سياسة تركيا الحالية ومحاولاتها الخروج إلى العالم الخارجي التجاري والرأسمالي كدولة عظمى، كانت تستند بشكل رئيس على تلك المساعدات وعقود الشركات الرأسمالية العالمية، والعقود الطويلة الأجل فعملية تراجعها بطيئة وستأخذ وقتا، لربما تتمكن حكومة أردوغان من إنقاذها، بعلاقات دولية جديدة، كما فعلتها مع روسيا، وربما مستقبلا مع الصين، والدول المتحدثة بالتركية، ودول أفريقية، وما يتم الآن بين تركيا والإمارات العربية كخطوة لإنقاذ الاقتصاد قبل إيقاف التضخم، وتجميد سعر الليرة، يقال على أن المبادرة إماراتية من باب تقديم الخدمات ومساعدة الدول الإسلامية، لكن في الواقع هو طلب تركي واضح. وقد تمكن أردوغان حتى الأن من إيجاد جزء من البدائل، فقد حصلت على 6 مليار دولار من الصين، و15 مليار دولار من قطر، و2 مليار دولار كوريا الجنوبية، وعشر مليار دولار من الإمارات العربية، أي ما مجموعه 33 مليار دولار لكنها دون نسبة 15% مما كانت تحصل عليه من علاقاتها السابقة، وتأثيراتها دون مستوى إيقاف انهيار العملة المتأثرة في بعضه بتوقف المساعدات الأولى، لكنها قد تساهم في تهدئة رهاب المجتمع التركي.
كما وأن الحفاظ على الاقتصاد الداخلي، أو عدم انهيارها، ستظل متأثرة أيضا بمدى ديمومة المساعدات الخارجية المذكورة سابقاً، أم المساعدات الأخيرة وخاصة بعد زيارة أمير الإمارات مع الضجة الإعلامية المرافقة قد تخفض بشكل مؤقت الليرة أو توقف تدهورها، لكن لن تنقذها، ولن تساهم في أيقاف التضخم.
وما يطمح إليه أردوغان، في عمليته (حرب الاستقلال الاقتصادي) ليس فقط التخلص من إملاءات الدول الداعمة، بل مواجهة الشركات الرأسمالية العالمية والتي بدأت توقف دعمها، ولا تجدد العقود، وتجمد التمويل، وما يجري في تركيا هي ردة فعل على الحرب المعلنة، ومحاولات لإنقاذ الاقتصاد قبل سعر الليرة وتفاقم التضخم. وغايته من التخفيض المستمر لسعر الفائدة، هي لأجل ما ذكرناه، بل والحفاظ على ديمومة التطور الاقتصادي، وعدم انهيار الشركات الوطنية، واستمرارية الاتفاقيات التجارية الطويلة الأمد وخاصة عقود التصدير، وتعويض ما ستخسره مع تلك الشركات بإحلال العديد من المخططات الاقتصادية والاستثمارات المتنوعة. وهي عمليات معقدة متشابكة ما بين الشركات الكبرى المؤثرة على الاقتصاد الوطني، والبنك المركزي، والتي نتائجها السلبية أو الإيجابية سريعة الظهور بالنسبة للمستهلك والشارع التركي، بعكس الأولى والتي تحتاج إلى سنوات.
فتخفيض سعر الفائدة، والذي وصفه بعض المحللين الاقتصاديين بأنه خطأ سياسي خطير، والذي رد عليهم أردوغان وبقوة، مدافعا عن خطته، في مؤتمر صحفي يوم الإثنين الماضي، قائلا “أن تشديد السياسة النقدية
لن يخفض التضخم” وأضاف بعدها بيوم ” أرفض السياسات التي تؤدي إلى انكماش بلادنا وتضعفها وتحكم على شعبنا بالبطالة والجوع والفقر” وفي الواقع ومن البعد الاقتصادي، ربما يحق له قول ذلك، لأن رفع سعر الفائدة تعتبر كارثية للشركات الوطنية أو الدولية المتعاملة مع الشركات التركية، علما أنها مشجعة للعامة لأنها مربحة للادخار المالي، وخاصة عندما تكون بالعملة الصعبة في المرحلة الحالية.
ولكن ما يحدث في الفترة الأخيرة وحيث تلاطم السوق، المؤدية إلى تفاقم حالة عدم الثقة بين المواطنين، رغم أن دعم البنك المركزي للبنوك الوطنية، والشركات الرأسمالية ساندت الاقتصاد بعدم الهبوط أو الانهيار، وهو ما أدى حتى الأن الحفاظ على نسبة الزيادة السنوية للاقتصاد بقرابة 2%، كما يقال، علما أن اقتصاديات معظم الدول العالمية بعد جائحة كورونا كانت ولا تزال في تراجع، باستثناء الصين المدعية على أن نسبة التطور تقترب من الـ 4% في الوقت التي كانت تتجاوز 12% على مدى أكثر من عقدين من الزمن وهي حالة نادرة في العالم، بدأتها الهند في العقد الأخير.
