العمامة ليست حصرا على طائفة من المسلمين دون سواها، وعليه فأنّ رجل الدين سيدخل في باب إحتكار الدين والذي هو مخالف لروح الدين الإسلامي إن إدّعى تمثيله للإسلام بعمّته التي يعتمرها فقط دون غيرها. أمّا رجل الدين الذي يخوض غمار العمل السياسي، فأنّه سيدخل في باب الطائفية إن إدّعى أن عمامته هي من تمثل الوطن متعدد القوميات والأديان والمذاهب دون غيرها. ومن هنا فأنّ العمامة الشيعية بأي بلد ليس من حقّها إدعاء تمثيلها لجميع المسلمين سواء في بلدها أو غيره، كما ولا تستطيع العمامة السنّية أن تعلن إدّعائها هذا وبنفس القدر. ومن خلال الصدام المستمر بين العمامتين بعد نشوء المذاهب المختلفة فقهيا، والعودة منهما دوما لأول خلاف سياسي نشب حال وفاة محمد والذي جرت وقائعه في سقيفة بني ساعدة، فأنّ العمامتين ساهمتا مساهمة فعّالة في الكوارث التي عانى منها المسلمون منذ قرون.
كمدخل للمقالة نرى العودة للمعاجم العربية لمعرفة معنى الهلاك لغويّا، فالهلاك في اللغة يعني الموت، ومن معانيه الأخرى دَرَسَ وتَعِسَ وشَقِيَ وحَزِنَ وتَلِفَ وفَسَدَ. ومن أضداده بَقِيَ وخَلُصَ و دامَ وسَلِمَ وعاشَ وقامَ ونَجَا. وعليه فأن رجل دين كهمام حمودي عارف وهو يصرح قائلا ( لولا العمامة لهلك العراق) بمعنى الهلاك من الناحية اللغوية بشكل جيد، كون العلوم العربية كالنحو والصرف والبلاغة تُدرّس في مرحلة المقدمات بالحوزة الدينية . ولأنّ الشيخ يعرف معنى الهلاك لغويّا، فأنّه يعرف معناه وهو يخوض غمار العمل السياسي بشكله الحقيقي من حيث “البناء” والهدم الذي حلّ بالوطن منذ أن وصل الشيخ ومعه بقية العمائم للسلطة، أمّا كرجال دين أو ساسة ينهلون من فكر المؤسسة الدينية.
لم تكن للعمامة وعلى الأقل الشيعية منها دورا محوريا أو محسوسا في الحياة السياسيّة بالعراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وحتى الإحتلال الأمريكي للبلد، وقد إقتصر دورهما (العمامتين) على الوعظ وإقامة الشعائر الدينية ( الطائفيّة). الا أنّهما ساهمتا ولعدم وجود أحزاب سياسية وقتها وبالتعاون مع العشائر العراقية، في ثورة العشرين التي نتج عنها تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وذلك بعد أن تأثّرت العمامة الشيعية منها بثورة المشروطة في إيران، فيما كانت السنّية تتبع أوامر الأستانة وتدافع عنها بوجه الإحتلال البريطاني. وبقيت العمامة دون نشاط سياسي ذو وزن حتّى فتوى محسن الحكيم والتي كانت سبب في إبادة الآلاف من خيرة بنات وأبناء العراق، تلك الفتوى التي شيّعت ثورة الرابع عشر من تموز الى مثواها الأخير، وليدخل العراق وقتها ولليوم نفق مظلم ومرعب. ومن الضروري هنا التأكيد على أنّ العمامة لم تساهم كلها بشكل إيجابي في الأحداث التي مرّت بالعراق، بل كان منها من ساهم بشكل سلبي وهو يحث جمهور العشائر على عدم مقاتلة الأنكليز، كعمامة الشيخ عبد الكريم الجزائري مثلا وهي تطالب الثوار بالهدنة مع الانكليز اثناء مؤتمر الكوفة فخاطب الثوار قائلا: (الحكومة لاتريد الا الخير، وليس لها قصد سيء معكم، فلا داعي لكلامك هذا، وأنتم لا قدرة لكم على مقابلة الحكومة البريطانية).”1″
