.
تتعقد الأوضاع في مناطق شمال شرق سوريا يوما بعد يوما، وبينما تدفع تركيا بتعزيزات على الأرض، إيذانا ببدء عملية ضد القوات الكردية، تناور روسيا عسكريا على أكثر من محور، أما وزارة الدفاع الأميركية فتؤكد على الشراكة التي تسير فيها مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لقتال تنظيم داعش.
وفي مقابل تلك المواقف الثلاثة، لا تبدو هناك تصريحات واضحة لانعكاسات المشهد على القوى المحلية العاملة على الأرض، المقسمة أيضا على ثلاثة أطراف: الجيش الوطني السوري، وقوات النظام السوري، والقوات الكردية المتمثلة بـ”قسد”.
وصباح الثلاثاء حلّقت مروحيات قتالية روسية على علو منخفض جدا في أجواء الباب، أبرز مدن منطقة “درع الفرات” التي تديرها تركيا، في تطور سبقه قبل أيام وصول طائرات حربية لقاعدة القامشلي بريف الحسكة، ومن ثم إجراء مناورات عسكرية في عدة نقاط تحيط بالطريق الدولي “MP4”.
وتشير معظم تحليلات الباحثين السوريين والأتراك إلى أن تلك التحركات الروسية تندرج في سياق “الرسائل” التي توجهها موسكو لأنقرة، التي بدورها تواصل نبرة التهديد بتنفيذ عمليتها العسكرية، سواء على لسان المسؤولين السياسيين أو العسكريين.
وفي حين تتردد أسئلة عدة بين أوساط السوريين في مختلف المناطق التي يتوزعون فيها ومفادها: هل ستبدأ تركيا بعمليتها العسكرية بالفعل ضد القوات الكردية؟، وإن تمت كيف ستنفذ؟ وما هي المناطق التي ستستهدفها؟ وبخصوص أميركا وروسيا ما الذي ستفعلانه حيال ذلك؟ وهل سيكون لهما أي دور على اختلاف السيناريوهات؟
عامان بعد “نبع السلام”
في أواخر عام 2019 شنت تركيا عملية عسكرية حملت اسم “نبع السلام” في مناطق شمال وشرق سوريا، لتكون الأولى من نوعها في تلك المناطق الخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”.
وفي ذلك الوقت سيطر الجيش التركي، وتحالف “الجيش الوطني السوري” الذي تدعمه أنقرة، على مساحة واسعة على طول الشريط الحدودي، بدءا من تل أبيض بريف محافظة الرقة، ووصولا إلى مدينة رأس العين في ريف محافظة الحسكة، وبعمق يقدر بـ30 كيلومترا، حتى محاذاة الطريق الدولي المعروف باسم “MP4”.
وبينما كادت تركيا أن تتوسع أكثر في الميدان، سواء باتجاه الشرق أو الغرب نحو مدينة “عين العرب” (كوباني) أعلنت تعليقها “نبع السلام”، بعد “محادثات هدنة” أجرتها مع الولايات المتحدة الأميركية.
ووصل مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى العاصمة أنقرة آنذاك، وأعلن عقب اجتماع مع المسؤولين الأتراك التوصل إلى “اتفاق وقف إطلاق نار”، وهو ما رد عليه وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو بالقول إنه “تعليق” و”ليس وقفا لإطلاق النار”.
ودار الحديث عن الهدنة التي تحددت بـ120 ساعة على أنها ستحقق هدفين رئيسيين، هما سيطرة تركيا على شريط من الأراضي السورية بعمق يتجاوز 30 كيلومترا، وطرد “وحدات حماية الشعب” (العماد العسكري لقسد) من المناطق الحدودية.
أين روسيا من ذلك؟
أيام قليلة فصلت عن الإعلان التركي الأميركي والهدنة المحددة بالساعات، حتى أعلن الرئيسان التركي والروسي رجب طيب إردوغان وفلاديمير بوتين عن اتفاق من مدينة سوتشي الواقعة على البحر الأسود.
ووصف إردوغان ذلك الاتفاق بـ”التاريخي”، ونص على احتفاظ تركيا بالسيطرة على منطقة بعمق 32 كيلومترا في سوريا، استولت عليها خلال عملية “نبع السلام”.
وجاء فيه أن “الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري على سيعملان على تسهيل إزالة المقاتلين الأكراد مع أسلحتهم من منطقة بعمق 30 كيلومترا على طول الحدود التركية السورية”.
وبالفعل دخلت عناصر من الشرطة العسكرية الروسية إلى مناطق سيطرة “الوحدات” على الحدود مع تركيا، وخاصة مدينة عين العرب (كوباني)، وانتشر إلى جانبهم أيضا عناصر من “حرس الحدود” التابع لقوات النظام السوري.
