مقالاتك مرة أخرى سنجلسك على خازوق، فضحكنا ثلاثتنا بصوت مرتفع ووثقت عدستي هذه اللحظات الجميلة.
من المنارة أتجه لدوار وميدان ياسر عرفات والقريب على مكان سكني بفترة اقامتي في رام الله من تاريخ عودتي حتى نهاية 2013م حين انتقلت لأعلى عين مصباح، وهذا الميدان انشئ في اوائل الستينات وكان يدعى دوار المغتربين، لأن من دعم انشاؤه والتصميم والبناء مغتربو رام الله في المهجر، وإن غلب عليه إسم “دوار الساعة” لأنه على أعلى العامود الجميل التصميم كان يوجد ساعة بعقارب، بفترة كانت الساعات قليلة على ايادي المواطنين بسبب أسعارها، على قاعدة وسط نافورة مياه خماسية الشكل وعلى الزوايا الخمسة للقاعدة رؤوس خمسة أسود تنبثق المياه من أفواهها لقاعدة النافورة التي كانت تتوسط الدوار المزروع بالورود، والاسود ترمز أيضا لعائلات رام الله الأصيلة التي انبثقت من ابناء مؤسس رام الله الحديثة راشد الحدادين، وحين عدت للوطن كان على اعلى العامود ساعة رقمية معطلة، وأضافت البلدية لاحقا نصب حجري منقوش لوثيقة إعلان الاستقلال في حديقة صغيرة بجوار الرصيف على طرف الميدان اضافة لجرار تراثية في زاوية أخرى، ولاحقا قامت البلدية بإزالة النصب بالكامل والاضافات وبناء نصب جديد وغيرت الاسم إلى ميدان ياسر عرفات، والتصميم الجديد جميل الشكل وبه رمزية كبيرة حيث عامود حجر من اربعة واجهات بها فرزات جميلة وقاعدته مخروطية الشكل وفي أعلاه عامود معدني يتسلقه طفل يرفع العلم الفلسطيني أعلى العامود المعدني، وهذا رمز لأطفال الانتفاضة الذين كانوا يتحدون المحتل ويتسلقون الأعمدة مخاطرين بحياتهم لرفع العلم الفلسطيني، حيث كان رفع العلم يوقع من يقوم به بعقوبات جائرة من الاحتلال، وهذا النصب الجديد حل محل النصب القديم ولكن الدوار حافظ على شكله.
أعود من جديد وعبر دوار المنارة الى شارع الإذاعة والذي اعتاد الناس تسميته بشارع الإرسال، لأن أعمدة الإرسال كانت تقع على تلة صغيرة تتبع أراضي مدينة البيرة بعد مبنى المقاطعة والذي كنا نسميه “المركز” في طفولتنا باعتباره مركز للشرطة الاردنية وسكن لبعض عائلات رجال الشرطة، وكنا بطفولتنا نذهب اليه لمشاهدة الخيل والكلاب في اسطبلات الخيل والكلاب التي تقص الأثر، واللعب مع أقراننا من ابناء رجال الشرطة من أصدقاء الوالد الذي كان بشرطة السير بفترتها، ومحطة الارسال كانت تعتبر بعيدة لأنه من بعد المقاطعة لم يكن هناك بناء للسكن باتجاه قرية سردا، وكانت حدود رام الله بالبناء قصر الحمراء الواقع قبل مسافة من مبنى المقاطعة والذي بني في عهد الاحتلال البريطاني ليستخدم لقواتهم المحتلة وسجنا لأبناء شعبنا، وكان من المباني القديمة المنعزلة عن المدينة مما أضاف إليه رهبة المكان ورهبة السلطة، واستخدمه الاحتلال الاسرائيلي لنفس الغرض، وفي عهد لسلطة الفلسطينية أُستخِدم مقرا للرئيس وبعض قيادات الأجهزة الأمنية حتى تعرض للهدم شبه الكامل في اجتياح رام الله عام 2002م وفترة حصار الشهيد ياسر عرفات، ومن بعد ذلك اعيد بناؤه بشكل حديث ليكون مقرا لرئاسة السلطة الفلسطينية، وفي الزاوية التي كان مهبطا للطائرات المروحية أصبح ضريح الرئيس الشهيد ياسر عرفات وبجوار الضريح متحف عرفات، والذي أحرص كلما زرت رام الله بعد ان غادرتها بداية عام 2016م إلى قريتي جيوس قرب مدينة قلقيلية، أن أدخل للضريح واقرأ الفاتحة على روح الشهيد كما اعتدت قبل أن أغادر رام الله.