ويؤمل أردوغان من تخفيض نسبة الفائدة، ويصر على الأكثر، رغم المعارضة الشديدة، والتحليلات المتناقضة، التقليل من نسبة البطالة، والحفاظ على تزايد التطور الاقتصادي السنوي، مركزا استثمار الأموال المقدمة من البنوك بشكل مناسب ضمن الوطن، على حساب المستهلك اليومي. علما أن احتياطي البنك المركزي من العملة الصعبة ارتفعت من قرابة 28 مليار دولار في العقد الماضي، إلى 127 مليار 2020م وبإمكانه أنزال كمية إلى السوق للحد من تدهور الليرة، لكن الخوف من أن قوة الشراء لدى الشعب والرأسماليين خاصة، مع فوضى الثقة بالليرة والتضخم، وسياسة الحكومة الاقتصادية الخارجية قبل الداخلية، قد يؤدي إلى نضوب العملة من السوق بفترة زمنية أقل من فترة تهدئة رهبة المجتمع، فيتصاعد عدم الثقة بالليرة، وبالتالي إلى تدهور أسرع وأعمق، وقد حدث مثل هذا في لبنان قبل سنتين، لذا فأردوغان يرفض هذا الحل الآني، ويعتمد على الحلول الطويلة والراسخة، كالحفاظ على ديمومة التطور الاقتصادي، والتصدير.
علما أن التخفيض يخلق تناقضا ما بين المستثمر والبنك، بعكس الرأسمالي المستفيد، منها، والخاسر نسبة عالية من أرباحه لحساب البنوك القارضة، في كل عملية رفع لسعر الفائدة، والتي كانت قد بلغت قبل سنة تقريبا 20%، وعليه قام البنك المركزي وبضغط من أردوغان، بتخفيض النسبة ولعدة مرات، إلى أن بلغت 15% في الخميس الماضي، علما أنها أقل من نسبة التضخم في الأسعار والمقدرة بـ 20% لذلك يعمل على تخفيضها ثانية (المستوى المقبول للتضخم السنوي في الدول المستقرة يتراوح عادة بين 2-3%). وكمقارنة بما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية وحيث نسبة التضخم في الوقت الحالي قرابة 6 % مع ذلك قامت إدارة بايدن بعملية دعم قدرت بترليون ونصف التريليون دولار، منها للحد من التضخم، كما وخفض البنك المركزي سعر الفائدة من 1 % في أذار الماضي إلى 0% ومن ثم أعادتها إلى قرابة النصف % يتوقع أن ترتفع إلى أقل من 1% في السنة القادمة، فهي كدولة ذات نظام إمبريالي تدرج في منهجيتها دعم الشركات كدعم للمواطنين، لا شك أن البنوك تضيف نسبة على قروضها كأرباح، فتصل في الحالة المديونية الجيدة إلى قرابة 4 % في أصول المباني أو المركبات، وإلى قرابة 7 % للقروض الكبرى، وهذه لا علاقة لها بأسعار الفائدة للبطاقات الائتمانية، التي يستخدمها المواطنون، والمتعلقة بمديونية الفرد، والمتأرجحة ما بين صفر لمدة سنة إلى 23% وهذه نادرة، المعدل الوسطي قرابة 7%.
تواجه تركيا اليوم أزمة بوجهين، آنية وبعيدة المدى، الأولى تؤثر بشكل مباشر على الشارع التركي، وحركة الاستيراد، وعليه لا نستبعد أن يتصاعد نهوض الشعب ضد حكومة أردوغان، تستفيد منها المعارضة، وذلك على خلفية انهيار العملة الكارثي، والتضخم المرعب في أسعار السوق، وكساد المنتوجات الاستهلاكية، وفي تراجع قطاع المباني والمنشآت. والثانية، فيما لو لم يتمكن حكومة أردوغان من إنقاذها بخطط اقتصادية-سياسية، قد تؤثر على مكانة تركيا في العالم الاقتصادي ومركزها بين الدول العشرين الأولى في العالم، وبالتالي قد تتضرر تجارتها الخارجية، وتتراجع صادراتها، أي عمليا ستتجه تركيا اقتصاديا نحو نفق مظلم، وسياسيا قد تنتقل إلى أبعاد الدكتاتورية أو بداية نهاية حزب العدالة والتنمية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
23/11/2021م