القسم الثاني
العوامل الكامنة وراء سياسات ترامپ الجديدة
تسلم أوباما إدارة البيت الأبيض في العام 2009 من جورج دبلو بوش، الذي اعتقد بخرافات تسبب أذى كبيراً للبشرية والحياة الدولية وحفزته على التدخل الفظ والمستمر في شؤون الشعوب والدول الأخرى وشجعته على العدوان، فكلفت المزيد من الأموال والجهود والموت والخراب، كما نشطت سباق التسلح على الصعيد العالمي. وقد برز ذلك في إيمانه بمسائل لا تمت إلى العقل والمنطق بصلة، ولاسيما: 1) إيمانه الشديد بأن له رسالة سماوية لا بد له أن يؤديها على الصعيد العالمي وملزم بها، 2) وأن من واجبه العمل على إلزام الشعوب والدول الأخرى الأخذ بالرسالة التي يحملها، رسالة الحرية والديمقراطية على الطريقة الأمريكية، 3) وأن من يقف ضد هذه السياسات ومصالح الولايات المتحدة ونفوذها هو عدو لدود للولايات المتحدة يجب مواجهته وكسر شوكته، وإن من يساندها هو صديق لها، 4) وأن على الولايات المتحدة دعم إسرائيل بكل السبل والإمكانيات، إضافة إلى المبادرة في البحث عن “يأجوج ويأماجوج” في العراق والوراد ذكرهما في التوراة والإنجيل لصالح الدفاع عن دولة إسرائيل حليفة أمريكا الأولى في الشرق الأوسط التي تتهددها هذه الجيوش، 5) وإن الحرب ضد العراق هو الطريقالضامن للتخلص من “يألجوج يأماجوج”. (قارن: جون كلود موريس، لو كررت ذلك على مسمعي فلن أصدقه، عن منشورات: بلون الفرنسية، 2009/2010). بـمثل هذا الرجل المهووس بالخرافات والدين والحرب وإسرائيل قد ابتلي شعب العراق، واصبح ضحية حربه وعدوانه. لا شك، في أن سياسات جورج دبليو بوش الداخلية والخارجية والاقتصادية ودور الشركات العقارية والاحتكارية الأمريكية والدولية وحروبه في أفغانستان والعراق، قد تسببت كلها في تفجير الأزمة المالية العميقة والشاملة في الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 2007 وتواصلت 2008 مباشرة، تلك الأزمة الاقتصادية الحادة التي تفاقمت بسرعة لتشمل أوروبا وكل العالم الرأسمالي، بما فيه الجزء المتخلف منه ومحيطه التابع، في الدول النامية. وتعتبر هذه الأزمة المالية، وهي في الجوهر، أزمة اقتصادية، إذ عبرت بوضوح عن وجود أزمة بنيوية تشمل النظام الرأسمالي العالمي كله، وهي من أسوأ الأزمات التي أصيب بها الاقتصاد الرأسمالي العالمي منذ أزمة الكساد العام في العالم عام 1929.
لقد واجه الاقتصاد الأمريكي مصاعب جمة ومصائب هائلة جراء هذه الأزمة، ولكن تسنى للحكومة الأمريكية، الممثلة الشرعية للاحتكارات الرأسمالية الكبرى أن تلقي بكامل عبئ الأزمة وثقلها وعواقبها المدمرة على كاهل: أ- أولئك الذين كانوا ضحية مباشرة للأزمة المالية والعقارية والذين خسروا دورهم التي اشتروها بالقروض الأمريكية الميسرة من البنوك العقارية وغيرها، إضافة إلى أغلب جماهير الشعب الأمريكي، والذين لم يعودوا قادرين على تسديد القروض وفوائدها ، مما أجبروا على خسارتها الفعلية. ونتيجة ذلك ألقى بمئات الآلاف من العمال والمستخدمين وصغار المنتجين على قارعة الطريق عاطلين عن العمل ومفلسين وبائسين حقاً، وب- دافعي الضرائب، حيث قامت الدولة الأمريكية بدفع مبالغ طائلة حقاً كمنح أو تعويض عن الخسائر التي تحملتها البنوك نتيجة سياساتها ومضارباتها في سوق العقار لإنهاضها ثانية، رغم إن أصحاب البنوك والرأسماليين العقاريين والشركات العقارية وغيرها كانت هي الرابح الأول والأخير والوحيد من تلك الأزمة البشعة، وكان الشعب وخزينة الدولة هما الخاسران. وهكذا فعلت دول الاتحاد الأوروبي حيث تحمل دافعو الضرائب المليارات من اليورو من خزينة الدولة، كما تحمل الفقراء والمنتجين والكادحين والفئات الصغيرة والمتوسطة خسائر مالية فادحة ومواقع عملهم وأعلن الكثير جداً منهم إفلاسه. لقد حققت هذه الأزمة أرباحاً طائلة وخيالية لكبار الرأسماليين وأصحاب البنوك والشركات العقارية والمضاربين بالعقار والأوراق المالية وغيرها، وكانت على حساب الاقتصاد الوطني والمجتمع ولاسيما المنتجين والفقراء منه. وكان هذا متوقعاً ومحسوباً من الأساس.
