جثة مهاجر سوري شاب على الحدود البولندية البيلاروسية. ولا يوجد حتى الآن حل سياسي لإنقاذ آلاف المهاجرين على الحدود وخاصة مع اقتراب فصل الشتاء. والمنظمات الإنسانية عاجزة والحرب الدعائية ضد المهاجرين مشتعلة.
كان يبلغ من العمر 19 عاماً فقط ودُفن في صمت في ليلة الاثنين/ الثلاثاء الماضية (16 تشرين الثاني/نوفمبر 2021) في قرية بوهونيكي الصغيرة، بالقرب من المعبر الحدودي البولندي في كوزنيكا. المكان الذي وجد فيه المهاجر السوري أحمد الحسن راحته الأخيرة هو منطقة مثيرة تاريخياً: ففيها استقر التتار المسلمون في القرن السابع عشر. لا يزال هناك عدد قليل منهم يعيشون هناك اليوم، لكن المجتمع الصغير شعر بأنه مضطر لدفن أحمد الحسن كواحد منهم.
قال رئيس البلدية ماسيج شيزنوفيتش: “كان رجلاً ومسلماً ولا يزال شاباً”، وكان لابد من دفنه “بشكل لائق”. الآن يقع قبره في نهاية مقبرة المسلمين في قرية بوهونيكي، وعلى بعد آلاف الكيلومترات من مسقط رأسه في حمص السورية، والتي دمرت في الحرب الأهلية. ومنطقة المقبرة عبارة عن ساحة منعزلة، تطل على شارع من خشب البتولا وغابة شبيهة بتلك التي فقد فيها أحمد حياته.
مأساة”
كان الشاب السوري قد غادر مخيماً للاجئين في الأردن لأنه، مثل كثيرين آخرين، قد قرأ على وسائل التواصل الاجتماعي أن هناك طريقة سهلة للوصول إلى الاتحاد الأوروبي عبر العاصمة البيلاروسية مينسك. أراد أن يواصل تعليمه في الاتحاد الأوروبي ليحظى بفرصة في الحياة. نشرت حكومة لوكاشينكو هذه المعلومات المضللة بشكل منهجي، وكانت النتائج معروفة الآن: انطلق الآلاف إلى بيلاروسيا، معظمهم من المناطق الكردية في العراق ومن سوريا وأفغانستان.
وتوفي أحمد الحسن مع مهاجر كردي عراقي في أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي عندما حاول الشابان عبور الحدود الجليدية لنهر بوج. لا يمكن التحقق مما إذا كان حرس الحدود البيلاروسي قد قادهما إلى هذه النقطة على الحدود. لكن العديد من التقارير تشير إلى أن الجيش يحاول مراراً وتكراراً إجبار المهاجرين على عبور السياج والمناطق الحراجية والمستنقعات على طول الحدود مع بولندا البالغ طولها 400 كيلومتر.
في مسجد بوهونيكي الصغير ، تلا المصلين بعض الصلوات على أحمد في تلك الليلة ثم شيعوا جنازته إلى مثواها الأخير. يوجينيا هي سيدة مسلمة وتسكن في القرية وهي يائسة من وضع المهاجرين على الحدود الذين يتشارك أغلبهم معها نفس الدين: “إنه لأمر فظيع أن نشاهده، الجو بارد، إنهم يتجمدون حتى الموت هناك، إنها مأساة. بالنسبة لعقلي البسيط، إنه وضع مأساوي، لا أفهم كيف للمرء بأن يسمح بحدوث شيء كهذا”.
تحت سماء ملبّدة بالغيوم، وسط الحقول وأحراج شجر البتولا، دفن رجال من الأقلية المسلمة في بلدة بوهونيكي البولندية الأحد مهاجرًا يمنيًا يبلغ 37 عامًا توفي جراء البرد والإرهاق أثناء محاولته الدخول إلى الاتحاد الأوروبي من بيلاروس.
بعد صلاة جنازة في مسجد قديم مبنيّ من الخشب في هذه البلدة الواقعة على بعد حوالى عشرة كيلومترات من الحدود البولندية البيلاروسية، حمل الرجال النعش حتى المقبرة الواقعة على منحدر تكسوه أشجار الصنوبر.