وبعد ذلك شرعت القوات التركية والروسية بتسيير دوريات مشتركة على طول المناطق الحدودية، بينما قال مسؤولون أكراد لوسائل إعلام أجنبية إنهم “امتثلوا للاتفاق”.
أما في أنقرة فقد أعلنت وزارة الدفاع التركية أنه “لا حاجة” لاستئناف العملية العسكرية ضدّ المقاتلين الأكراد في شمال شرق سوريا بعد انتهاء الهدنة، مشيرة إلى أنّ الولايات المتّحدة أبلغتها بأنّ انسحاب القوات الكردية من المناطق الحدودية قد “أنجز”، مضيفة: “في هذه المرحلة، ليست هناك حاجة لتنفيذ عملية جديدة”.
ما الذي يحصل الآن؟
أجرت القوات الروسية والتركية منذ أواخر 2019 دوريات مشتركة عدة على طول الحدود الشمالية لسوريا، لكن التفاصيل التي نص عليها الاتفاق المذكور سابقا تغيرت بجزئيات عدة.
وخلال الأشهر الماضية لم تنقطع الاشتباكات وعمليات القصف بين مناطق “نبع السلام” وأخرى تخضع لسيطرة “وحدات حماية الشعب”، وسط تبادل للاتهامات عن الطرف الذي ينفذ عمليات “الاستفزاز”.
وفي الوقت الذي قالت فيه أنقرة إن القوات الكردية لم تنسحب بشكل كامل مع المناطق المتفق على إفراغها، اتجهت روسيا لتعزيز مواقعها في مناطق شرق سوريا، بدءا من مطار القامشلي الذي حولته لقاعدة مروحيات، ووصولا إلى المواقع المحيطة بالطريق الدولي “MP4”.
وتوسّعت دائرة التصعيد بين تركيا والقوات الكردية منذ مطلع أكتوبر الماضي إلى الغرب في محيط مناطق “درع الفرات”، حيث أعلنت الأولى مقتل قوات من الجيش التركي باستهدافات صاروخية نفذها مقاتلون من “الوحدات”.
وفي تطور آخر، يراه محللون على أنه أشعل شرارة ما يحصل الآن، فقد أعلنت ولاية غازي عنتاب التركية تعرض قرية قرقميش الحدودية لقصف بقذائف صاروخية قيل إن مصدرها المناطق الخاضعة لسيطرة “وحدات حماية الشعب” (الكردية) في منطقة عين العرب (كوباني)، وهو ما نفته الأخيرة ببيان نشرته “قوات سوريا الديمقراطية”.
أين تتجه الأمور؟
حاليا.. يهيمن الغموض على المشهد في مناطق شمال شرقي سوري، فأنقرة تواصل تهديداتها وتحشد على الأرض، بينما تذهب موسكو لتنفيذ مناورات برفقة قوات النظام السوري، وتحلّق طائراتها في المناطق التي تريد تركيا تحويلها إلى “منطقة آمنة”.
أما بالنسبة للقوات الكردية، فقد توقع مسؤولون فيها مؤخرا، أن تنفذ تركيا تهديداتها، في موقف يتزامن مع محاولاتهم فتح قنوات حوار مع النظام السوري، وهو ما أشارت إليه الرئيسة المشتركة لـ”مجلس سوريا الديمقراطية”، إلهام أحمد، قبل أيام.
ويرى مدير “معهد إسطنبول للفكر”، باكير أتاجان، أن “تركيا سوف تقوم بالعملية مهما كان الثمن، ولكن لا بد أن تنظر في نفس الوقت إلى مراعاة المصالح الروسية وحتى المصالح الأميركية”.
ويضيف أتاجان لموقع “الحرة”: “أنقرة ترى أنه عندما تنفذ العملية العسكرية يجب ألا تكون منفردة. تحتاج لرضا أميركا وروسيا، لكن ليس بالمفهوم العام، بل ضمن إطار التنسيق”.
ويستبعد الباحث التركي أن يكون هناك أي نوع من “المقايضة” بين تركيا وروسيا، في إشارة منه إلى التقارير التي تحدثت عن إصرار روسي للسيطرة على مناطق في محافظة إدلب، مقابل رفع يدها عن مناطق حدودية.
ويتابع: “تركيا سوف تسعى جاهدة إلى توسيع العمق الذي تسيطر عليه على الحدود. لن تتخلى عن ذلك. العمق يجب أن يكون 30 كيلومترا بموجب اتفاق 2019”.
من جهته، يقول الدبلوماسي السابق والمقرب من وزارة الخارجية الروسية، رامي الشاعر، إن “أي حشود عسكرية في شمال شرق وشمال غرب سوريا، سواء تركية أو روسية أو حتى سورية لا تجري سوى من خلال مركز التنسيق الروسي التركي، وغالبا ما يتم إعلام الطرف الأميركي بذلك”.