غادر بوش البيت الأبيض في العام 2009 والمجتمع الأمريكي واقتصاده يعانيان من مصاعب جمة، وأوضاع سياسية معقدة على الصعيدين الداخلي والدولي. وفي العام نفسه تسلم باراك أوباما الإدارة في الولايات المتحدة. وتشير المعطيات المتوفرة إلى بعض الأرقام المهمة ذات التأثير المباشر على المشكلات التي واجهت باراك أوباما أثناء فترة حكمه بين 2009-2016:
– بلغت البطالة في العام 2009/2010 نسبة قدرها 10%، والتي اقترنت بأزمة 2008.
– وفي العام 2010 بلغت الأرقام الفعلية لإجمالي الدين العام الأمريكي 13.528على وفق الإحصاء الرسمي الأمريكي خلال الفترة 2008-2017 على النحو التالي:
Compr.: Interest Expense on the Debt Outstanding, Treasury Direct, 11.11.2018. Historical Debt Outstanding – Annual 2000 – 2018.
لم تكن الديون وحدها مرهقة للاقتصاد والمجتمع الأمريكي فحسب بل كذلك الفوائد المترتبة عليها وتراكمها المستمر من سنة إلى أخرى كما هو وارد في الجدول أعلاه.
ونتيجة لكل هذه الديون وتراكم الفوائد ارتفعت نسبة الدين إلى الناتج الإجمالي الأمريكي في العامين 2016 و2017 على النحو التالي: 81,5% و82,3%. (. (Factbook, CIA, gover. USA, Economy, 2018 ويقدر أن ترتفع هذه النسبة في العام 2018 الجارية. (المصدر السابق نفسه). واحتسب ما يصيب الفرد الأمريكي الواحد من الدين العام 60,340 دولار أمريكي في العام 2015، وهو في زيادة مستمرة وأعباء مرهقة للأجيال القادمة. وكانت الإدارة الأمريكية وما تزال مستعدة على طبع المزيد من النقود الورقية وضخها للأسواق لتجاوز مصاعبها وحاجاتها الملحة.
– وتشير الأرقام الرسمية إلى ارتفاع العجز في الميزان التجاري الأمريكية بين صادراتها واستيراداتها. فوفق الأرقام المتوفرة عن صادرات عامي 2016 و2017 بلغا 1.456 و1.576 تريليون دولار أمريكي، قفي حين بلغ حجم الاستيراد للسنتين المذكورتين على التوالي: 2.208 و2.352 تريليون دولار أمريكي، وازداد العجز من 752 مليار دولار إلى 776 مليار دولار أمريكي. (المصدر السابق نفسه).
– تراجعت الوظائف الشاغرة من 6090.00 إلى 5562.00 خلال الشهرين الماضيين، وقد تراجعت أيضا الرواتب خارج القطاع الزراعي من 167 ألف دولار إلى 156 ألف دولار خلال نفس الفترة. (مجلة مناي).
– وخلال فترة حكم أوباما انخفضت نسبة البطالة من 10% في الفترة ذاتها إلى 4,9%، ولكنها بدأت بالارتفاع ثانية إلى 5,1% في العام 2016.
– ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن الميزانية الحربية للولايات المتحدة الأمريكية أخذة بالتزايد سنة بعد أخرى، وهي الأعلى في العالم حيث بلغت في الأعوام الثلاث التالية كما يلي: 2015: 596 مليار دولار أمريكي (3,9% من الناتج المحلي الإجمالي، 2016: 597,5 مليار دولار (3,3) من إجمالي الناتج المحلي، 2017: 610 مليار دولار أمريكي (قارن: الموسوعة الحرة، قائمة الدول حسب الإفاق العسكري، في 11/11/2018، وانظر: الإنفاق العسكري حول العالم.. أمريكا الأولى والسعودية الثالثة، بالعربي CNN في 11/11/2018).
ورغم ذلك فقد تحقق واحداً من أبرز المكاسب التي تمس الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي في مجال الرعاية الصحية، إذ صدر القانون، الذي يعتبر تخفيفاً فعلياً عن الملايين من الفقراء والمعوزين والمنتجين الأمريكيين، والذي لاقى معارضة شديدة من جانب اللبراليين الجدد والمحافظين المتشددين في الحزب الجمهوري. ولا شك في أن هذا القانون يكلف الدولة مبالغ طائلة ويقلل بحدود ضئيلة من أرباح الرأسماليين الذين هيمنوا على حقل الرعاية الصحية.