وفي هذا الشارع أستذكر المباني القديمة والتراثية المتميزة بالقرميد الأحمر ونمط البناء التراثي للمدينة، التي هدم معظمها وتحولت لبنايات تجارية ولم يتبق الا القليل، واستذكر الأشجار التي كانت على جانبي الشارع بكثافة حتى يتماس أعلاها راسمة لوحات جمالية لا تغيب عن الذاكرة، لكن ومع الأبنية الجديدة تم ازالة هذا الغطاء الشجري الذي كان يمنح رام الله جوها المنعش صيفا، وقامت البلدية بالسنوات الأخيرة بزرع الأشجار على الأرصفة والجزر الوسطية في الشارع مما اعاد بعض من الجمال للشارع، لكني اتمتع بمشاهدة وتأمل بعض مما تبقى من أشجار الصنوبر العملاقة بمنطقة قصر الحمراء والمساحة القريبة منه، وأستمتع بمشاهدة هذه البيوت التراثية وخاصة بالشوارع الفرعية الموازية لشارع الارسال خلف قصر الحمراء، حيث ما زالت بعض البيوت التراثية التي تروي الحكايات وذاكرة الأجداد، ما بين بيوت مهجورة وبيوت تم الاعتناء بها ومفتوحة ومسكونة.
في نفس الشارع كنت معتادا في طفولتي على الوقوف أتأمل مكان بيت آل إعقال والذي كان يسكنه المرحوم المفتش التربوي خليل إعقال، فقد كان جمال البيت يسحرني، وحين عدت إلى رام الله بعد الغياب القسري الذي استمر ثلاثون عاما كنت أجول رام الله شارعا شارع، وأعود لهواية الطفولة بالوقوف أمام هذا البيت من جديد وتأمله، والذي أصبح مهجورا، وفي فترة لاحقة بيع وجرى هدمه بالكامل، ومع هدمه ضاع جزء من ذاكرة المدينة ومن ذاكرتي، وقد حاولت جهدي مع البلدية أن يتم الاحتفاظ بالحجر الذي يحمل تاريخ البناء والحجارة المنقوشة أو بالجسر المعدني كجزء من ذاكرة المكان لتأسيس متحف خاص عن رام الله، لكن دون جدوى وباءت جهودي بالفشل، وقد وثقت عدستي أيضا عملية تجريف البيت بعد أن كنت قد وثقت كل زوايا البيت الخارجية، ومكانه أصبح موقف للسيارات كمقدمة لاحقة لبناء مركز تجاري مكانه، وهذا البيت يعود الى عام 1924 وله جسر معدني يربط الطابق الثاني بالشارع صممه مهندس ألماني، وكان من المباني المتميزة في ذاكرة المدينة بتصميمه وبوابات الطابق السفلي القوسية، واعلى البوابة نافذة من نصف دائرة منقوش على قاعدتها الصليب وتاريخ البناء، وفما بعد وضع حجر منقوش مثبت بمسامير معدنية فوق الحجر الأصلي الذي يحمل تاريخ البناء، ويظهر ان الورثة اضافوه ويحمل عبارة: “إشحادة ناصر اعقال وإخوانه”.
بجوار بيت اعقال تقريبا كان مبنى المدرسة التراثي الذي كان متميزا بنمط نوافذه القوسية وأبوابه وجدرانه الذي جرى هدمه أيضاً بعد انهياره بسبب هجرانه وعوامل الطقس والجو، وأيضاً أصبح موقفاً للسيارات ومن ثم مركز تجاري ضخم، وما زلت أحتفظ بذاكرة الصور التي وثقتها عدستي للمكان، ومقابله بيت تراثي جميل وسط حديقة رائعة ما زال مسكونا ومحافظا على ألقه، وبعده مباشرة مبنى جرى ترميمه واستخدم مقرا لمجلس امناء جامعة بير زيت ومركزا لمعهد الموسيقى التابع للجامعة، وأضيف لحديقته قاعة لعزف الفرق الموسيقية، حيث كنا نقضي أجمل الأوقات مع هذه المعزوفات والعازفين المتميزين، وكان يلفت نظري جمال المبنى من حيث التصميم وشكل نوافذه التراثية وشرفاته المميزة القوسية الشكل وهو من طابقين، إضافة لمساحة غير مرتفعة تحت سقف القرميد الأحمر التراثي، وتميز بحجارته التي نقشت بشكل غير تقليدي منح المبنى جمال خاص.