ويضيف الشاعر في حديث لموقع “الحرة”: “أؤكد أن روسيا تتفهم تماما حساسية الوضع في الشمال السوري بالنسبة للجانب التركي وأمنه القومي”.
وعندما خفّضت الولايات المتحدة الأميركية تواجدها العسكري في شمال شرق سوريا، عقب عملية “نبع السلام”، وانسحبت من بعض المناطق، عرضت الشرطة العسكرية الروسية أن تتولى، من خلال تواجدها، هناك الفصل بين القوات الكردية ومناطق تواجد مجموعات المعارضة السورية المسلحة المدعومة من تركيا.
ويتابع الشاعر: “إلا أن الأكراد هم من رفضوا ذلك في حينها، وأجابوا بأن لديهم تحصيناتهم وإمكاناتهم العسكرية الكافية لاستبدال القوات الأميركية المنسحبة”.
30 كيلومترا
ويتفق حديث أتاجان مع المحلل السياسي السوري فيما يتعلق بأن المشهد في مناطق شمال شرق سوريا سيعود إلى النقطة الأخيرة التي تم التوصل إليها بخصوص اتفاق 2019.
ويقول الشاعر: “اليوم يطالب الجانب التركي بإخلاء هذه المناطق إلى مسافة 30 كيلومتر من أي مسلّحين أكراد، وهو ما سوف يحدث على الأغلب”.
ويستبعد أن يحصل أي “صدام عسكري روسي تركي أميركي”، مشيرا: “كل الحشود والمناورات في تلك المناطق إنما تأتي ضمن خطط منسّقة مرتبطة بتصفية العناصر والمجموعات الإرهابية المتواجدة هناك”.
من جانبه يرى المحلل العسكري، العقيد عبد الجبار العكيدي، أن “جميع الاحتمالات مفتوحة في المرحلة المقبلة”.
لكنه يقول لموقع “الحرة” إنه يتوافق مع التحليلات التي تقود إلى إعادة تطبيق بنود اتفاق 2019 في شمال وشرق سورية، مضيفا: “لا أتوقع عملية عسكرية بوجهة نظري. قد نرى عمليات محدودة من خلال استهداف قيادات pyd ومقراتهم وطرق الإمداد”.
وكانت وزارة الدفاع التركية أعلنت مؤخرا عن هذه العمليات عبر طائرات مسيرة، كان أبرزها وسط مدينة القامشلي بريف الحسكة وفي عين العرب (كوباني).
ويوضح العكيدي: “المناخ الدولي غير مساعد حاليا، ولا يوجد غطاء سياسي لتركيا في هذا الموضوع (العملية العسكرية) سواء روسي أو أميركي”.
ويحتمل، بحسب المحلل العسكري، أن يكون هناك “انسحاب للقوات الكردية بأوامر من روسيا وأميركا، ومن ثم تطبيق الاتفاق الأخير الذي حصل بعد عملية نبع السلام”، مشيرا: “ربما يكون هناك انسحاب أيضا من تل رفعت ومنبج وفتح الطرق الدولية أمام حركة التجارة”.
واعتبر العكيدي أن تصريحات الإدارة الأميركية حول تهديدات تركيا بشن عملية عسكرية تنم على أنه “لا يوجد ضوء أخضر أميركي، لكن بنفس الوقت لن يشعلوا ضوءا أحمر في حال نفذت التهديدات”.
موقف معقد
وتعتبر واشنطن قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، التي تشكّل الوحدات عمادها العسكري، حليفاً في الحرب ضد تنظيم “داعش” في شمال شرق سوريا، بينما ترى تركيا، “قسد”، امتداد لـ”حزب العمال الكردستاني”، الذي صنفته واشنطن وأنقرة على أنه منظمة إرهابية”.
وفي مقابلة مع قناة “الحرة”، الاثنين، قال المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا، جيمس جيفري، “نحن بالتأكيد ننظر إلى إمكانية تنفيذ تركيا لعملية عسكرية”، كما فعلت خلال السنوات السابقة، متوقعا أن تشن أنقرة عمليتها “شمال شرق سوريا.. أو في شمال الغرب بالقرب من حلب، وهذه منطقة تبعث على القلق بالنسبة للأتراك”.
واستبعد جيفري، تماما أن يكون إردوغان حصل على “ضوء أخضر” من بايدن خلال اجتماعهما في قمة دول مجموعة العشرين في إيطاليا، الأحد، وقال إنه “لا يوجد أي شك في أن إردوغان لم يحصل على أي شيء مرض من الرئيس بايدن”.