هكذا كان الوضع الاقتصادي الداخلي للولايات المتحدة الأمريكية قبل انتقال إدارة البيت الأبيض إلى دونالد ترامپ. أما على الصعيد الدولي فقد جرت خلال الأعوام المنصرمة تغيرات كبيرة في الساحة السياسية والاقتصادية الدولية، ولاسيما بدء فقدان الولايات المتحدة لقطبيتها الدولية الواحدة، حيث تشاركها اليوم، بهذا القدر أو ذاك، الصين وروسيا، كما بدأت أوروبا تتخذ مواقف أخرى تختلف في جوانب مهمة منها عن السياسة الأمريكية. ورغم التشنج والتوتر المستمرين في الشرق الأوسط، فأن الاتفاقية النووية مع إيران جعل المنطقة أكثر أمناً وأقل خطراً على السلام، ولكن بقيت الحروب مستمرة في اليمن وسوريا والعراق ضد داعش. كما بدأ الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا يتخذ منحى أكثر شدة ولاسيما في عدة مسائل مهمة:
- محاولة الولايات المتحدة الاقتراب أكثر فأكثر بقوات حلف الأطلسي من الحدود الروسية ولاسيما في الجمهوريات السوفييتية السابقة ومحاولة تطويقها عسكرياً وسياساً، مما أغاظ الروس كثيراً وتسبب في قيام روسيا باستعادة جزيرة القرم الروسية، التي كانت قد سجلت باسم اكرانيا في العام 1964 من قبل نيكيتا خروتشوف باعتبار الأخيرة جزءاً من اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية، بحملة عسكرية وفصلها عن أكرانياـ والتي أغاظت بدورها الغرب كله. ولا بد من الإشارة إلى إن الاتفاق الذي تم بين الدولة السوفييتية قبل انهارها التام والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي بأن الحلف الأطلسي لا يقترب بقواته العسكرية أو قواعده من الدول المحادة للاتحاد السوفييتي، والذي جرى تجاوزه من جانب الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية.
- اتهام الروس التدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما في الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها دونالد ترامب ضد هيلاري كلنتون.
- دعم الروس لإيران وسوريا في الحرب ضد الإرهاب وضد التدخل العربي-التركي القطري والخليجي عموماً في الشأن السوري.
- مد خط الغاز من روسيا إلى دول الاتحاد الأوروبي الذي يزعج الولايات المتحدة الأمريكية.
- تطور العلاقات السياسية والعسكرية التنسيقية بين روسيا والصين الشعبية.
- المنافسة الاقتصادية، رغم المصاعب الروسية، للاقتصاد الأمريكي في مناطق معينة من العالم ولاسيما في مجال الطاقة.
- اتهام الروس بأنها تخل باتفاقية الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى وغيرها من الاتفاقيات التي عقدت في الثمانينات من القرن الماضي.
ورغم التوتر النسبي بين البلدين في عهد أوباما، فقد استمر العمل بالاتفاقيات العسكرية الكبرى وفي أطار التشاور وعقد اللقاءات لتجاوز حصول سباق تسلح نووي، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب الدولي، إضافة إلى استمرار التعاون الاقتصادي بينهما. وقد بدا العالم أكثر هدوءاً في فترة حكم أوباما رغم الحروب الإقليمية والتوترات المستمرة في الشرق الأوسط أو في دول أفريقية أو في أمريكا الجنوبية.
إلا أن الصراع بين القوى الداخلية في الولايات المتحدة، ولاسيما بين الحزبين اللذين يتداولان الحكم وبين القوى الأكثر تشدداً وتطرفاً في الحزب الجمهوري وفي القوى الرأسمالية الأكثر رغبة في تشديد الاستغلال والهيمنة العالمية حتى على دول الاتحاد الأوروبي، وبين المعتدلين نسبياً من الحزب الديمقراطي وقوى اجتماعية أخرى ضد التطرف في تطبيق سياسات اللبرالية الجديدة المعمقة للتفاوتات الطبقية والصراعات الاجتماعية والسياسية، قد احتدم قبل وأثناء الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي فاز فيها دونالد ترامپ على منافسته الديمقراطية هيلاري كلنتون، والتي أشيع إلى وجود تلاعب في الانتخابات وتدخل روسي لصالح ترامپ، والذي شدد من التوتر والانقسام الداخلي الأمريكي.
لقد عمد دونالد ترامپ، منذ أول تسلمه للإدارة في البيت الأبيض، إلى ممارسة سياسات تميزت بعدة سمات لم يكن بعضها غائباً عن السياسيين والسياسات الأمريكية، ولكنها اتخذت أبعاداً جديدة وخطيرة:
- الغاية تبرر الواسطة وأيا كان الثمن.
- الديماغوجية العالية جداً وما يمكن أن يطلق عليه بالشعبوية المبتذلة، والتي تذكر الإنسان بدعايات الثلاثينيات من القرن الماضي في ألمانيا أو في فترة جورج دبليو بوش بشأن العراق وتبريراته للحرب.
- الكذب جهاراً نهارا دون حياء، على قاعدة “افتروا ثم افتروا ثم افتروا لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس”.
- العداء المباشر للصحافة والإعلام واتهامها جميعاً بالتزوير والنفاق والكذب.
- الاستخدام المباشر والفعال للتقنيات الأكثر حداثة في العلاقة مع المؤيدين والمتعاونين.
- طرح شعار “أمريكا أولاً”، ولكن في الحقيقة برز بجواره شعار “مصالح ترامپ” في المقدمة، لأن الشعار الأول كان دوماً في صدارة عمل الرؤساء في أمريكا وأن لم يعلنوا عنه صراحة.