أكمل تجوالي باتجاه قصر الحمراء التراثي الواقع وسط أشجار صنوبر تاريخية وشامخة الارتفاع، وهو كما اشرت سابقا كان آخر حدود رام الله قبل المقاطعة، وكان يستخدم فندقا له شهرة كبيرة، وقد بنته أحد العائلات “الباتح” عام 1926م كمسكن للعائلة وأسموه بهذا الاسم تيمنا بقصر الحمراء في غرناطة، وفي عام 1945م أخلته العائلة وأجرته لشركة مصايف رام الله التي حولته إلى فندق سياحي متميز جدا بتلك الفترة، وخاصة أن أشجار الصنوبر تحيطه في المساحة من حوله، فمساحة الأرض تصل إلى ثلاث دونمات ونصف مما اتاح وجود الحدائق المتسعة من حول البناء، وكان وما يزال يمثل تحفة فنية وكان يقصده الشخصيات المهمة والمشهورة، إضافة لكبار الفنانين مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وكان من أهم فنادق رام الله ومقصدا لأثرياء المصطافين أيضا، وفي حرب 1967م حول الى مشفى ميداني لقربه من المقاطعة، وفي عام 1987م وبسبب ظروف الاحتلال والانتفاضة تم تأجيره سكنا لطالبات جامعة بير زيت حتى عام 1996م ليتم اغلاقه بعد ذلك، وكم كنت اتألم كلما وقفت أمامه وهو مغلق ومهجور فقد كنت أشعر أن بعضا من ذاكرة طفولتي يسير نحو الاختفاء، وكم سعدت حين عادت الشركة عام 2006م لترميمه عبر ثلاث سنوات ليعود ويتألق عام 2009م كفندق ومطعم فاخر، حيث كنت اتمتع بالجلوس هناك واحتساء قهوتي تحت الأشجار العملاقة بين الفترة والأخرى، مستمتعا بعبق التراث والتاريخ وجمال أشجار الصنوبر التي تشتهر بها رام الله، وهو مكون من اربعة أدوار ويعلوه القرميد الأحمر، ويتميز بدرج خارجي لشرفة الطابق الأول، والجانب الأيمن من القصر على شكل شبه نصف دائرة بارزة خارج البناء، تشكل شرفات جميلة لطبقات البناء الثلاثة العليا، ونوافذ الواجهة الأمامية طولية قوسية الأعلى مع واقيات معدنية للمطر، وكذلك الأبواب قوسية كما نمط البناء المعتاد التراثي، والأجمل الشرفة الحجرية البارزة على يسار الطابق العلوي حيث بوابتها مع نوافذها على شكل نصف دائرة، وتحيطها الحجارة المنقوشة بشكل متميز وجميل مختلف فظهر المشهد كأنه لوحة فنية، فالمشهد العام لقصر الحمراء متميز بجماله وحق له ان يسمى بهذا الاسم.
من هناك وبعد مسافة اجول بها شارع الارسال حتى اصل نهايته، أقرر العودة والاتجاه سيرا على الأقدام كالعادة باتجاه رام الله التراثية القديمة أو كما اصطلح على تسميتها “رام الله التحتا” عبر طريق عين مصباح، فـفي شارع الإرسال أسير وأنظر للساحل المغتصب من بعيد، تداعبني النسمات الغربية، و(أداعب شُحوبَ ظِلالي، وصدىً لنورِ قمرٍ)، فتعود لذاكرتي كلمات فأتساءل: (هل لعشبٍ بأرضه الخصبَةِ وهبَ نبضاً لجُثًّةٍ؟)، ومن هناك أنحدر إلى عين مصباح التي كانت تروي واد بأكمله، فأراها الآن (رقصةُ بردٍ مثقوبة الشعُور)، أواصل التجوال ف (هكذا يعزفُ الحلمُ صحوته، ويكونُ حدائقَ من حريقٍ)، أمر من جوار بيت الصديق الفنان التشكيلي إميل عشرواي وزوجته السياسية حنان عشراوي، أتنشق كالعادة عبق الياسمين الذي تعرش على بوابة البيت متأملا ابداع الفنان أميل وبصماته على هذا البيت الجميل وحدائقه الغناء، فأنزل من شارع النضال حتى اصل لنقطة تقاطعه مع طريق عين مصباح، ومن هناك اتجه يسارا مارا بالبيت الذي كنت أسكنه آخر عامين لي في رام الله، حتى أصل إلى عين مصباح والتي سيكون الحديث عنها وعن جماليات أخرى في رام الله في الحلقة الثالثة القادمة بمشيئة الله.
صباح آخر يسوده الدفء بعد موجات البرد التي ودعت الشتاء بشتوة نيسان التي ننتظرها كل عام راجين المولى تعالى ان لا تغيب، أجلس لمكتبي بشرفتي العمَّانية متأملا اليمام والحمام وعصافير الدوري وهي تطير وتهبط بجمالية كبيرة لتتناول طعامها، احتسي قهوتي مع شدو فيروز: “الليل أناشيد والعمر مواعيد، يا قلب تعال نغني فالفجر غدا عيد، اللحن بنا طار في عالم أنوار، والحلوة رغم شرود تحملها الأوتار، عن حمانا نحن الطيور، عن ربانا حب ونور”، فأهمس: لرام الله كل الحب والحلم بصباح أجمل..
“عمَّان 5/4/2021”