دُفن مصطفى مرشد الريمي بحضور شقيقه والسفير اليمني لدى بولندا. وحُفر قبره إلى جانب قبور ضحايا آخرين لأزمة الهجرة الأخيرة.
يؤكد ريشارد موزدابايف، المتحدّر من شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي فرّ منها قبل ثماني سنوات، لوكالة فرانس برس أن الجنازة هي “تعبير عن احترامنا وتضامننا مع هذا الرجل الذي توفي في ظروف فظيعة”.
يرافق موزدابايف الذي يقطن مدينة بياليستوك الكبيرة على مسافة حوالى خمسين كلم من بوهونيكي، أصدقاءٌ له متحدرون من القرم والشيشان كانوا أيضًا مهاجرين.
يبلغ عدد المسلمين في تلك المنطقة الحدودية البولندية ما يقارب ثلاثمئة أو أكثر بقليل، معظمهم من التتار الذين استوطنوا هناك في القرن الرابع عشر. وتعهّدت المجموعة المسلمة الصغيرة تنظيم “مراسم جنازات كريمة” لمن يقضون أثناء محاولتهم الدخول إلى الاتحاد الأوروبي.
ويقول زعيم هذه الأقلية المسلمة في بوهونيكي ماتشي شتيسنوفتش، “أخشى أن تُجرى قريبًا مراسم دفن أخرى”.
ومنذ بدء أزمة المهاجرين، عملت الجماعة المسلمة الصغيرة في بوهونيكي على مساعدة عدد من العالقين في الغابات الحدودية، وقدّمت لهم ما قد يسدّ حاجتهم من طعام وشراب ولباس.
وتطوّع أفراد هذه الأقليّة الصغيرة لمساعدة القوات التي أرسلتها بولندا لضبط الحدود، لا سيما عبر تقديم الطعام الساخن لهم يومياً.
وبحسب وسائل إعلام بولندية، قضى 11 مهاجراً على الأقلّ منذ بدء أزمة المهاجرين هذا الصيف. وهذا الأسبوع بدأت بيلاروس إخلاء مخيّم يقطنه آلاف الرجال والنساء والأطفال معظمهم من الشرق الأوسط.
إلا أن جهاز حرس الحدود البولندي لا يزال يبلّغ عن محاولات جديدة للعبور.
ويتّهم الغرب بيلاروس بافتعال الأزمة عبر استقدام مهاجرين إلى حدود الاتحاد الأوروبي، انتقاماً من العقوبات الغربية التي فُرضت على النظام البيلاروسي بعد قمعه حركة معارضة.
وما إن يصل المهاجرون إلى الحدود حتى يجدوا أنفسهم عالقين بين بولندا التي ترفض إدخالهم وقوات الأمن البيلاروسية التي تمنعهم من العودة أدراجهم.
وأعلنت وزارة الخارجية اليمنية السبت أنها تعمل على إعادة مواطنين عالقين على الحدود، هم ثمانية في بيلاروس وتسعة في الجانب البولندي. (AFP)
متطوعون عاجزون
هناك الكثير من الاستعداد الصامت للمساعدة من قبل سكان المنطقة الحدودية. كما هو الحال في بوهونيكي. ويتم جمع الملابس الشتوية والطعام في كل مكان. لكن لا يوجد سوى بضع عشرات من المساعدين من المنظمات غير الحكومية البولندية الذين يعملون بشكل غير علني في المنطقة. إنهم لا يجرؤون على دخول المنطقة الحدودية المغلقة، لأن من يقع في أيدي شرطة الحدود هناك سيتم القبض عليه على الفور. في العمليات الليلية السرية، لا يهتمون إلا بالمهاجرين الذين يمكنهم إرسال إحداثيات مكان وجودهم عبر الهاتف المحمول، والذين هم بالفعل على بعد كيلومترات من الحدود.
“أول شيء يفعله حرس الحدود هو أخذ الهواتف المحمولة بعيداً عن المهاجرين”، كما تقول أغاتا كولودزيج من منظمة المعونة “أوكاليني”. إنها متعبة ومحبطة من عملها لأن السلطات تبذل كل ما في وسعها لوضع العراقيل في طريقها. “إنه أمر عاطفي للغاية” لأنهم يواجهون باستمرار حقيقة أنهم لا يمكنهم تحقيق إلا القليل.
