بعد سبع سنوات على التعذيب والسبي والقتل والتهجير بحق الإيزيديين من قبل تنظيم “الدولة الإسلامية”، لا زال الكثير منهم يعيشون في المخيمات. داعم تنموي من ألمانيا يحاول تشجيعهم على العودة والبدء بحياة جديدة.
إلى يسار طريق طويل يمتد حتى الأفق بحر من الحاويات المتلاصقة. أعمدة نقل الكهرباء تخترق بحر الحاويات. سور يرسم حدود عالم مخيم مام رشان في شمال غرب محافظة نينوى في إقليم كردستان العراق الذي يتمتع بالحكم الذاتي.
يترجل الصحفي الألماني يان يسن من سيارته لزيارة عائلة مظفر برجس ماتو. يعمل يان هنا خبيراً تنموياً لصالح مؤسسة كاريتاس الخيرية ويدير مشاريع عدة في شمال العراق.
سنة سادسة نزوح
مظفر إيزيدي في نهاية عقده الثالث. وجهه بشوش، بيد أن الأيام تركت ندوبها عليه ما جعله يبدو أكبر من سنه الحقيقي. مظفر أستطاع أن يفلت عائلته من ميلشيا تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) الإرهابية ويقيمون منذ 2015 في المخيم.
ضوء أزرق غير مريح. أرضية من البلاستيك المقوى بلون الأشجار. مفاتيح معلقة على أحد جدران الغرفة. يجلس مظفر وضيوفه على فرشات ممدودة في أرض الغرفة التي لا تزيد مساحتها عن 10 أمتار مربعة.
أطفال مظفر وأطفال الجيران يحدقون في الزوار ويستمعون لأحاديث الكبار. تقدم زوجة مظفر الماء والشاي للضيوف وتسهر على رعايتهم.
مرارات محفورة في الذاكرة
يخيم الصمت على الغرفة. يمكن فقط سماع صوت مكيف الهواء. دخان السجائر يملأ المكان. يشبك مظفر يديه بعضهما ببعض ويأخذ نفساً عميقاً ويضغط على شفتيه ويبدأ بحكاية قصة مأساتهم للألماني يان يسن: “جاءت داعش إلى قريتنا في قضاء سنجار وأخذتنا أسرى وأرادت إجبارنا على تغير ديننا. ولكننا نجونا بأعجوبة وفررنا للجبال”.
حالف الحظ عائلة مظفر؛ إذ أن حوالي 12 ألف إيزيدي تم اختطافهم أو قتلهم في الأسبوع الأول، حسب منظمة الإغاثة “يزدا”. كما قضى آخرون خلال رحلة الفرار والتهجير. تم تلقين الأطفال الصغار بإيدلوجية التنظيم الإرهابي وتدريبهم ليصبحوا مقاتلين. أخذت الفتيات كسبايا أو تم تزوجيهن لرجال التنظيم. حتى اليوم هناك الكثير من المفقودين ولم يتم انتشال بقايا كل الضحايا من المقابر الجماعية.
هزم التنظيم الإرهابي في العراق عام 2017. ولكن يبقى السؤال: لماذا يعيش اليوم بعد حوالي خمس سنوات من الانتصار على التنظيم، حوالي 300 ألف إيزيدي كنازحين بعيدين عن ديارهم؟
الجواب يعثر عليه المرء عند التوجه إلى سنجار، موطن الإيزيديين في شمال العراق.
عالم آخر في منطقة سيطرة الحكومة المركزية: أسلاك شائكة وأبراج مراقبة ورجال مدججون بالبنادق والأسلحة الرشاشة. بالكاد يعثر المرء على العشب أو الشجر. طبيعة صحراوية يتناثر فيها حطام السيارات المفخخة. بيوت فارغة وأكوام من النفايات. يشعر المرء بأنه في بلد آخر.
نقاط تفتيش كل بضع مئات من الأمتار. التوقف والانتظار ربما لساعات أمر معتاد. يترجل يان يسن من السيارة ليدخن سيجارة ولا يترك لإجراءات التفتيش أن تخرجه عن أطواره.
الوضع الأمني
“في كل منطقة مشاكل تختلف عن المناطق الأخرى”، يقول المحلل السياسي النمساوي توماس شميدنقر، الباحث في قضايا الأقليات العرقية والدينية في الشرق الأوسط، في حديث مع DW.
يسود التوتر منطقة سنجار. الوضع الأمني معقد بسبب وجود ميلشيات لعدة أطراف، مثل “وحدات حماية الشعب” الكردية التي تقول تركيا إنها تابعة لحزب العمال الكردستاني والتي تصنفها ألمانيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة منظمة إرهابية، وقوات البشمركة التابعة لإقليم كردستان العراق، والحشد الشعبي المدعوم من إيران، والقوات التابعة للحكومة المركزية في بغداد. وفوق كل ذلك تقصف تركيا بشكل منتظم المنطقة من الجو.
الوضع الأمني يشكل هاجساً كبيراً للعائدين الإيزيديين. “هناك الكثير من المقاتلين والداعمين لتنظيم الدولة الإسلامية في القرى العربية التي تقع مباشرة بجوار الإيزيديين. ليس مطروحاً بالنسبة لكثير من الناجين من الإبادة العودة إلى العيش بجوار مضطهديهم. ولكن عادت بعض العائلات إلى مدينة سنوني، حيث الوضع الأمني أفضل نسبياً”، يقول توماس شميدنقر.
المساعدة الإنسانية كخطوة أولى
قام الفاعل التنموي يان يسن بالمساعدة في إقامة بعض البيوت الزجاجية (دفيئة زراعية) كمشاريع تنموية للعائدين، “ندعم مشاريع لجعل بداية حياة جديدة للعائدين سهلة”، يقول يان وقد سطعت شمس ما بعد الظهيرة على وجهه وخلفه سلسلة جبال سنجار. بجانبه توجد بعض شجيرات الخضروات، بشكل رئيسي الخيار. تحت قدميه تظهر الشقوق في التربة الطينية كقاع نهر جفت مياهه. خراطيم الري تشق طريقها عبر البيت الزجاجي الذي تحتل أجهزة التدفئة أركاناً منه.
“إلى جانب الوضع الأمني الصعب ودمار البنية التحتية، تكمن المشكلة الكبرى في عدم وجود فرص عمل”. يريد الداعم التنموي إثبات أن الحياة هنا ممكنة نسبية، حتى عندما لا يمكن للمرء كسب الكثير من النقود. يؤمن البيت الزجاجي للعائلة دخلاً بحدود 150 دولاراً ويمكن للعائلة أن تأكل من منتجاته أيضاً.
“الأمر يحتاج لحل سياسي تتفق عليه جميع الأطراف الفاعلة في منطقة سنجار. بدون ذلك لن يكون هناك حل سلمي”، كما يرى توماس شميدنقر.
لن تعود عائلة مظفر برجس ماتو إلى القرية قبل استتباب الوضع الأمني تماماً. الابن أجاد ذوو العشر سنوات وقد ارتدى قميص نادي برشلونة وساعة رقمية حول معصمه، لا يختلف للوهلة الأولى كثيراً عن الأطفال في ألمانيا. يبتسم أجاد بخجل كما لو أنه يطلب أكثر من المطلوب، لكنه يقول بقناعة واضحة، “كل ما أريده هو أن أعيش”.
كريستينا شليك/خ.س