نتيجة لعلمانية الدولة العراقية لم تكن للعمامة دورا في السلطة طيلة تأريخ العراق الحديث كما ذكرنا قبل قليل، الا أنّ الوضع تغيّر بعد الإحتلال الأمريكي للبلد. وأصبحت للعمامة والشيعية منها على الأخص ونتيجة لتوجيهات وعمل دؤوب من إيران حتى قبل الإحتلال من جهة، ولقمع البعث ” نظام سني” لأنتفاضة شعبنا الآذارية وضربه المدن الشيعية المقدسة بالصواريخ وإستباحتها وتغييب عشرات الآلاف منهم في مقابر جماعية من جهة أخرى، وكرد فعل من قبل جمهور الشيعة لمعاناتهم الطويلة دور كبيرا ليس في الحياة السياسية فقط، بل والإجتماعية والأقتصادية أيضا. فهل هذه العمامة ساهمت بأنقاذ البلد من الهلاك كما قال الشيخ ( همام حمودي) في حديث متلفز له؟
إستند الشيخ حمودي في تصريحه هذا وهو يعني به عمامة السيستاني الى فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها الرجل لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي دون أن يسأل هذا الشيخ نفسه عن، من الذي سلّم ثلث مساحة البلد الى هذا التنظيم المتوحش والذي كان أحد ضحاياه هم ضحايا مجزرة سبايكر؟ والسؤال الأهم هو إن كان الشيخ قد قال بنفسه بعد إنفجار كدس عتاد في مدينة الثورة والذي ذهب العشرات من الأبرياء الآمنين ضحايا له ” أنّ المخدرات والفساد الأخلاقي وخزن المتفجرات داخل المدن هي الوجه الآخر لداعش”، فلم لا تفتي العمامة الكبيرة حسب وصف الشيخ بشكل من أشكال الجهاد ضد إنتشار المخدرات وضد الفساد الاخلاقي وتجارة البشر وتجارة الأعضاء؟ ولم لا تفتي بالجهاد ضد الفساد الذي هو بالحقيقة أقوى تأثيرا من داعش على المجتمع والأقتصاد والدولة برمتها؟
من أضداد الهلاك كما جاء في المعاجم العربية والتي جئنا على ذكربعضها أعلاه هو، النجاة والأستقرار والحياة. وهنا علينا أن نحاور الشيخ قليلا حول ما يعنيه من أن ” العمامة كانت سببا في عدم هلاك العراق” من خلال بحثنا عن نجاة البلد من الفساد الذي وصل الى كل مرفق من مرافق البلد، ومنها المؤسسة الدينية. فها هي العتبات المقدسة تمتلك إمبراطوريات مالية تأتي واردتها من تجارتها بكل ما يتعلق بغذاء شعبنا، فشركات الكفيل تحتكر أسواق العراق وخصوصا الشيعية منها، ولم تقتصر هذه المؤسسة على التجارة بل تدخلت بالشأن الصحي حيث تمتلك مستشفيات الكفيل التي لا يدخلها الفقراء والمعوزين لعدم إمتلاك أموال كافية للعلاج فيها، وغيرها الكثير. فهل إحتكار تجارة المواد الغذائية تحت مسمى يدغدغ مشاعر المؤمنين البسطاء والتربح منه، والإستفادة من القوانين التي تحد من منافسة شركات أخرى لها، فساد أم لا، وإن كان فسادا فلم لا يفتي السيستاني بجهاد ضدها وهي في عقر داره!؟
كيف منع السيستاني هدم العراق، ولا يوجد في البلد مرفق واحد يعج بالحياة؟ فالتعليم منحط والمستشفيات دكّات موتى والأرض بور والمياة قاتلة والمصانع والمزارع أصبحتا أثرا بعد عين. لم يصل العراق طيلة عهده الحديث الى الدرك الذي عليه اليوم تحت سلطة العمامة، فالأخلاق شاذّة، والدعارة نتيجة الترمل والفقر تملأ جنبات البلد، وآلاف العوائل تعتاش على المزابل، والشباب عاطل عن العمل، والأطفال يملؤون شوارع المدن والبلدات ليتعرضوا لمختلف أشكال التحرش والأنحراف. ومن هذه المدن النجف الأشرف نفسها حيث تعيش العمامة الكبيرة، فليخرج صاحبها ليرى بأم عينيه كل هذه الجرائم عسى أن يتحرك ضميره الديني ويعلن الجهاد الكفائي ضد سلطة الخضراء والتي العمامة ومنها عمامة الشيخ حمودي إحداها.
