لا جديد على الساحة السياسية، باستثناء ما كان مخفيا أصبح في العلن، بدأتها الأردن والإمارات نيابة عن بعض الدول العربية وفي مقدمتهم دول الخليج، الدول التي أرهبتها بدايات الثورة السورية، وتنفست الصعداء عندما انزلق المجتمع السوري إلى المستنقع الكارثي، وأصبحت صرخته مدوية ترعب شعوب الخليج، وأبقتها على الصمت.
وتأمل الشعوب السورية اليوم، مثلما كانت قبل سنوات الدمار، ألا تكون مسيرة التطبيع الجارية نابعة من الرهبة، والحفاظ على النظام المركزي الإجرامي، والوقوف في وجه احتماليات عودة سوريا إلى الساحة الإقليمية بنظام ديمقراطي، وسلطة لا مركزية قد تكون فيدرالية أو إدارات ذاتية موسعة، والتي ستكون لها تأثيراتها على دول الجوار، وألا يكون دعما لما صرح به السفير الأمريكي السابق في سوريا (روبرت فورد) على أن بشار الأسد سوف يظل في الحكم على الأقل بنصف الفترة الزمنية الدستورية.
تدرك دول التطبيع أن التعامل مع بشار الأسد تضعهم في موقع المشارك في جرائمه، مع ذلك أقدمت عليها، لتضع ليس نهاية للمعارضة التي تستخدمها تركيا لمصالحها، والمنظمات العسكرية التكفيرية، بل لتشويه المفاهيم التي قامت من أجلها الثورة السورية والتي حرفتها عن مسارها المعارضة السياسية والتكفيرية المذكورة. ولا نستبعد أن تكون مسيرة التطبيع محتضنة رسالة روسية لتركيا وقطر لتحجيم نشاطات الائتلاف، مثلما فعلتها مع الإخوان المسلمين المصريين بعد تقاربها مع مصر، فيما لو حصلت على ضمانات لقضيتين:
1- ألا يكون للكورد كيان سياسي في شمال وشمال شرق سوريا.
2- وألا تحدث هجرة نحو أراضيها بعد حل إشكالية المنظمات العسكرية في إدلب، والاحتفاظ بمنطقة عفرين على أمل تحقيق طموحاتها المشابهة لقبرص الشمالية، ولن يكون من السهل التخلي عنها إلا بضغوطات روسية جدية، أو اتفاقيات دولية صارمة.
هذا ما يدرج على الساحة الإعلامية وعند بعض المحللين، يضيفون عليها تصريحات الدول المعنية على أن إبعاد سوريا عن الجامعة العربية أثرت سلباً على الطرفين، إلى درجة شبهها بعض المزاودين بالجسم الذي كان قد أقتطع منه عضو، وأعيدت اللحمة!
في الواقع، الخلفيات السياسية أعمق من الظاهر، وعودة الاعتراف بالنظام المجرم، تتقدمها خوف دول الخليج من المد الشيعي الإيراني، على أمل تحييدها أو التعامل السلمي معها، على خلفية تراجع الدعم الأمريكي أو احتماليات ضعفها، إلى جانب الحفاظ على الأمن الإسرائيلي، والمسيرة تقف وراءها روسيا، ولا تمانعها أمريكا، وعلى الأغلب هناك توافق بين الدولتين، والخلاف بينهما على نوعية النظام القادم، ومدة بقاء الحالي، وقد كانت زيارة نائب رئيس المخابرات المركزية (سي أي أيه) (وليام بيرنز) بذات بالأهمية إلى سوية تجاوز (فلاديمير بوتين) البروتوكولات الشكلية والتحدث معه، حول مستقبل سوريا. وفي نفس الأسبوع عقد اجتماع في جنيف بين مسؤولي أمريكا وروسيا عن الشرق الأوسط، كانت القضية السورية المحور الرئيس في حواراتهما.
هذه الاجتماعات، والتصريحات الأردنية، وزيارة وزير خارجية الإمارات، واحتمالية زيارة وزير خارجية سوريا إلى الإمارات، وما سيتبعها، تبين على أن روسيا وأمريكا، ينتقلان من التفاهمات العسكرية حول وجودهما على الجغرافية السورية، إلى بدايات حوارات سياسية من خلال بعض الدول العربية، والبحث في كيفية تناولها مع ثقل الوجود التركي والإيراني، اللذين أصبحا ينافسانهما في المنطقة، ويفرضان مصالحهما، خاصة وأن إيران بدأت تحصل على الدعم الصيني، بعد الاتفاقية الضخمة معها، والتركي المتحركة على بعدين: التحالف الإسلامي السني من جهة، والدول المتحدثة باللغة التركية من جهة أخرى.
وهنا أصبحت القضية السورية الطعمة المستخدمة لفرض شروطهما على المنطقة، استفادت سلطة بشار الأسد من كل الأطراف، بل خدموها بشكل مباشر وغير مباشر، على خلفية نوعية المعارضة، إلى درجة أن الأردن بدأت تعطي الضمانات لتركيا، بالحد من الهجرة نحو أراضيها، عند تخليها عن المنظمات العسكرية المعارضة في إدلب، ودول الخليج تتحدث عن تقديم المساعدات لمهاجري إدلب وإعمار سوريا، وقد بدأتها الكويت ببناء مستعمرات سكنية في منطقة عفرين الكوردية.