عمليات الصد غير القانونية
“أحياناً نعتني بأشخاص في الغابة ليلاً، وعندما يقبض عليهم لاحقاً حرس الحدود، يتم إبعادهم على الفور إلى الجانب البيلاروسي من الحدود. نلتقي بلاجئين تعرضوا لما يصل إلى ست أو سبع عمليات صد من هذا القبيل ومازالوا يواصلون المحاولة”.
لقد شاهدت أغاتا بالفعل امرأة تبكي مع أطفال صغار من بولندا يتم نقلهم إلى الغابة في الجانب البيلاروسي. لم يردع حرس الحدود إرجاع مريض قلب أحضره المتطوعون إلى المستشفى المحلي. “في الليلة التالية تلقينا رسالة هاتف محمول منه من الجانب الآخر” من الحدود، حسب أغاتا. وضاعت الجهود التي بذلوها من أجله عبثا.
وشددت أغاتا على أن “كل عمليات الصد هذه غير قانونية بموجب القانون الدولي وقانون الاتحاد الأوروبي”، لكن الحكومة في وارسو اصدرت مؤخراً لائحة زعمت أن عمليات الصد هذه شرعية.
والاتحاد الأوروبي لن يهتم بانتهاك القانون عشرات المرات يومياً على هذه الحدود. في ليلة الاثنين/الثلاثاء (16 تشرين الثاني/نوفمبر 2021)، أبلغت شرطة الحدود البولندية عن حوالي 200 محاولة من قبل مهاجرين لعبور الحدود و29 ما يسمى بعملية “إبعاد من الأراضي البولندية”.
حرب دعائية ضد المهاجرين
في وسائل الإعلام البولندية، يتم تصوير المهاجرين على أنهم تهديد للأمن القومي، وأنهم غير قانونيين ومنتهكين للحدود ولاجئين لأسباب اقتصادية، وهم في أوروبا في المكان الخاطئ.
وتحدثت المحطة التلفزيونية البولندية العامة تي في بي الثلاثاء عن: “صور مروعة لمخيم اللاجئين الفقير على الحدود، حيث يستخدم المهاجرون أطفالهم لممارسة الضغط على بولندا. إنهم يتنفسون دخان السجائر في وجوه الأطفال لجعلهم يبكون”.
وكتبت صحيفة “غازيتا بولسكا”: “منظمات الإغاثة على الحدود هي سلاح هجين يستخدمه بوتين. وهي تستخدم ضد بولندا وتضر بأمن البلاد من خلال عرقلتها بناء السياج”. وأعلنت الحكومة في وارسو للتو أنها ستبدأ بناء 180 كيلومتراً من السياج الحدودي مع بيلاروسيا في ديسمبر القادم.
أو كما كتب كريستوف بوساك من حزب “كونفيدريشيا” اليميني المتطرف: “لن أعطي المهاجرين أغطية دافئة، رأيت شقيقين يضربان والدتهما في حضور طبيب”. إنك تتعامل مع أشخاص معاديين، لا يأتون إلى أوروبا لأنهم يتعرضون للاضطهاد في بلدانهم، بل لأنهم يريدون الذهاب إلى ألمانيا”.
انقسام الرأي العام في بولندا
في الصحافة اليمينية في بولندا، يتم تصوير المهاجرين على الحدود باستمرار ليس على أنهم أشخاص بحاجة إلى مساعدة، ولكن على أنهم غرباء مثيري شغب. وتبذل الحكومة في وارسو كل ما في وسعها لتعزيز هذه الصورة، ومن ناحية أخرى، تمدح “شرطة الحدود الأبطال” الذين يبذلون قصارى جهدهم في البرد القارس من أجل الوطن.
من ناحية أخرى، يبدو الرأي العام في بولندا منقسماً بشكل غريب. إذ أظهر استطلاع حديث أنه وعلى الرغم من أن أكثر من 50 في المائة من الذين شملهم الاستطلاع يعتبرون أن عمليات الإعادة هي الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله، لكن يعتقد أكثر من 60 في المائة من البولنديين أنه يجب أن يحق للمهاجرين الحصول على إجراءات لتقديم اللجوء.
وقال مارتن دوما، رئيس معهد إيبريس للاستطلاع: “نريد أن يكون لدينا عذر وألا ننظر إلى أنفسنا على أننا قساة وأشرار”.