الشيخ (همام حمودي)، من أقوال الأنبياء التي ذهبت مذهب الأمثال حديث محمد وهو يقول: إذا لم تستحي فأصنع ما شئت، كما ويقول الإمام علي: من لم يستحي من الناس، لم يستحي من الله سبحانه. ووالله أنّ من يرى كل هذا الدمار في بلده ويعتبر البلد غير هالك، لا يستحي وفق حديث محمد، ومن لا يستحي من ” شعبه” لا يستحي من الله كما يقول الامام علي فتراه يسرق ويزني ويفسد في الأرض. كما وأنّ الجهاد ليس واجبا على العامّة دون الخاصّة ومنهم أنت أيها الشيخ، فمن المفروض وأنتم تستنهضون همم الناس لقتال داعش أن تكونوا ومعكم باقي العمائم في مقدمة المعارك وليس في خزائن البنوك أو في مناطق آمنة لا يدخلها المواطن كالمنطقة الخضراء، أو التنقل بسيارات مصفحة. وهذا ما حاولت مجموعة من ثوار ثورة العشرين تذكير العمائم بها حينما بعثوا برسالة لهم تدعوهم لمشاركتهم القتال، فكتبوا لهم قائلين: (بلغوا حجج الإسلام، القرآن والمواعظ تلوناها وبرقياتكم إلى العشائر نشرناها فلا ينفع ذلك إلا الإقدام بأنفسكم، الأقوال بلا أفعال تذبح الإسلام ولا نعلم إن الجهاد واجب على العامي ولا يجب عليكم المعلوم قدومكم يهيج الإسلام، فالله الله في حفظنا “2”.
لتبدأ العمامة الكبيرة بأهلها المقربون من أولاد وأحفاد، ومعهم أنت ايها الشيخ وباقي العمائم في محاربة الفساد بفتوى، فالفساد آفة أشد فتكا من الإرهاب، اللهم الا إذا كنتم أنفسكم فاسدون، وهذا مما لا شك فيه ونحن نرى بلدنا يسير بخطى متسارعة نحو الإنحطاط وأنتم على رأس السلطة فيه. إن كانت العمامة السنّية قد إستقدمت الإرهاب، فأنتم لاتفرقون عنها بشيء سوى بنشركم للتخلف والجهل والشعوذة مناصفة معهم. إنّ قوانين العشيرة وهي تتحكم بمفاصل المجتمع لدليل على فساد العمامة والساسة الذي في فلكها ودورها في تخريب الدولة والمجتمع. ويبدو أنّ الحل الأمثل لإنقاذ البلد من الهلاك هو برحيل العمامة الى مكانها الصحيح بعيدا عن السياسة ودهاليزها.
لا أملك وأنا أنهي هذه المقالة الا الإعتذار للشاعر المبدع (خلدون جاويد) لأقول:
عمائكم يا همام لا تطاق .. جرب أصيب به العراق
إِنَّ هَلَاكَ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ سُفَهَاءَ مِنْ قُرَيْشٍ (حديث).
لا يسعني وأنا أقرأ هذا الحديث الا قول: إنَّ هَلَاكَ العراق عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ سُفَهَاءَ مِنْ المعممين.
1-لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث لعلي الوردي ، ج 5 القسم الاول ، ص 251
2-. عبد الحليم الرهيمي، تاريخ الحركة الإسلامية في العراق (1900 – 1924)، ص 164 .
زكي رضا
الدنمارك