بالمقابل تظهر على أن الولايات المتحدة الأمريكية بعدما سلمت الملف لروسيا، لا تحاول إعادتها باستثناء الحفاظ على منطقة شرق الفرات، وهو ما يتم تأكيده من خلال تصريحات المتحدثين باسم البيت الأبيض ووزارة الخارجية والبنتاغون، تسندها الزيارات العلنية المتكررة للمبعوثين الأمريكيين لمنطقة الإدارة الذاتية، والتي تجدها كافية لتحافظ على مصالحها في المنطقة، ومن ضمنها محاربة داعش وحماية أمن إسرائيل. علينا ألا ننسى أن الإدارة الجديدة تتجنب الوقوع في إشكالية مماثلة لأفغانستان، لئلا تواجه الداخل الأمريكي، وإدراكها؛ أن قوى كبرى منافسة بدأت تظهر وتتربص بكل تحركاتها، وهو ما حدَّ بالرئيس الأمريكي (جو بايدن) بالقول أن حصوله على موافقة الكونغرس بصرف قرابة ترليون ونصف التريليون دولار على البنية التحتية، ستحد من التضخم المتصاعد، وستعيد أمريكا إلى مكانتها، الدولة الكبرى في العالم، وتعني أنها الأن لم تعد كذلك أمام الصين وحتى في مواجهة بعض الدول من الدرجة الثانية. وبالتالي أي خطأ ستكون تبعاتها خطيرة.
لذلك لا يستبعد أن تكون قد بدأت بالمساومة مع روسيا عل مستقبل سوريا، وعليها كانت البصمات الروسية أكثر وضوحا على مسيرة التطبيع الجارية مع نظام الأسد، خاصة وأن سوريا تصنف ضمن القضايا الثانوية بالنسبة لإستراتيجية أمريكا مقابل القضايا الكبرى والملفات الأكثر سخونة، وهي عديدة، بين الناتو وروسيا وبينها وبين الصين، وعلى هذه البنية يتوقع البعض أن تتخلى أمريكا مستقبلا عن العراق وسوريا لتركز على قواعدها في اليونان، لمواجهة روسيا ومن ثم تركيا، وتجد الحفاظ على المنطقة الكوردية في شرق الفرات وفيدرالية كوردستان، كورقتي ضغط تكتيكية، على التجاوزات التركية لاتفاقيات الناتو، ومن هذا المنطق نوه كاتب وسياسي كوردي معروف مقيم في هولير، في إحدى مقالاته، على أن قلق الإقليم الكوردستاني حول خروج أمريكا من المنطقة مشروع، وأن قيادة الإقليم الفيدرالي الكوردستاني تشعر برجحان هذه الاحتمالية، بغض النظر على بنائها في مدينة هولير أكبر قنصلية في العالم تقريبا.
نستبعد وإلى الفترة الزمنية التي حددها (روبرت فورد) لبقاء سلطة بشار الأسد، خروج أمريكا من المنطقتين الكورديتين، ومعظم محاولات روسيا، والضغوطات التركية، هي لغاية رسم مستقبل سوريا كما تتطلب مصالحهما في المنطقة، وقد كان تصريح وزير خارجية روسيا (سيرغي لافروف) حول سلبيات الدعم الأمريكي للإدارة الذاتية، وللكورد، رسالة دبلوماسية لدفع الإدارة الذاتية على قبول عودة النظام بدون شروط، وإحلال جيشه مكان قوات قسد، ومن المرجح أن أحد توجهات التطبيع العربي مشابه للتهديدات التركية الأخيرة في اجتياح المنطقة الكوردية، والتي كانت ستحصل لولا الرفض الأميركي الروسي، وعليه تخللت تصريحات مسؤولي دول التطبيع تأكيدا على وحدة (سوريا العربية) وتعني في بعضها القضية الكوردية في قادم سوريا.
ومن غرائبنا نحن الكورد، كحراك سياسي، نقرأ ونحلل وأحيانا نثمن التقاربات التي تحصل بين أنظمة المنطقة، مهما كانت بشائعها، وعداوتها، كالجارية حاليا، والتي همشت مآسي الشعوب السورية ومسيرة عقد من جرائم النظام، تحت حجة إنقاذ سوريا من كوارثها، ولا نتعلم لغة السياسة، ولا ننتبه إلى جمود مداركنا في هذا البعد، فنستمر على خلافاتنا المدعومة بحجج مقنعة إلى حد كراهية الآخر.
تجاربهم تصبح طوباوية في عالمنا الكوردي، مقابل إبداعاتنا في أساليب إضعاف بعضنا والتي نؤكد على أنها من الضروريات القومية، بغض النظر عن الجهة الأكثر تعنتا، ورافضا للتعامل وقبول الأخر، والتي ستكون ليس فقط الأكثر خسارة، بل مسببة في تقزيم القضية الكوردية بكليتها في سوريا، ولا يستبعد أن تؤدي مسيرة التطبيع مع النظام، إلى تحجيم دور الإدارة الذاتية ضمن سوريا القادمة، مثلما سينتهي دور المجلس الوطني الكوردي مع انتهاء دور الائتلاف، والتي لم ترى ذاتها في الأبعاد الدولية إلا من خلالها، فكل المؤشرات تبين وجود مخططات لتهميشهما، بشكل منفرد، أو حتى إلغائهما من مخططات قادم سوريا.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
13/11/2021م